على مدى 26 عاماً، حقّقت المصارف أرباحاً صافية بقيمة 30 مليار دولار، منها نحو 24 مليار دولار وزّعت على المساهمين، والباقي هي أرباح الهندسات التي ليس واضحاً إذا استقرّت في جيوب المساهمين أم جرت مراكمتها في رساميل المصارف. وإلى جانب هذه الأرباح، راكمت المصارف أصولاً عقارية في موجوداتها مسجّلة في ميزانيات المصارف لعام 2020 بقيمة اسمية (قيمة الاستثمار الأساسي قبل إعادة تقييمه) تفوق 5 مليارات دولار، بينما هي تساوي اليوم أكثر من الضعف. كل ذلك تحقق بنسب أرباح لا تتخطّى نسبتها ربع الإيرادات الإجمالية، إذ إن المصارف كانت قادرة على تهريب الدولارات من ميزانياتها وتصديرها إلى الخارج، بطرق لا يمكن تخيّلها. إحدى هذه الطرق، شراء الأصول الخارجية. وبحسب إحصاءات مصرف لبنان لهذه الأصول الخارجية، فإنه بين عامَي 2009 و2011 زادت هذه الأصول بقيمة مليار دولار لتبلغ أقصى مستوى لها في عام 2014 مسجّلة نحو 6.5 مليار دولار... بعد هذا التاريخ تراجعت القيم الدفترية لهذه الأصول لتصبح في حزيران 2022 مسجّلة بنحو 2.8 مليار دولار.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

عملياً، ما حصل هو أن المصارف استولت على الدولارات - الودائع التي تدفقت بشكل هائل إلى لبنان بعد الأزمة المالية العالمية، ثم منحتها لمصرف لبنان. وهذا الأخير أعطى المصارف جزءاً من هذه الأموال، على شكل أرباح واستثمارات خارجية. لكن منذ ظهور مؤشرات الأزمة، بدأت محفظة الاستثمارات الخارجية تتقلّص بسبب خسائر تكبدتها المصارف في بلدان الانتشار. وهذا يعني أن المصارف، بإشراف مباشر من مصرف لبنان، استعملت أموال المودعين مرتين؛ المرة الأولى من أجل تمويل هذه الاستثمارات، والثانية من أجل تمويل خسائر هذه الاستثمارات. لا أحد يعلم كم دفعت المصارف، ولا سيما أنها باعت بعض وحداتها الخارجية، إنما الثابت أن القيم الاسمية لهذه الاستثمارات الخارجية تدنّت إلى أقل من نصف ما كانت عليه في ذروتها.

مصدر القلق
قبل الأزمة، كانت هناك سردية تجتاح كل المؤتمرات وعلى لسان مدّعي «الخبرة» أو «الخبراء»، ووسائل الإعلام، مفادها أن القطاع المصرفي قوّي، بدليل أن لديه أصولاً تتجاوز ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. عملياً، كانت هذه العبارة هي مفتاح فكّ السرديّة، بما تعنيه لجهة أن يكون لبنان مقترضاً للمال بالعملة الأجنبية أكبر بثلاثة أضعاف من قدرته الإجمالية. فالأموال الفائضة، تصبح مشكلة في ظل معدلات فائدة مرتفعة بشكل شبه ثابت، أي إن الكلفة المترتبة على هذه الأموال لا يملكها المصرف أصلاً.

بالأرقام

2.63 مليار دولار
هو حجم «الأصول الخارجيّة الأخرى» المسجّلة في ميزانيات المصارف اللبنانية

128 مليار دولار
هو حجم الودائع المقوّمة بالليرة والدولار في المصارف اللبنانية في أيلول الماضي

وبدأ الأمر يتفاقم، تحديداً، بعد الأزمة المالية العالمية. يومها، كانت أسعار الفائدة لدى لبنان مرتفعة بينما كانت سلبية في معظم دول العالم. تدفقت الأموال بوتيرة وبكمية، لم يشهدهما القطاع المالي سابقاً. حينها، قرّر مصرف لبنان امتصاص كل هذه الأموال في «بطنه» الكبيرة. سمّاها «الثقة». كلما امتصّ أكثر، كلما زاد منسوب الثقة. فهو كان يراكم الاحتياطات بالعملات الأجنبية باعتبارها مصدراً لاستمرارية النموذج من دون أن يكون لديه الحد الأدنى من الشفافية لإعلان صافي العملات الأجنبية في محفظته. الصافي الإيجابي هو مصدر الثقة، بينما الصافي السلبي هو مصدر للقلق. جرى توزيع هذه التدفقات وفق قنوات توزيع مختلفة، منها القروض المدعومة، ومنها أرباح للمصارف، ومنها استثمارات صدّرتها المصارف إلى الخارج مبرّرة الأمر بأن «السوق المحلية ضاقت عليها». بالفعل كانت السوق ضيّقة عليها رغم إغراق الأفراد والمؤسسات بديون تجاوزت قدرة الاقتصاد كلّه على ردّها. كانت ديون الأفراد والمؤسسات تفوق ما نسبته 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
المهم، جرى تبرير تصدير الاستثمارات، بواقع ضيق السوق، بينما كان الأجدى النظر في مدى الحاجة إلى كل هذه التدفقات وتعديل أسعار الفائدة انسجاماً مع الحاجات. لكن هذا فقط كان جزءاً من المشكلة. فالمصارف في لبنان لم تكن مصارف محترفة، وليس لديها قدرات تتيح لها إدارة استثمارات في الخارج مقابل وحوش مصرفية هائلة الحجم في الأسواق التي تواجدت فيها. والمصارف في لبنان كان تحقق الأرباح السهلة والسريعة من إقراض الدولة ومصرف لبنان، بينما كان لديها معدلات ضعيفة لتحقيق الأرباح من الزبائن.
في هذا السياق، ازداد حجم أصول المصارف في لبنان بشكل كبير. كانت رساميلها في عام 1993 تبلغ 293 مليون دولار، ثم بلغت 20.7 مليار دولار في نهاية 2019. أيضاً أرباحها ازدادت بوتيرة سريعة من 70 مليار ليرة في عام 1992 لتبلغ في نهاية 2018 نحو 3470 مليار ليرة، أي أنها تضاعفت 50 مرّة، وزادت بنسبة 4857%. في وقت متزامن، تضخّم حجم الودائع نسبة إلى الناتج المحلّي مرتفعاً من 120% من الناتج المحلّي في عام 1993 إلى نحو 317% في نهاية عام 2019.

التوسّع نحو الخارج
إطار التوسّع نحو الخارج بدأ في مطلع الألفية الحالية. في ذلك الوقت، أخذ حجم القطاع المصرفي يتضخّم بشكل أسرع من النمو الاقتصادي الوطني. استخدمت المصارف اللبنانية هذه الذريعة لأجل استثمار أموال المودعين في افتتاح فروع لها في الخارج. وقد قام مصرف لبنان بدفعها إلى هذه الاستثمارات، بحجّة أن السوق المحلّية لم تعد تتّسع للمنافسة بين المصارف. وصلت هذه الاستثمارات إلى 29 دولة على شكل مصارف شقيقة أو تابعة، وشركات تابعة أيضاً. وبلغ عدد الفروع الخارجية نحو 490 فرعاً، و19 مكتباً تمثيلياً و26 مصرفاً تابعاً، ومصرفان شريكان، ومصرف شقيق وشركتان تابعتان.


جرى تمويل هذه الاستثمارات من خلال الأرباح الخيالية التي كانت تحصل عليها المصارف من المال العام. لكن انتقال الاستثمارات إلى الخارج، يتطلب أن تكون بالدولار، لذا يتوجب أن يكون الأمر جزءاً من استراتيجية وضعها مصرف لبنان. تصدير الاستثمارات المالية ليس مسألة بسيطة في استراتيجية النموذج الاقتصادي للبنان الذي كان قائماً على جذب الاستثمارات وليس تصديرها. لكن تصدير الاستثمارات المالية، كان جزءاً ضرورياً من استمرارية النموذج الذي أدمن على جذب التدفقات. فهذه الاستثمارات كانت مجرّد واجهة لجذب المزيد. بالفعل كان النموذج يموّل طبيعته الانفجارية. فقد لعبت الفروع التي فُتحت في الخارج دوراً في إقناع رأس المال في تلك البلدان بالتوجه نحو القطاع المصرفي داخل لبنان، وكان ذلك من خلال الفوائد المرتفعة مقابل المخاطر المنخفضة في القطاع. وقد لعبت وكالات التصنيف الائتماني دوراً كبيراً في تأكيد مستوى المخاطر المنخفض إلى أن قررت خفض تصنيفاتها للمصارف اللبنانية في عام 2019.

الاستثمارات السيئة
الاستثمارات المصرفية في الخارج، لم تتجه فقط إلى دول الجوار، مثل سوريا والعراق وقبرص، بل اتجهت أيضاً إلى أوروبا وأميركا واستراليا وأفريقيا. قامت المصارف بذلك بشكل غير مدروس وعشوائي. كل من أراد التوسّع نحو الخارج كان مصرف لبنان يمنحه بركته. لكن كان الأجدر بمصرف لبنان أن يتمعّن بجدوى هذه الاستثمارات، ولا سيما أن الإيرادات منها كانت متدنية أو خاسرة بشكل عام، أما الودائع فكانت تجتذب بفعل الفوائد المحلية المرتفعة، وبفعل التشدّد في أوروبا وأميركا في فتح الحسابات. ولم يكن الأمر مدروساً، لأن تصدير الاستثمارات يجعل من قيمها المسجلة في الدفاتر المحلية مرتبطة بعملات أخرى. فعلى سبيل المثال، إن تصدير استثمار إلى تركيا يتم بالدولار من لبنان، ويسجّل بالليرة التركية، وفي الجزائر أيضاً يسجّل بالدينار الجزائري، وبعملة السودان... كل الاستثمارات المصرفية في هذه الدول سجّلت خسائر في مرحلة ما. ربما كانت الخسائر كبيرة إلى درجة أن الأمر تطلب أخذ مؤونات في ميزانيات المصارف في لبنان. المؤونات تقتطع من الإيرادات وتسجّل في حساب رأس المال.
في تركيا، سجّل بنك عودة خسائر ضخمة. بات معروفاً أن مصرف لبنان أهداه هندسات حققت له أرباحاً بقيمة تفوق مليار دولار لتمويل خسائره. مصدر الخسارة الأساسي هو انخفاض قيمة الليرة التركية في عام 2014. في الجزائر سجّل فرنسبنك خسائر بسبب انخفاض قيمة الدينار، وفي السودان سجّل العديد من المصارف اللبناني خسائر بسبب انهيار العملة أيضاً. الأمر نفسه تكرّر في أكثر من بلد. فالمصارف تتحمّل مخاطر سعر العملة المحليّة. في مصر خسرت المصارف، وفي سوريا أيضاً رغم أنها كانت تسجّل بعض رساميلها بالدولار... الخسائر في الخارج كانت بالجملة. يكاد يكون لا عائد من هذه الاستثمارات، وقيمتها تتدنى.

الإنقاذ في وقت الأزمة
لعبت استثمارات المصارف في الخارج دوراً في إحياء بعض المصارف اللبنانية لبعض الوقت. عملياً، هذه الاستثمارات بقيت استثمارات بالدولار الحقيقي. بينما الدولار اللبناني تحوّل من أصول خارجية إلى أصول محلية تدنت قيمتها بسبب الانهيار. الاستثمارات في الخارج هي أصول يمكن تسييلها لدولارات حقيقية. وهذا الأمر حصل بالفعل، عندما باع «بنك عودة» المصرف الذي يملكه في سوريا بنحو 25 مليون دولار، والمصرف الذي يملكه في مصر بنحو 660 مليون دولار، في حين باع «بلوم بنك» المصرف الذي يملكه في مصر بنحو 427 مليون دولار. هذه الصفقات هي، واقعياً تشكّل قيمة أكبر من القيمة الحقيقيّة لموجودات هذه المصارف في لبنان، لأن موجوداتها الداخلية تلاشت ولا سبيل لإعادتها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ليس المقصود هنا القول أن استثمارات المصارف في الخارج كانت خياراً صائباً. قد يكون خياراً صائباً على صعيد الملاذ الفردي للمصارف والمساهمين فيها، لكن هذه الاستثمارات هي بشكل غير مباشر أموال مهرّبة، منذ ما قبل الأزمة، واليوم تستخدمها المصارف لتنقذ نفسها بشكل فردي، وهي عملياً من أموال المودعين، تم استثمارها خارجياً، ولم تعد ولن تعود إلى أصحابها حتى بعد تسييلها. لكن على صعيد المصلحة العامّة، هذه الأموال كان يمكن استثمارها بشكل يفيد الاقتصاد اللبناني.

لا استثمارات حقيقية في الداخل

مع الادعاء بأن السوق المحلية كانت قد ضاقت على المنافسة بين المصارف، يمكن القول أن الاستثمارات التي كانت تقوم بها في لبنان هي عبارة عن قروض غير منتجة. وكانت هذه القروض استهلاكية بجزء كبير منها، أما القروض الاستثمارية فكانت الحصّة الأكبر منها لقطاعات التجارة والخدمات. في نهاية عام 2019 كانت القروض الصناعية والزراعية الخاصّة لا تتخطى 12% من إجمالي المحفظة الائتمانية في لبنان. وهذا الأمر يدل على ضعف تمويل المصارف لهذه القطاعات التي تعتبر أساسية في بناء الاقتصاد.
تصدير الاستثمارات المالية إلى الخارج تمّ بتغطية غير مدروسة من مصرف لبنان


بالطبع، تتحمّل الدّولة جزءاً مهماً من هذا التقصير، من خلال عدم توجيه القطاع المصرفي لاستثمار أمواله التي «ضاقت عليها السوق اللبنانية» نحو القطاعات الأساسية غير الممولة بالشكل الكافي. لكن في المطلق يُظهر ذلك أن اتجاه استثمارات المصارف اللبنانية إلى الخارج لم يكن أمراً ضرورياً، بل كان هناك بدائل محليّة للاستثمار واستغلال رؤوس الأموال الضخمة، التي دخلت إلى القطاع مع مرور السنوات، في نموذج اقتصادي مستدام. بدلاً من ذلك، اقتصر استثمار المصارف في الداخل على القروض الموجهة نحو قطاع التجارة والخدمات الذي شكّل نحو 33% من المحفظة الائتمانية، وقروض قطاع البناء الذي شكّل نحو 17%، وقروض الأفراد الاستهلاكية التي شكلت نحو 31%.
في الخلاصة، عملية الاستثمار في الخارج لم تكن بعيدة عن النموذج المصرفي القائم منذ التسعينيات. فالهدف كان الاستمرار في جلب رؤوس الأموال من الخارج لتغذية دورة الاستهلاك المزمنة، التي يعتمد عليها الاقتصاد اللبناني. لكنها اليوم، بعد انهيار النموذج، وتوقّف تغذية الدورة، لم تعد هذه الاستثمارات إلا طريقة لإنقاذ المصارف نفسها عبر الحصول نقداً على الدولارات «الفريش»، وهي في الأصل ملك للمودعين. هذه العملية هي أحد نماذج الفرص الضائعة التي حصلت في الاقتصاد اللبناني، إذ إن الأموال التي دخلت إلى البلد كان يمكن استغلالها بشكل أفضل، لكنها استُخدمت في خدمة استمرارية نموذج «البونزي» الذي حكم البلد لنحو ثلاثة عقود.