هل الزيادات «المفرطة» في الأجور تؤدّي إلى ارتفاع معدّلات التضخّم، وبالتالي تدفع الاقتصادات إلى دوامة مغلقة من ارتفاع الأجور والأسعار؟ عام 1865، في «الرابطة الدولية للرجال العاملين»، حصل نقاش بين كارل ماركس، وعضو مجلس الرابطة توماس ويستون. جادل ويستون، وهو زعيم نقابة النجارين، بأن المطالبة بزيادة الأجور لا طائل من ورائها لأن كل ما سيحدث هو أن أرباب العمل سيرفعون أسعار سلعهم للحفاظ على أرباحهم، وبالتالي ينعكس التضخّم بسرعة على القوة الشرائية؛ وتبقى الأجور الحقيقية راكدة ويعود العمال إلى المربع الأول بسبب دوامة الأجور والأسعار.رد ماركس بحزم على حجّة ويستون. كان ردّه، الذي نُشر في النهاية ككتيّب «القيمة، السعر، والربح»، على النحو الآتي: أولاً، تحدث زيادات الأجور عموماً في مسار ارتفاع الأسعار السابقة (أي أنها استجابة للحاق بالركب، وليس بسبب المطالب المفرطة وغير الواقعية لرفع الأجور من قبل العمال). ثانياً، ليس ارتفاع الأجور هو سبب ارتفاع التضخّم.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

جادل ماركس بالعديد من الأشياء الأخرى التي تؤثر على تغيرات الأسعار: مثل حجم الإنتاج (نموّ الإنتاج)، القوى الإنتاجية للعمالة (إنتاجيّة العمّال)، قيمة المال (المعروض النقدي)، تقلّبات السوق (تحديد الأسعار)، ومراحل الدورة الصناعية المختلفة (مراحل الطفرة أو ركود وغيرها). بالإضافة إلى ذلك، «يؤدّي الارتفاع العام في معدل الأجور إلى انخفاض معدل الربح العام، ولكن لن يؤثّر على أسعار السلع». بعبارة أخرى، من المرجح أن تؤدي زيادة الأجور إلى خفض حصّة الدخل التي تذهب إلى الأرباح، وبالتالي خفض ربحية رأس المال في نهاية المطاف. وهذا هو السبب الذي يجعل الرأسماليين ومقاتليهم الاقتصاديين يعارضون زيادة الأجور. الادعاء بأن هناك دوامة في الأجور وأن ارتفاع الأجور يسبّب ارتفاع الأسعار هو ستار أيديولوجي لحماية الربحية.
هل كان ماركس على حقّ؟ في الواقع، واصل علم الاقتصاد السائد الحديث، الادعاء بأن الزيادات «المفرطة» في الأجور ستؤدّي إلى ارتفاع معدّلات التضخم، وخلق دوامة ارتفاع في الأجور والأسعار. ولنأخذ الآراء التالية في ظلّ تصاعد معدلات التضخّم في الحاضر. أولاً، هناك البيان الذي أدلى به أندرو بيلي، محافظ بنك إنكلترا، الذي قال فيه: «أنا لا أقول أن لا يحصل أحد على زيادة في الأجور، لا تفهموني خطأ. لكن ما أقوله هو أننا بحاجة إلى التحلّي بضبط النفس في المساومة على الأجور، وإلا فإنها ستخرج عن نطاق السيطرة». ومن ناحية أخرى، أعاد جيسون فورمان، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الأميركي أوباما، صياغة حجّة توماس ويستون التي مضى عليها أكثر من 150 عاماً بشكل أكثر وضوحاً، فقال: «عندما ترتفع الأجور يؤدّي ذلك إلى ارتفاع الأسعار. إذا ارتفعت أسعار وقود الطائرات أو مكوّنات الطعام، فإن شركات الطيران أو المطاعم ترفع أسعارها. وبالمثل، إذا ارتفعت أجور المضيفات أو الموظفين، فإنهم يرفعون الأسعار أيضاً. هذا ما يقوله المنطق السليم وقواعد الاقتصاد الجزئي».
حسناً، قد ينبع ذلك من «قواعد الاقتصاد الجزئي والمنطق السليم» في علم الاقتصاد السائد. لكن هذا المفهوم هو مجرد خطأ واضح. ففي شهر تشرين الثاني، قام صندوق النقد الدولي بنشر تحليل شامل لبيانات حركة ارتفاع الأجور والأسعار، وقد أتت نتائج هذا التحليل لتدحض ما قاله بيلي وفورمان. يتعامل صندوق النقد الدولي مع هذه الأسئلة من خلال «تعريف لدوامة الأسعار والأجور، وتطبيقه على قاعدة بيانات عابرة للاقتصادات، لحالات ماضية بين الاقتصادات المتقدمة منذ الستينيات حتى اليوم». أي أنها عبارة عن 60 عاماً من البيانات في العديد من البلدان.
ماذا وجد صندوق النقد الدولي؟ «من الصعب العثور على حالات تجسّد دوامات ارتفاع في الأجور والأسعار في السجل التاريخي الحديث. فمن بين 79 حالة تم تحديدها شهدت ارتفاعاً في الأسعار والأجور، سجّلت أقليّة منها فقط مزيداً من التسارع بعد مرور ثمانية فصول. علاوة على ذلك، يصعب العثور على تسارع مستدام في أسعار الأجور عند النظر إلى أحداث مماثلة لما يحدث اليوم، أي مع انخفاض الأجور الحقيقية بشكل كبير. في هذه الحالات، تميل الأجور الاسمية إلى اللحاق بالتضخّم للتعافي جزئياً من خسائر الأجور الحقيقية، ومالت معدلات النمو إلى الاستقرار عند مستوى أعلى مما كانت عليه قبل حدوث التسارع الأولي. كانت معدلات نموّ الأجور في نهاية المطاف تتوافق مع معدلات التضخّم وضيق سوق العمل الذي لوحظ. ولا يبدو أن هذه الآلية تؤدّي إلى ديناميكيات تسارع مستمرّ يمكن وصفها بأنها دوامة ارتفاع في الأجور والأسعار».
ويضيف صندوق النقد: «نحن نعرّف دوامة الأجور والأسعار على أنها حلقة شهدت في ثلاثة، من كل أربعة فصول متتالية، تسارعاً في ارتفاع أسعار المستهلكين، وارتفاعاً في قيمة الأجور الاسمية». ووجد صندوق النقد الدولي أنه «ربما كان من المدهش أن أقلية صغيرة فقط من هذه الأحداث، قد أعقبها تسارع مستمرّ في الأجور والأسعار. وبدلاً من ذلك، مال التضخّم ونموّ الأجور الاسمي إلى الاستقرار، تاركين نمو الأجور الحقيقي من دون تغيّر على نطاق واسع. يشير تحليل ديناميكيات الأجور باستخدام «منحنى فيليبس للأجور» إلى أن نموّ الأجور الاسمي يستقرّ عادة عند مستويات تتوافق مع التضخم وضيق سوق العمل. وعند التركيز على الحالات التي تحاكي الأحداث الحالية المتمثّلة في انخفاض الأجور الحقيقية وتشديد أسواق العمل، فقد كان يتبعها انخفاض في معدلات التضخّم وزيادات اسمية في الأجور، وهو ما كان يسمح للأجور الحقيقية باللحاق بالركب».
ماذا يستنتج صندوق النقد الدولي؟ «نستنتج أن تسريع الأجور الاسمية لا ينبغي بالضرورة أن يُنظر إليه على أنه علامة على أن دوامة ارتفاع في الأجور والأسعار ستتبعها». في فترات التضخّم، تحاول الأجور فقط اللحاق بالأسعار. ولكن حتى في ذلك الوقت، فإن ارتفاع الأجور لا يسبب دوامات في الأسعار والأجور، وهكذا تأكدت وجهة نظر ماركس.
وإذا كنا نريد دليلاً فورياً على ذلك، يمكن الاستعانة بتسوية الأجور التي حدثت أخيراً بين أرباب العمل الصناعيين الألمان، ونقابة IG Metall، أي نقابة عمّال الحديد في ألمانيا، وهي النقابة الأكبر في البلد. بموجب التسوية سيحصل العمال على زيادات في رواتبهم أقلّ بكثير من معدل التضخّم في ألمانيا الذي يبلغ حالياً أعلى مستوى له في 70 عاماً، عند مستوى 11.6%، وسيحصلون على 5.2% في العام المقبل و 3.3% في عام 2024، بالإضافة إلى دفعتين بمبلغ إجمالي قدره 1500 يورو. علّق يورج كرامر، كبير الاقتصاديين في كومرتس بنك، قائلاً: «النقابات وأرباب العمل توصّلوا إلى حلّ وسط بشأن كيفية التعامل مع خسائر الدخل الناجمة عن الارتفاع الحاد في أكلاف واردات الطاقة». وأضاف: «لا أستطيع أن أسمي هذا الأمر، حتى الآن، دوامة أجور وأسعار». بالتأكيد لا، لأن حتى أفضل العمال تنظيماً في ألمانيا سيتعين عليهم قبول الانخفاض في قوّتهم الشرائية خلال العامين المقبلين.
رغم هذه الأدلة التي تدحض نظرية دوامة الأجور والأسعار، يواصل منظّرو الاقتصاد السائد والسلطات الرسمية، الادعاء بأن هذا هو الخطر الرئيسي للتضخّم المستمرّ حالياً. والسبب في ذلك ليس أن الساعين إلى الجوائز الاقتصادية للرأسمالية يعتقدون أن ارتفاع الأجور يسبب التضخّم. بل لأنهم يريدون «ضبط الأجور» في مواجهة التضخّم المتصاعد من أجل حماية الأرباح والحفاظ عليها. ولتحقيق هذا الهدف، فإنهم يدعمون رفع أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية التي من شأنها أن تدفع الاقتصادات إلى حالة ركود قادم في العام المقبل.
تؤدي زيادة الأجور إلى خفض حصّة الدخل التي تذهب إلى الأرباح وبالتالي خفض ربحية رأس المال وهذا هو السبب الذي يجعل الرأسماليين ومقاتليهم الاقتصاديين يعارضون زيادة الأجور


كما قال جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي: «من حيث المبدأ... من خلال تعديل جانب الطلب، يمكننا... خفض الأجور، ثم خفض التضخّم من دون الاضطرار إلى إبطاء الاقتصاد والركود وارتفاع معدل البطالة. المسار هو لفعل ذلك». والأكثر وضوحاً هو أن المعلم الكينزي وكاتب العمود في فاينانشيال تايمز مارتن وولف طالب: «ما يتعين على محافظي البنوك المركزية فعله هو منع دوامة الأجور والأسعار، التي من شأنها زعزعة استقرار توقعات التضخّم. يجب أن تكون السياسة النقدية محكمة بما يكفي لتحقيق ذلك. بمعنى آخر، يجب على المصارف المركزية أن تخلق أو تحافظ على بعض الركود في سوق العمل».
لذا، إن الهدف الحقيقي من زيادات أسعار الفائدة ليس وقف دوامة الأجور والأسعار، إنما زيادة البطالة وإضعاف القدرة التفاوضية للعمالة. أذكر تعليق آلان بود، كبير المستشارين الاقتصاديين لرئيس الوزراء البريطاني مارغريت تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي: «ربما كان هناك أشخاص يتّخذون القرارات السياسية الفعلية... الذين لم يصدقوا أبداً ولو للحظة أن هذه هي الطريقة الصحيحة لإسقاط التضخم. ومع ذلك، فقد رأوا أن النظرية النقدية ستكون وسيلة جيدة لرفع البطالة، وكانت زيادة البطالة وسيلة مرغوبة لتقويض قوة الطبقات العاملة».

* نُشر هذا المقال على مدونة مايكل روبرتس الخاصة thenextrecession.wordpress.com في 20 تشرين الثاني الماضي