في أوروبا ارتفعت أسعار الطاقة ما انعكس سلباً على أكلاف الإنتاج وشهدنا موجة إقفال للمصانع. وبالتوازي، تخطّط أميركا لاستعادة الصناعة إلى أراضيها ما قد يمثّل فرصة لإغراء الصناعات الأوروبية بالانتقال إلى أميركا والاستفادة من أسعار الطاقة الرخيصة. هذا الوضع سيترك تداعيات واسعة على القدرات الإنتاجية والتنافسية في أوروبا فضلاً عن انعكاسه السلبي على الميزان التجاري. برأيك هل لدى الدول الأوروبية القدرة والموارد اللازمة لمنع الاستثمارات الصناعية من الهروب، وما هي تداعيات ذلك على موقع أوروبا في النظام الاقتصادي العالمي باعتبارها جزءاً من المركز الرأسمالي؟- القادة السياسيون الأوروبيون غير مستعدين لمقاومة مطالب الولايات المتحدة. كل ما يمكنهم فعله هو الشكوى من سوء معاملتها لهم. أدّى ذلك إلى انقسام بين رجال الأعمال الألمان، وغيرهم من رجال الأعمال الأوروبيين والأحزاب السياسية الأوروبية. فعلى سبيل المثال، يجب أن ننظر إلى المقال المنشور في مجلة بوليتيكو في 24 تشرين الثاني 2022 بعنوان «أوروبا تتّهم الولايات المتحدة بالربح من الحرب»:
«الإعانات والضرائب "الخضراء" لبايدن، والتي تقول بروكسل إنها تحوّل التجارة بشكل غير عادل بعيداً عن الاتحاد الأوروبي وتهدّد بتدمير الصناعات الأوروبية. فرغم الاعتراضات الرسمية من جانب أوروبا، لم تُظهر واشنطن حتى الآن، أي علامة على التراجع... السعر الذي يدفعه الأوروبيون أعلى بأربعة أضعاف من كلفة نفس أنواع الوقود في أميركا. ثم هناك زيادة محتملة في الطلبات على المعدّات العسكرية الأميركية الصنع حيث أصبحت الجيوش الأوروبية بحاجة إلى العتاد بعد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا».


لكن حتى الشركات والمؤسّسات الأوروبية خضعت، وهي الآن تخطّط للانتقال إلى الولايات المتحدة لتصبح شركات أميركية:
«تخطط الشركات لاستثمارات جديدة في الولايات المتحدة أو حتى نقل أعمالها الحالية بعيداً عن أوروبا إلى المصانع الأميركية. هذا الأسبوع، أعلنت شركة سولفاي الكيميائية متعددة الجنسيات أنها ستختار الولايات المتحدة على أوروبا لاستثمارات جديدة».
للاطلاع على سيناريو تراجع عدد السكان وتراجع الصناعة في أوروبا، يمكن مراجعة الهجرة الجماعية للأشخاص من لاتفيا وإستونيا وليتوانيا منذ عام 1991. البديل هو الانتقال إلى روسيا أو الصين، التي تنتج الطاقة - وكذلك الأسلحة - بكلفة أقل بكثير من الولايات المتحدة.
تكمن المشكلة في أن دول أوروبا لا يمكنها الانسحاب من الناتو من دون حلّ الاتحاد الأوروبي الذي يلتزم بالسياسة العسكرية لحلف الناتو، وبالتالي يستنزف ميزان المدفوعات بشكل هائل لشراء أسلحة أميركية باهظة الثمن، بالإضافة إلى ضروريات أخرى. إذا كان السؤال هو إلى متى يمكن لألمانيا وأوروبا تفضيل الولاء السياسي والعسكري للولايات المتحدة على ازدهارهما الاقتصادي وتحسين وضع التوظيف، فإن إجابة حزب الخضر هي أن «العلاج بالصدمة» سيساعد في جعل أوروبا أكثر «خضرة».
للوهلة الأولى يبدو هذا الأمر صحيحاً، إذ يتم إغلاق الصناعات الثقيلة. لكن يبدو أن وقود المستقبل لأوروبا هو الفحم وقَطع غاباتها.

يتّبع الاحتياطي الفدرالي الأميركي سياسات تؤدي إلى نتائج داخلية وخارجية؛ داخلياً، إذا كان مصدر التضخّم هو العرض وليس الطلب، فما الغاية من رفع معدلات الفائدة، ولا سيما أن الفيدرالي الأميركي مدرك، كما ورد على لسان العديد من مسؤوليه، بأن إجراءاته ستؤدّي إلى ركود اقتصادي. فلماذا الإصرار على إجراءات كهذه رغم أنها لم تنقذ الاقتصاد الأميركي من الانزلاق أكثر نحو التضخّم؟
- إن إلقاء اللوم في تضخم الأسعار اليوم على العمال الذين «يتقاضون أكثر من اللازم» هو ببساطة ذريعة لفرض حرب طبقية جديدة ضدّ العمال. من الواضح أن مستويات الأجور لم تدفع أسعار النفط والغاز والأسمدة والحبوب إلى الارتفاع. هذه الزيادات في الأسعار هي نتيجة للعقوبات الأميركية. لكن الادعاء المركزي للأرثوذكسية الاقتصادية النيوليبرالية اليوم هو أن جميع المشكلات ناجمة عن كون العمال جشعين للغاية، وهم يضعون مستوياتهم المعيشية فوق الوضع الأمثل للاقتصاد، وهو عبارة عن إنشاء طبقة ريعية ثرية تسيطر عليهم.
الهدف من تقليص الائتمان (الإقراض) هو خفض معدلات التوظيف عن طريق إحداث ركود جديد، وبالتالي تقليص الأجور وأيضاً جعل ظروف العمل أكثر قسوة، وعرقلة النقابات العمالية، وتقليص البرامج العامة المتعلقة بالإنفاق الاجتماعي. ما يحصل الآن هو تحويل الاقتصاد إلى «اقتصاد تاتشري» (نسبة إلى مارغريت تاتشر)، وكل ذلك من خلال ركوب موجة العقوبات الأميركية ضدّ روسيا والادعاء أن هذا يخلق أزمة تتطلب تفكيك البنية التحتية العامة وخصخصتها وأمْوَلَتِها.

أثار رفع معدلات الفائدة الأميركية الكثير من الأزمات حول العالم. ولم يقتصر الأمر على الدّول «النامية»، أو دول الجنوب التي ستتأثّر بارتفاع أكلاف الاستدانة، وانخفاض الاستثمار والادّخار، بل انعكس أيضاً على أوروبا (بريطانيا ضمناً)، ويظهر أن السياسات النقدية الأميركية لا تكترث بما يحصل خارج نطاق أراضي الولايات المتحدة، بينما في عام 2008 مثلاً اضطر الفيدرالي الأميركي أن يفتح خطوط ائتمان لإنقاذ دول مثل اليابان، من الانهيار الذي سببته الأزمة المالية العالمية التي نشأت أصلاً في أميركا. هل هذا النمط هو نفسه التي تفرضه أميركا اليوم من دون اكتراث لما سيحصل حول العالم ولشعبها أيضاً؟
- إن الولايات المتحدة تهتم حقاً بما يحدث خارج الولايات المتحدة. هذا هو جوهر الإمبريالية: هي حريصة على غزو البلدان الأخرى اقتصادياً ومالياً وتقنياً، ما يجعل هذه البلدان تعتمد عليها، حتى تتمكن من فرض أسعار احتكارية وسحب فائضها الاقتصادي نحو نخبها المالية وشركاتها.
تهدف الديبلوماسية الأميركية الأحادية الجانب إلى ترسيخ التبعية التجارية والنقدية والعسكرية. هذه هي الطريقة التي «يهتم» بها السياسيون بما تفعله الدول الأجنبية، وهي أيضاً السبب الرئيسي خلف تدخل الولايات المتحدة كثيراً في العمليات السياسية في البلدان.

بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، ظهرت ملامح تشكّل تكتلات اقتصادية بين الدول بعيداً من التكتّل الغربي، وباتت التكتلات التي نشأت سابقاً أكثر متانة بفعل الوقائع الجديدة الناتجة من هذه الحرب، مثل الاتفاقيات بين روسيا والصين، وبين روسيا والهند، وبين إيران وروسيا، وإيران والصين. حتى أن تعاطي دول «البريكس» القريبة من الغرب مع روسيا لم يعد عدائياً. تغيّر شكل العولمة الاقتصادية انطلاقاً من ذلك، ما يوحي بأن الهدف من هذه التكتّلات أن تكون ضدّ الامبراطورية الغربية التي تتزعمها الولايات المتحدة. لماذا لم يحدث هذا الأمر قبل الآن؟
- تدفع العقوبات الأميركية والمواجهة العسكرية الحالية، الدول الأخرى للدفاع عن نفسها من خلال إيجاد بدائل للدولار الأميركي وبدائل للاعتماد على المورّدين الأميركيين للغذاء والطاقة والتكنولوجيا الحيوية، حتى يتمكنوا من تجنب «معاقبتهم» وإجبارهم على الامتثال لإملاءات الولايات المتحدة.
لم يحدث هذا «الكسر» من قبل لأنه لم يكن عاجلاً. لكن هذا الأمر أصبح واقعاً بسبب العقوبات الأميركية والتهديد بأن حرب الولايات المتحدة/ الناتو ضدّ روسيا ستستمر لفترة أطول بكثير مما يحدث مع أوكرانيا. إنها في النهاية حملة ضدّ الصين، وقد قال الرئيس بايدن إن هذا الأمر سيستغرق عشرين عاماً. بالنسبة إلى الأميركيين، فإن التهديد بفقدان قدرتهم على السيطرة على السياسة الاقتصادية للدول الأخرى هو تهديد لما يعتبرونه «الحضارة» بحدّ ذاتها. إن صراع الحضارات هو بين محاولات الولايات المتحدة إنشاء نظام عالمي ريعي جديد، ونظام عالمي جديد يقوم على المكاسب والازدهار المتبادلين. وكما عبّرت روزا لوكسمبورغ عن الأمور قبل قرن من الزمان، فإن الصدام هو بين البربرية والاشتراكية.

شهد العالم في العقود الأخيرة ارتفاعاً كبيراً في الديون، سواء كانت ديون الأسر أو الديون السيادية، ما هي نهاية هذا الأمر؟ هل ستبقى الديون في ارتفاع لا نهائي أم أن الأمور ستصل إلى أزمة ديون عالمية؟ وإذا حدث ذلك، ما هي عواقبه على شكل النظام المالي العالمي؟
- إن طبيعة الرياضيات الخاصة باحتساب الديون التي تحمل الفائدة، تجعل أزمات الديون أمراً لا مفر منه. كان هذا هو الحال منذ آلاف السنين. إن مسار توسع الديون أسرع من مسار توسّع الاقتصاد «الحقيقي».
في مرحلة ما، سيتعين إما إلغاء الديون، أو ستقع البلدان في عبء ديون القوى الدائنة، تماماً كما هو الحال في الدول الدائنة حيث ينقسم الاقتصاد بين طبقة الـ1% الدائنة وطبقة الـ99% المثقلة بالديون بشكل متزايد. أشرح هذه الديناميات في كتابي «مصير الحضارة» وكذلك في «قتل المضيف».
سيحتاج النظام العالمي إلى تجاوز الاعتماد على الدولار الأميركي، وتحويل الأنظمة المصرفية والائتمانية الوطنية إلى مرافق عامة. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للحكومات من خلالها التخلّص من الديون، بشكل أساسي الديون المستحقة لها، دون التحريض على حرب سياسية عنيفة ضد تحركاتها لتحرير الاقتصاد من عبء الديون.