طوال العقود الثلاثة الماضية، تحوّلت الصين إلى مركز الإنتاج العالمي. وجدت الرساميل حول العالم ملاذاً يستهدف استغلال كلفة الإنتاج الزهيدة. هكذا صارت غالبية المنتجات، من الصناعات التحويلية إلى التكنولوجيا، تأتي مدموغة بعبارة «صُنع في الصين». أُطلق على هذه العملية «أوف شورينغ». إنما لم يطل الوقت قبل أن تنتقل الصين من «مقلّد» إلى «مُبتكر». فامتلكت التكنولوجيا وباتت متمكّنة من سلسلة الإنتاج بكاملها ما عدا استثناءات ما زالت قيد التطوير. إلا أنه مع تنامي المخاطر الكبرى، من انتشار كوفيد-19 وأثره على سلاسل الإنتاج والتوريد، إلى الحرب الروسية الأوكرانية، رُسمت استراتيجيات إنتاج مختلفة للرساميل الغربية، وبدأ عصر الأقلمة الذي تعبّر عنه الرساميل بكلمة «Friendshoring»، أي نقل الإنتاج إلى دول تعدّها الرساميل الغربية صديقة أو حليفة أو أقلّ مخاطر.ثمة الكثير من الأدلة على ذلك بحجج ومبررات مختلفة. ففي استطلاع أجرته غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين في حزيران الماضي، قالت 23٪ من الشركات الغربية إنها تفكر في نقل العمليات بعيداً عن البلاد، بينما أفاد 50٪ بأن الأعمال في الصين أصبحت «مسيّسة» في عام 2021 أكثر مما كانت عليه في السنوات السابقة. في المقابل، كانت الغرفة قد أجرت استطلاعاً مماثلاً في عام 2019، أظهر أن الشركات الأوروبية لديها «التزام صارم بشكل متزايد... تجاه السوق الصينية الناضجة والنابضة بالحياة». هذا التغيّر في العقلية الغربية عبّر عنه المدير العام لاتحاد الصناعة البريطانية، توني دانكر، عندما قال لصحيفة «فايننشال تايمز» في تموز الماضي: «كل شركة أتحدث إليها في الوقت الحالي منخرطة في إعادة التفكير في سلاسل التوريد التي تركّز على الصين». ويلفت إلى أن الشركات تتوقع «أن سياسيّي بلادنا سوف يسارعون حتماً نحو عالم منفصل عن الصين».
بمعزل عن النواحي الجيوسياسية في كلام دانكر، إلا أن هذه الهجرة لها بعد أيديولوجي يضخّه الإعلام الغربي بالإشارة إلى أن الصين لم تعد جاذبة لرأس المال، كالسابق. «فورين بوليسي» تعزو ذلك إلى عدّة أسباب:
- أولاً، أدّت سياسة «صفر كوفيد» في الصين إلى تعكير صفو سلاسل التوريد وتركت عمال المصانع محجورين في مناطقهم وبيوتهم، ولا تظهر أي بوادر على انتهاء الإجراءات في أي وقت قريب.
- ثانياً، أصبحت العمالة أكثر كلفة، مع سياسات الحكومة الشيوعية التي نقلت مئات الملايين من الفقر إلى الطبقة المتوسطة.
رأس المال لا يفكّر سوى في مستويات الربحية. لا يهمّه أن يكون هناك اهتمام بالبشر، لأنه يرى ذلك على حسابه


- ثالثاً، طرأت تغييرات على التركيبة السكانية في الصين، إذ تقلّصت مجموعة العمّال المحتملين. فالجيل الذي حمل الصين على ظهره ودفعها إلى الأمام، بات أقرب إلى سنّ التقاعد، وفي المقابل، عدد الفئة الشابة التي ستدخل سوق العمل من بعدهم، أقل بكثير.
إذاً، رأس المال لا يفكّر سوى في مستويات الربحية. لا يهمّه أن يكون هناك اهتمام بالبشر، لأنه يرى ذلك على حسابه، بينما هو يفضّل أن يتحوّل إلى «مصاص دماء» للعمّال. فانطلاقاً من البعد الجيوسياسي، ومن البعد الأيديولوجي لطبيعة الرساميل الغربية، بدأت «آبل» و«مايكروسوفت» و«غوغل» و«سامسونغ» و«أمازون» بمغادرة الصين تدريجياً. وبدأت «آبل» بتحويل بعض إنتاج «آيفون 14» الخاص بها إلى الهند. في حين أن منتجاتها «AirPods» و«Apple Watch» و«iPad» ستذهب إلى فييتنام. شركة «أمازون» أغلقت مصانعها الصينية التي تنتج جهاز «Kindle»، وستنتج أجهزة «FireTV» في الهند. شركة «سامسونغ» بدأت الانتقال خارج الصين منذ عام 2019 عبر تحويل تصنيعها إلى فييتنام، في حين أن «مايكروسوفت» بدأت الآن نقل تصنيع جهاز ألعاب الفيديو «Xbox» إلى فييتنام و«غوغل» أيضاً في إنتاج هواتف «Pixel».
بحسب «فورين بوليسي»، إن «الأصدقاء» في المعادلة الجديدة تعني الدول الحليفة للغرب تقليدياً، مثل تركيا وصربيا والهند وفييتنام، وأيّ دول «لن تكون راغبة أو قادرة على استغلال العولمة لتحقيق مكاسب جيوسياسية». ويبدو أن دول حلف الـ«كواد» ستقدّم نفسها على أنها صديقة في هذه المعادلة أيضاً، إذ إن إخراج الصين من المعادلة سيحتاج إلى كثير من الأصدقاء، حيث لا يمكن لأيّ بلد أن يحلّ محلّ مصنع العالم بمفرده.