لم يكن يشكل القطاع الصناعي، في السابق، حصة كبيرة من الاقتصاد اللبناني. وأصبح الأمر أكثر وضوحاً بعد نهاية الحرب الأهلية حين فُرض نمط اقتصادي زاد من العقبات السابقة أمام تطوّر هذا القطاع. ففي عام 1970 كانت القطاع الصناعي يمثّل نحو 13.5% من الاقتصاد، ومع تقلّص قطاع الخدمات في بداية الحرب الأهلية ارتفعت حصّة الصناعة إلى 15.5% في عام 1979. إلا أن هذه الحصّة انخفضت في التسعينيات وفي مطلع الألفيّة الجديدة، لتبلغ 7% في عام 2004، وهو مسار بقي قائماً حتى بداية الأزمة عام 2019.من أهم العوامل التي ساهمت في تراجع دور القطاع الصناعي في الاقتصاد، كانت سياسة تثبيت سعر الصرف التي فرضها المصرف المركزي بشكل كامل عام 1997 وأبقى عليها حتى آخر رمق في نهاية عام 2019. فالتثبيت إلى جانب رفع أسعار الفائدة لجذب التدفقات ضخّم القدرة الشرائيّة للعملة ورفع الأكلاف المحلية محفّزاً استيراد السلع المخصصة للاستهلاك الداخلي. كما أن هذا النموذج أسهم في ضرب الصناعات اللبنانية في الأسواق الخارجية التي لم تعد قادرة على منافسة البضائع الآتية من مصادر أخرى من الأسواق الخارجية.

(أنجيل بوليغان - مكسيك)

لكن النموذج لم يُبن على ذلك فحسب، بل لعبت الاتفاقات التجارية التي أبرمها لبنان مع دول المحيط مثل اتفاقية التيسير العربي، واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، دوراً مهما في إضعاف القطاع وجعله فريسة للسلع الأجنبية. إذ أنتجت هذه الاتفاقات انخفاضاً في كلفة استيراد بضائع الدّول المُتّفق معها، من خلال إلغاء أو خفض الرسوم الجمركية على دخولها إلى البلد. في المقابل، لم تكن هذه الاتفاقات مفيدة للصناعة المحليّة، بل حدّت من قدرتها على تصدير إنتاجها إلى الخارج. كما أن التدمير الممنهج لقطاع الكهرباء كانت له مساهمة وازنة في إضعاف القطاع الصناعي، عبر رفع كلفة الطاقة اللازمة لتشغيله.
اليوم، يقف الاقتصاد اللبناني أمام مفترق طرق. فانهيار نظام تثبيت سعر الصرف، قد يفتح باب أمل لتخطّي جانب من العوائق، إنما التحوّل الأهم هو في بروز احتمال الاستفادة من الغاز الطبيعي الذي سينتج محلياً، إذا سارت الرياح الوطنية كما تشتهي الأحلام اللبنانية على ضوء تفاهم ترسيم الحدود البحرية. فإن ذلك هو ما سيسهم في تغيير الرؤية الصناعية ويساعد على رسم استراتيجية صناعية حقيقية للبنان.

الخصائص الحالية للقطاع
في عام 1999 نشرت «مؤسسة تشجيع الاستثمارات في لبنان» (IDAL) ورقة بعنوان «التجربة اللبنانية في الصناعة». تضمنت هذه الورقة بعضاً من مشكلات القطاع الصناعي اللبناني؛ من أبرزها الإنتاجية المنخفضة لليد العاملة، أي إن إنتاج العامل الواحد في السّاعة في لبنان منخفض جداً مقارنة بباقي دول المنطقة. ويعود ذلك، بحسب الورقة، إلى محدودية موارد التدريب العملي وعدم إعداد الخريجين التقنيين بالشكل المناسب. إضافة إلى ذلك، تُعد محدودية مساحة الأراضي في لبنان أحد أبرز المشكلات التي تسبب ارتفاع كلفة الإنتاج لأنها تبقي أسعار العقار مرتفعة. الأرض هي أحد أهم عوامل الإنتاج، وارتفاع كلفتها يؤدي إلى ارتفاع كلفة الإنتاج.

4700

هو عدد المصانع في لبنان، 26% منها تعمل في مجال الأغذية والمشروبات يليها مجال الإنشاءات الذي يمثّل 12%، ومجال المنتجات الكيميائية الذي يمثّل 8% منها


إذاً، نحن هنا أمام نموذج فيه كلفة الأرض مرتفعة، وكلفة التمويل كبيرة. لكن هناك أيضاً مشكلة عدم وجود أي موارد أولية طبيعية لبنانية. وهو ما يدفع القطاع الصناعي المحلّي إلى صناعات لا تحتاج إلى الكثير من الموارد الطبيعية الأوّلية حتى لا تنخفض القيمة المضافة التي يمكن أن تحققها الصناعات، لكن مع ذلك تصبح هذه الصناعات غير ذات جدوى عالية. وبسبب ارتفاع كلفة الطاقة المنتجة بواسطة الوقود المستورد، ركّزت الصناعات المحلية على أنواع لا تحتاج إلى الكثير من استهلاك الطاقة.
كل هذه الأمور تجعل المجالات الصناعية المحتملة محدودة جداً، لأن الخيارات المجدية المتاحة قليلة. وحتى القطاعات الموجودة حالياً تعاني من الكثير من الصعوبات، وهو ما يمنع تطويرها وتوسيعها أيضاً. فعلى سبيل المثال، قطاع الأغذية والمشروبات هو أحد أنجح الصناعات في البلد، وهو الأكثر توظيفاً في القطاع الصناعي. إلا أن مشكلته الأساسية أنه لا يشكّل جزءاً من سلسلة توريد كاملة تُصنع في البلد. علماً بأن هذا الأمر ممكن في لبنان. ولكن سلسلة التوريد والإنتاج تبدأ من القطاع الزراعي، الذي يعاني بدوره من أوضاع مزرية، وهو حال لا يخدم كثيراً مشاريع تصنيع الأغذية والمشروبات الجاهزة للاستهلاك. عملياً تقوم الشركات في هذا القطاع اللبناني باستيراد المنتجات الزراعية، وكذلك باستيراد وسائل التغليف والتعليب. وهكذا تكون القيمة المضافة التي توضع في هذا المنتج تقتصر فقط على عملية تحضير هذه المأكولات أو المشروبات وتجهيزها لتصبح منتجات نهائية.


ويمكن الحديث أيضاً عن قطاع الألبسة الجاهزة الذي بدوره يعاني من عدم القدرة على المنافسة مع منتجات الدول الأخرى في الأسواق الخارجية، بسبب ارتفاع كلفة إنتاجه. ويعود هذا الارتفاع في كلفة الإنتاج إلى عدم توفّر المواد الأوّلية مثل القطن والكتان. بالإضافة إلى أن هذا القطاع يحتاج إلى أعداد كبيرة من اليد العاملة، ولأن كلفة اليد العاملة في لبنان مرتفعة (بسبب تضخّم قيمة العملة سابقاً)، ترتفع معه كلفة الإنتاج.

الغاز عامل مغيّر
إن دخول الغاز كقطاع إنتاجي مساهم بين المواد الأولية يغيّر في شروط اللعبة، خصوصاً بعد ارتفاع احتمالات الاستخراج عقب توقيع الاتفاق حول الحدود البحرية الجنوبية ما وضع لبنان أمام فرصة لإحداث تغيير محوري في شكل ومضمون القطاع الصناعي. فوجود الغاز في المعادلة يعني الحصول على طاقة بسعر منخفض. وذلك يعني أن الاقتصاد اللبناني يمكن أن يغيّر في المسار الصناعي لاعتماد صناعات ذات استهلاك مرتفع من الطاقة، مثل صناعة المعادن، والصناعات الكيميائيّة وغيرها. ويؤمل أن يؤدي انخفاض كلفة الطاقة في القطاعات التي تستعمل طاقة مكثفة، أن يعزّز قدراتها التنافسيّة لتستقطب المستثمرين.
من خلال رؤية اقتصادية شاملة تتضمن تطوير القطاع الصناعي تستطيع الدّولة أن تضمن استخدام الغاز في الداخل بأقصى استفادة

كما أن إنتاج الغاز يوفّر مواد أوّلية للصناعات البتروكيماوية، أي أنه يفتح المجال أمام قطاع صناعي جديد تماماً. وهذا القطاع بالذات يمكن أن يكون جزءاً من سلاسل إنتاج عديدة، مثل صناعة البلاستيك، ومنه الذي يُستخدم في مجالات التعليب والتغليف اللازمة للصناعات الموجودة حالياً مثل الأغذية والمشروبات. في الواقع يمكن من خلال دخول الغاز إلى المجال الاقتصادي، تغيير المشهد الصناعي في لبنان بالكامل، لكن لهذا الأمر تحدياته أيضاً.
لكن الانتقال إلى استخدام الغاز يحتاج إلى الكثير من التحضيرات المسبقة. فمثلاً يجب إنشاء البنى التحتية التي تجعل الاقتصاد قادراً على استهلاك الغاز. فهو يحتاج إلى شبكة أنابيب تمتد في جميع أنحاء البلد. وهذا الأمر يحتاج إلى وقت. ويحتاج أيضاً إلى خطة شاملة للقطاع الصناعي اللبناني ورؤية واضحة لدوره في الاقتصاد. رغم ذلك، الوقت ليس هو المشكلة لأن الاستخراج يحتاج إلى وقت أيضاً يقدّر بين 5 سنوات و10 سنوات، وهذه مدّة كافية لوضع الخطط الصناعية والبنى التحتية اللازمة. لكن المشكلة الأساسية تكمن في الآتي: «يجب أن يكون هناك تغيير في السياسة الصناعية في البلد للاستفادة من الغاز بالطريقة القصوى» يقول الاقتصادي حسن شرّي. ففي حال حصل هذا الأمر «يصبح الانتقال إلى الصناعات التي تستهلك الطاقة بشكل مفرط، أمراً ليس بعيداً». لكن، بحسب شرّي، هناك «مخاطر ما يُعرف بالمرض الهولندي»، وهو ما قد يساهم في عدم المضي قدماً بتطوير الاقتصاد بسبب الاكتفاء بتطوير قطاع الغاز فقط.

إنتاج الغاز يوفّر مواد أوّلية للصناعات البتروكيماوية ويفتح المجال أمام قطاع صناعي جديد تماماً


أما من ناحية المصانع الموجودة حالياً، فهي الأخرى عليها أن تقوم بالتحضير للاستفادة من الغاز. فبحسب الاقتصادي إيلي يشوعي «معظم المصانع الموجودة تعمل مراجلها على الفيول أو على المازوت، وهي تحتاج إلى نقلها لتعمل على مراجل تعتمد على الغاز من أجل خفض كلفة الإنتاج والأكلاف البيئية».
عملياً من خلال وضع خطّة شاملة للقطاع الصناعي تستطيع الدّولة أن تضمن استخدام الغاز في الداخل بأقصى استفادة. هذه الخطة يجب أن تشمل ما هو أوسع من القطاع الصناعي. بمعنى آخر، التخطيط لقطاع التعليم من أجل تطابق مناهج وبرامج المهنيات والجامعات، مع ما يحتاجه هذا القطاع في المستقبل. كما أن تكون القطاعات التي تنوي الدّولة الدفع باتجاهها مكمّلة لبعضها، بحيث يُصبح لدى الاقتصاد سلاسل إنتاج كاملة، أو على الأقل أجزاء مهمّة منها، تسهم في خفض الأكلاف وزيادة الأرباح وخلق فرص العمل.