حين تبنّت الرأسماليّتان الأميركية والأوروبية، الكينزية، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الطبيعة التنافسية للاقتصاد العالمي، المدفوعة بقوّة السوق وحدها، قد وصلت إلى ذروتها. الكساد الكبير الذي وقع عام 1929، كان التعبير الأمثل عن عجز الرأسمالية عن التطوّر أكثر في حال استمرّت ديناميّات السوق بالحدّ من الربحية المتحقّقة لها على مستوى العالم. والحال أنّ طروحات الاقتصادي الإنكليزي، جون مينارد كينز، التي يعتبرها البعض بمثابة "كوابح اشتراكية" لنمط الإنتاج الرأسمالي، هي التي أنقذت الرأسمالية حينها، من تقلّبات السوق التي كانت تحدّ بشكل متزايد من الربحية، لمصلحة استعادة "معدّل الأرباح الثابت"، تاريخياً. الصيغة الجديدة هنا، والتي تزامنت مع اقتراب نُذُر الحرب العالمية الثانية، اقتضت حلول الدولة مكان السوق، في ضمان استعادة المعدّل السابق للربحية، عبر إعادة صياغة السياسة النقدية الخاصّة بأسعار الفائدة، بحيث تصبح الأداة الرئيسية في الحفاظ على استمرارية التراكم الرأسمالي عبر العالم.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

قبل هذه المحطّة، لم تكن المصارف المركزية تحظى بهذا القدر من السلطة، لجهة إدارة التدفّقات الرأسمالية العالمية، إذ تحوّلت الكوابح التي وضعتها منذ ذلك الوقت، إلى وجهة رئيسية لتطوّر الرأسمالية، حتى حين استُعيد "التقليد السوقي" لفترة معيّنة في السبعينيات، مع ميلتون فريدمان وتلامذته. تأثير الكساد الكبير، دفع بهذه الوجهة قُدُماً، ولكن ليس من دون "المعيارية الاقتصادية" التي مثّلتها معدلات الإنفاق الرأسمالي، البليونية، خلال الحرب، والتي استُعيدت مراراً خلال الأعوام الثمانين اللاحقة، وآخرها، أثناء أزمتَي كورونا والحرب في أوكرانيا.

الاستثمار الرأسمالي في الحرب
عادةً ما تعمل ديناميات الحرب، والأزمات عموماً، لمصلحة هذا التحّول، إذ ينتقل النشاط الاقتصادي إلى ميدان القتال، وتُحشَد الموارد التي كانت تصبّ سابقاً في الأسواق، للحرب وحدها، بما في ذلك، تدفّقات اليد العاملة والسلع، وحتى الخدمات. لا يعتبر ذلك، فعلياً، تعليقاً للنشاط الاقتصادي، بقدر ما يمثّل انزياحاً لتركّزات الثروة وتدفّقاتها، لتغدوَ الدولة ومؤسّساتها، مركزَ النشاط بدلاً من السوق. فهي التي تنفق على اليد العاملة بعد تجنيدها وتعليق نشاطها المدني، وهي التي تضمن الحفاظ على تدفّق السلع والخدمات في الاتجاه الجديد، التعبوي، بعد وضع اليد على معظم مرافق الإنتاج الإستراتيجية. ويترافق ذلك مع تيسيرٍ للسياسة النقدية، بحيث يتمّ الحفاظ على معدّل صفريّ لأسعار الفائدة، لتسهيل عمليات الإقراض التي تُمنَح للشركات المساهمة في المجهود الحربي، والتي تعمل مع الدولة، لقاءَ استعادة أرباحها بعد الانتهاء من الحرب. بهذا المعنى، إن الاستثمار في الأعمال القتالية يفيد في تثبيت الهياكل الصناعية والتجارية التي ستنتقل مجدداً إلى السوق، ما إن تضع الحرب أوزارها. وهو ما حصل عملياً، في أوروبا، مع البدء بتنفيذ "مشروع مارشال"، إذ انتقلت الاستثمارات والتدفّقات الرأسمالية التي استفادت من النموذج الكينزي في الحرب، إلى النشاطين الصناعي والتجاري، المدنيين، لتعيد إطلاقهما، ومعهما قطّاع الخدمات، على قاعدة الحفاظ على معدّل الربحية الذي ظلّ مستقراً طوال فترة الحرب بفضل الكوابح التي وُضِعت على قوى السوق. ومع هذا الانتقال، حُوفظَ، أيضاً، على قوى العمل التي حُشِدت لها الموارد في الحرب ، للقتال ضدّ النازية، لتكون مجدّداً في طليعة المستفيدين من الكوابح الكينزية، على قطاع الأعمال، في الصناعة والتجارة والخدمات.

الرفاهية مقابل الربحية
وبالفعل، كانت هذه هي المرحلة الذهبية، بالنسبة إلى الطبقة العاملة في الدول الرأسمالية، حيث انعكست القيود الموضوعة على التدفّقات الرأسمالية، إيجاباً، على موقعها داخل عملية الإنتاج هناك، لجهة الأجور والحوافز وأنظمة التقاعد والضمان الاجتماعي... على أنّ ذلك، لم يتعارض مع المنحى المتزايد للحفاظ على معدّل الربحية الذي أنهى تقلّبات الأسواق حينها. فالكينزية التي، بواسطتها، أبرَمت الرأسمالية هذا العقد الاجتماعي الجديد، كانت تقوم على توسيع قاعدة المستفيدين من تزايُد الأرباح الرأسمالية، لجهة المكاسب المتحقّقة لهم، لقاءَ الانخراط فيها على أوسع نطاق ممكن. وهذا ما يفسّر، ليس فقط توسيع القاعدة العمّالية للكينزية، وفقاً لمعادلة الأرباح مقابل المكاسب، بل أيضاً تعزيز النشاط السياسي الذي غدا، بعد شموله قطاعّات الأحزاب كافة في الغرب، بمثابة غطاءٍ لهذه "التسوية التاريخية" التي أُبرِمت غداة انتهاء الحرب هناك.
ويمكن القول في هذا السياق، إنّ نظام الحزبين الذي كان السمة الأبرز للحياة السياسية الغربية طوال عقود، هو نتاج هذه التسوية التي أضْفَت على الديموقراطية الليبرالية، ليس فقط، بُعداً تمثيلياً أكبر، بل كذلك مضموناً اجتماعياً اقتصادياً، لم يكن ممكناً من دونه استمرار الهيمنة السياسية لأحزاب يمين ويسار الوسط، أكثرَ من سنوات معدودة. وهذا يؤكّد مجدداً أهمية الدور الذي يلعبه الاقتصاد السياسي للرأسمالية، في نزع الشرعية عن هذه السلطة أو تلك، حين تفقد جدواها الاقتصادية، أو حين يتوقّف التراكم الرأسمالي عن العمل في ظلّها، بسبب محدودية الأدوات التي تمتلكها.
التقادُم الذي عرفته نُظُم ما قبل الحرب، أو تلك التي شَهِدت مرحلة الكساد الكبير والتقلّبات الرأسمالية الكبرى، انتهى إلى نقيضه، مع تفعيل الأدوات النقدية الجديدة التي وُضِعَت في متناول المصارف المركزية الكبرى، لتقود المرحلة الجديدة من تطوُّر الرأسمالية. سياسة أسعار الفائدة التي يَكثُر الحديث عنها حالياً، في ضوء وصول التضخّم العالمي إلى مستويات قياسية، كانت هي الأداة التي أخرجت الرأسمالية في مرحلة الحرب وما بعدها، من عُنُق الزجاجة، لتدخل إلى مرحلة جديدة، قوامُها، المقايضة بين رفاهية الطبقة العاملة والحفاظ على معدّل ربحية مقيَّد، عالٍ.

ديمومة التقلّبات الرأسمالية
التحوّل الذي حصل في السبعينيات لغير مصلحة "دولة الرفاه"، كان مدفوعاً بدوره بعوامل اقتصادية، على رأسها أزمة أسعار النفط. فالأزمة التي أوصلت الأسعار حينها إلى ذروة غير مسبوقة، وأنهت "التوازن الكينزي"، بين منطق العرض والطلب وضوابط السياسة النقدية، مثّلت مدخلاً لمعاودة رفع القيود عن عمل السوق وآليات العرض والطلب.
شرط استمرارية الرأسمالية في الظرف الاستثنائي الراهن يقتضي التضحية بأجزاء منها ترفض الإقرار بالتقهقر الحالي وتصرّ على الاحتفاظ بمعدّل ربحيّتها المنقضي

وذلك، بعدما تبيّن لصانعي القرار النقدي في الغرب، أو لبعضهم، أنّه يمكن المحافظة على معدّل الربحية من دون الحاجة إلى كوابح الكينزية وقيودها. عودة التقلّبات الكبيرة إلى السوق، مدفوعةً بأزمة التضخّم، سواءً في السبعينيات من القرن الماضي أو في أوائل الثمانينيات منه، عجّلت بإنهاء الصفقة التي تم بموجبها، مقايضة حرية الطبقتين العاملتين، الأوروبية والأميركية، ورفاهيتهما بالربحيّة المقيّدة التي أتت بها الكينزية. "مدرسة شيكاغو" التي ينتمي إليها ميلتون فريدمان كانت ترى أنّ الكينزية أسرفَت في تقييد عمل السوق، لمصلحة المصارف المركزية، ومن دون ضمانات بأن هذه القيود ستحافظ على معدّل الربحية الكبير الذي يتحقّق للسوق عادةً، مع تحرير عملية العرض والطلب، أو جعلها تعمل من دون تقييدها بسياسة البنوك المركزية. هذا الجدل لم يُحسَم تماماً في الغرب، وظلّ معلّقاً، حتى حين سادت منهجية "مدرسة شيكاغو" لعقودٍ هناك، مع صعود رونالد ريغان ومارغريت تاتشر إلى السلطة، في كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا. فدورات الركود والتضخّم التي ظلّت تتعاقَب، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى أزمة عام 2008، أثبتت أنّ أياً من النظريتين، لم تستطع وضع حدٍّ للتقلّبات الشديدة في عمل الأسواق، وفي التدفّقات الرأسمالية عموماً. إلى درجة اعتبار البعض، أنّ هذه التقلّبات، هي التي تمثّل "القانون الأساسي للرأسمالية"، بدلاً من الربحية المقيَّدة مع الكينزية، أو نظيرتها، غير المشروطة مع "مدرسة شيكاغو".

أُفُق الرأسمالية المقبل
عاد هذا الجدل ليستعِر أخيراً، مع تزايُد الانتقادات التي وُجِّهت للاحتياطي الفيدرالي الأميركي، على خلفية استمراره في رفع أسعار الفائدة. إذ يخشى المنتقدون، وعلى رأسهم قطاع الأعمال من تسبُّبِها بركودٍ، لن يكون ممكناً احتواؤه بسهولة، نظراً إلى حجم السيولة الكبير الذي وُضِع في الأسواق، إبّان أزمة كورونا. والحال أنّ وجه الشبه بين الأزمة الحالية، وأزمة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ليس بقليل، رغم الفروقات الكبيرة بينهما واختلاف السياقات التاريخية. إذ تشهد الدول الرأسمالية حالياً، لا سيّما في أوروبا، معدّلات إنفاق قياسية من جانب الحكومات، إلى درجة اعتبارها من جانب البعض، بمثابة تأميمات، أو مدفوعات كبيرة للشركات والأسر والأفراد، لمساعدتها على تجاوز أزمة التضخّم الحالية. وهو ما يذكّر، مع الفروقات، بما فعلته الكينزية إبان الحرب العالمية الثانية وبُعَيْدها، لضمّ الطبقة العاملة، وحتى الشركات، إلى خطّتها الخاصّة ببعث الرأسمالية من كبوتها، وتخليصِها من الارتهان المستمرّ لآليات السوق المُطلَقة. لا بل يمكن اعتبار الموجة الحالية من القيود، أكبر من تلك التي قادتها الكينزية ابّان الحرب، لأنّ الإنفاق حالياً، لا يقتصر على تيسير السياسة النقدية من جانب البنوك المركزية، ولا حتى على دعم الشركات والطبقة العاملة للحفاظ على الطلب، بل يتعدّاهما إلى تقييد المدفوعات الضريبية، لجهة فواتير الطاقة والكهرباء...
وصول الرأسمالية في الغرب، مع الأزمة الحالية، إلى حدّ تقييد الضرائب، ودعم الأفراد في تسديدها، يعني أنّ الأولويات بالنسبة إليها قد تغيّرت جذرياً. إذ لم تعد الربحيّة، بالنسبة إليها، تقتضي الحفاظ على معدّل أرباح الشركات، لا سيما تلك التي تقدّم الخدمات والاحتياجات الأساسية للناس، بل على العكس؛ أضحى تقييد الأرباح الرأسمالية أو الحفاظ على معدّل منخفض لها، هو المدخل، ليس فقط لتجاوز أزمة الطاقة الحالية أو الحفاظ على مدّخرات الطبقة العاملة، بل أيضاً لاستعادة روح الكينزية، إن لم نَقُل تجاوزها إلى ما هو أبعد. ليس لأنّ الرأسمالية الحالية تريد ذلك، بل لأنّ شرط استمراريتها، في الظرف الاستثنائي الراهن، يقتضي التضحية بالأجزاء منها، التي لا تزال ترفض الإقرار بالتقهقر الحالي، وتصرّ على الاحتفاظ بمعدّل ربحيّتها المنقضي. بهذا المعنى، تغدو استعادة الكينزية، في سياقٍ يدفع بها أبعَدَ ممّا ذهبت إليه سابقاً، ليس أُفقَ الرأسمالية الوحيد فحسب، بل أيضاً، "قانونها الأساسي"، لعقودٍ قادمة.