ارتفع سعر صرف الدولار أمام العملة الغانية (اسمها سيدي) من 6.45 سيدي غاني في 4 كانون الثاني عام 2022، إلى 16 سيدي غاني في 22 تشرين الأول، ثم تدنّى لاحقاً إلى 14.95. هذه التقلّبات السريعة جاءت نتيجة السياسات النقدية التي اتبعها المصرف المركزي الغاني بهدف امتصاص السيولة بالعملة الأجنبية ووقف نزف احتياطاته منها. ففي المجمل تدهورت قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار بنسبة 42% في الأشهر الستة الأخيرة من عام 2022، بحسب أرقام صادرة عن دائرة الإحصاء في غانا. وترافق ذلك مع تضخم وصل معدّله إلى 37%، ما دفع أسعار المواد الغذائية إلى الارتفاع بمعدل يفوق 100%. وفي هذا الوقت بدأت هيئة الإيرادات الغانية «GRA» التي تعنى بجباية الضرائب، تطبيق نظام مراقبة جديد يربط فواتير المؤسسات إلكترونياً بأجهزة الكومبيوتر لدى الهيئة من أجل منع التهرب الضريبي.

وفور صدور القرار، أقفلت بعض الشركات والمتاجر الكبيرة أبوابها مثل (maclom، china mall، palace) وغيرها، لأكثر من أسبوعين. وبحسب معطيات مستقاة من الجالية اللبنانية، فإن شركات مملوكة من لبنانيين، بدأت تصرف موظفيها اللبنانيين وتستبدلهم بموظفين غانيين للاستفادة من الفروقات الهائلة في الرواتب. وهنالك شركات لبنانية بدأت تدفع نصف الرواتب بالعملة المحلية والنصف الآخر بالدولار. وذلك عدا عن الشركات التي بدأت تخطّط للخروج من غانا والانتقال إلى دول أفريقية أخرى. رغم ذلك، فإن معدل البطالة بلغ 13.9%. ولا داعي للتذكير بأن مؤشرات الفقر في غانا مرتفعة، إذ إنه بحسب إحصاءات «statista» فإن نحو 3 ملايين غاني، أو ما يزيد على 11% من السكان، يعيشون بأقل من 1.9 دولار في اليوم.

صندوق النقد مجدداً
غانا غنية بالموارد الطبيعية. هي الأولى في أفريقيا والسادسة عالمياً في إنتاج الذهب، لديها أيضاً معادن ونفط وغاز وكاكاو... لذا من المستغرب أن يسقط هذا البلد في براثن الفقر والبطالة والانهيارات المتتالية التي دفعته إلى أحضان صندوق النقد الدولي للمرّة الـ17. ففي الفترة ما بين 6 و13 تموز من هذا العام، أجرى رئيس بعثة صندوق غانا، كارلو سدراليفيتش، مناقشات أولية مع السلطات الغانية حول برنامج محتمل يدعمه الصندوق. وهذه ليست الزيارة الأولى ولا الأخيرة للصندوق. إذ تحتاج كل الدول التي تورطت مع الصندوق إلى جرعة إضافية من الوصفة الموحدة، كي تستطيع، بالدين، أن تصمد حتى الجولة التالية.
بدأت هذه العلاقة مباشرة بعد الانقلاب العسكري في غانا عام 1966. حينها لجأ الحكم الجديد بعد تسلم السلطة في العام نفسه إلى صندوق النقد الذي أشرف آنذاك على مشاريع خصخصة مؤسّسات الدولة. ثم كالعادة كرت السبحة وتورطت الدولة في دوامة الإدمان على الدين والعودة دائماً إلى الصندوق.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

انهيار عملة غانا يمكن تفسيره بوضوح من خلال عجز الحساب الجاري. يشمل هذا الحساب كل دولار يدخل إلى الدولة وكل دولار يخرج. ويتبين من أرقام مصدرها صندوق النقد الدولي، أن عجز الحساب الجاري في غانا متواصل منذ عام 2005 وهو يبلغ اليوم 3.99 مليار دولار. في الوقت نفسه، برزت مؤشرات على أن عامل الثقة بالعملة المحلية بات متدنياً بسبب انخفاض احتياطيات البنك المركزي بالعملات الأجنبية بنسبة 26%، من 10.25 مليار دولار في تشرين الأول عام 2021 إلى 7.68 مليار دولار في حزيران عام 2022.
عجز الحساب الجاري هو مؤشّر على وجود انعدام للتوازن في بنية الاقتصاد. فالعجز التجاري يبلغ 3 مليارات دولار، وينعكس ذلك مباشرة في الحساب الجاري. وهذا يشير إلى أن مسار الأموال التي تٌصرف على الاستهلاك هو من الداخل إلى الخارج. عملياً، ينفق الاقتصاد الغاني أكثر من إيراداته التي تأتي بنسبة كبيرة من الموارد الطبيعية، ما يعني أن بقاء هذا النموذج يتطلّب الاستدانة التي تغرقه في دوامة يصعب الخروج منها. فالاقتصاد المحلّي، ورغم ثرائه الفاحش بالثروات الطبيعية، لا يمكنه تغطية الحاجات الاستهلاكية المحلية، بل يستوردها من الخارج بشكل كبير. يمكن القول إن الاقتصاد الغاني غير منتج رغم أن حصّة قطاع الصناعة من الناتج هي 28.26%، إذ إن القسم الأكبر منها يعود إلى شركات أجنبية تعمل ضمن نموذج مفتوح للاستيراد والتصدير بلا قيود. بالتالي من الطبيعي أن تكون حصّة قطاع الخدمات من الناتج المحلي 45%، وحصة قطاع الزراعة 19.71%.

أين تذهب الموارد؟
مصدر الاختلال في بنية الاقتصاد يعود إلى الاستعمار الذي سلبها كل هذه الموارد بشكل شبه مجاني. ففي أرقام الصادرات يتبيّن أن الموارد التي تُصدر هي خام، أي بشكلها الطبيعي أو الأولي، بالتالي لا يستفاد منها بشيء غير بيعها بأسعار متدنية جداً مقارنة بما تجنيه الدول التي تستوردها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يباع طن الكاكاو في غانا بـ10560سيدي غاني أي ما يوازي 1837 دولاراً إذا احتُسبت على سعر الصرف قبل الانهيار الأخير (5.75)، أما شركة «Hershey» التي تستورد الكاكاو من غانا وتعلّبه، تبيع علبة الكاكاو الطبيعي بوزن صافٍ يبلغ 240 غراماً، بنحو 33 دولاراً. هذا الفرق الكبير في الأسعار نجده في كل الموارد الخام الأخرى التي تصدّرها غانا مثل الذهب والنفط والمعادن.
تحتاج كل الدول التي تورطت مع الصندوق إلى جرعة إضافية من وصفته الموحدة لتصمد بالدين حتى الانهيار التالي


الجريمة الأكبر المرتكبة بحقّ الشعب الغاني، أن إيرادات تصدير الثروات بأسعار قليلة، لا تذهب إلى خزينة الدولة. فعلى سبيل المثال، تظهر الإحصاءات أن غانا تصدّر ذهباً بقيمة 5.93 مليار دولار، لكن هذه الأرباح تعود إلى شركات أجنبية مثل «AngloGold Ashanti Limited» و«Gold Fields». وإذا دققنا أكثر في التقارير المالية السنوية وبحثنا عن حملة الأسهم سنتكشف أن هذه الشركات مملوكة من مؤسسات مالية أميركية مثل شركة «Black rock» التي تملك أسهماً في الشركتين، وبنك نيويورك «BNY Mellon» الذي يملك أكثر من 33% من الأسهم في «AngloGold Ashanti Limited». الأمر نفسه يحدث في مجال إنتاج وبيع النفط والغاز.
بهذه البساطة تُنهب ثروات غانا. الموَكلون باستخراج النفط والغاز من البحر، والذهب من المناجم، هم شركات أجنبية حصلت على اتفاقيات امتياز. إذ تعرض شركة أجنبية لديها المعدات اللازمة والخبرة في قطاع معين، خدماتها على الدولة الغانية، وهذه الأخيرة، وبسبب عدم امتلاكها الخبرة والمعدات، تمنح الشركة اتفاقاً يعطيها حقّاً حصرياً للعمل في منجم ذهب معين أو حقل غاز ونفط، فتستخرج الشركة هذه الثروات وتبيعها ثم تعطي حصة صغيرة من الأرباح للدولة.