لم تكن السياسات النقدية والمالية التي اتُّبعت حول العالم أثناء الجائحة، سوى استكمال لمسار بدأ بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008 عندما بدأ ضخّ السيولة في الأسواق بشكل كبير ومتواصل، وهو ما انعكس مباشرة على أرصدة الثروة العالمية وعلى توزّعها. الشرائح الأكثر ثراء استحوذت على نصيب وافر من الثروة الجديدة، في مقابل ارتفاع القدرة الادخارية للأسر ولا سيما أثناء ضخّ النقد لمكافحة جائحة «كورونا». إنما المشهد اختلف اليوم، إذ يشهد العالم موجة من التضخّم دفعت الاقتصادات الكبرى نحو تنفيذ سياسة معاكسة لسحب السيولة عبر زيادة أسعار الفائدة. بنتيجة ذلك، ازدادت مخاطر هجرة رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة، وارتفاع قيمة ديونها وانخفاض قيمة عملاتها. بمعنى أوضح، نتائج هذه السياسة تتمظهر من خلال آليات إعادة توزيع الثروة. يرجّح أن تزيد فجوة اللامساواة، وأن يزداد التركّز في الثروة حول العالم
أنقر على الرسم البياني لتكبيره


قدّر معهد «Credit Suisse Research Institute» في تقريره الصادر أخيراً بعنوان «الثروة العالمية عام 2022»، أن إجمالي الثروة العالمية بلغ 463.6 تريليون دولار في نهاية عام 2021، أي بزيادة قيمتها 41.4 تريليون دولار، أو ما نسبته 9.8% مقارنة مع العام السابق، وهو أسرع معدل سنوي مسجّل على الإطلاق. كذلك قدّر نموّ الثروة لكل شخص بالغ بمقدار 6.800 دولار، أو 8.4% خلال العام لتصل إلى 47.489 دولار، أي نحو ثلاثة أضعاف المستوى المسجّل في نهاية القرن. هيمنت أميركا الشمالية على أكثر من نصف نموّ الثروة العالمية، والصين على ربعها. في المقابل، شكّلت أفريقيا وأوروبا والهند وأميركا اللاتينية مجتمعة 11.1% فقط من نموّ الثروة العالمية. سبب هذا الرقم المنخفض، هو الانخفاض الواسع النطاق في قيمة العملات مقابل الدولار الأميركي في هذه المناطق. إذ إن تقلبات سعر الصرف مثّلت المصدر الأهم للمكاسب والخسائر الكبيرة في الثروة التي تقدّر قيمتها بالدولار الأميركي. ففي عام 2021، انخفضت قيمة عملات الدول مقابل الدولار الأميركي بنسبة 2.9%. أكبر انخفاض سُجّل في اليابان بنسبة 9.3%، وفي دول منطقة اليورو بنسبة 7.7%. أما البلدان التي شهدت تحسناً في أسعار صرف عملاتها فقد كانت قليلة نسبياً، ومن ضمنها الصين بنسبة 2.6%، تشيلي 4.4% وتايوان 5.6%، ونيوزيلندا 8.8%.

كيف زادت الثروة؟
في فترة ما قبل الجائحة، مارست الاقتصادات الكبرى سياسة التوسّع النقدي وضخّت سيولة كبيرة في الأسواق، إنما تفاقم الأمر مع جائحة كورونا في نهاية عام 2019 واضطرار الدول إلى إغلاق اقتصاداتها وتقديم الدعم المادي المباشر على جانبَي العرض والطلب. بعبارة أخرى، عزّزت الدول من سياسة التوسّع النقدي. في البلدان المتقدمة سجّل دعماً مالياً سخيّاً للأسر والشركات، إلى جانب انخفاض أسعار الفائدة وتراجع الاستهلاك. هذا ما عزَّزَ الادخار والاستثمار في الأسهم والعقارات، ما أدّى إلى ارتفاع كبير في ثروة الأسر في كثير من أنحاء العالم.
في المجمل، كان العامل المهيمن على ثروة الأسر، هو تغيّرات أسعار الأصول بسبب حجمها الهائل. قدّرت «Moody Analytics» توفير فائض عالمي قيمته 5.4 تريليون دولار في عام 2020 جرّاء عمليات الإغلاق خلال جائحة كورونا، إنما هذا جزء صغير من الارتفاع في ثروة الأسر العالمية البالغ 33.5 تريليون دولار في ذلك العام، إذ نتج هذا الارتفاع من الزيادة في أسعار الأسهم والعقارات.


وتجدر الإشارة إلى أن الأصول المالية تمثّل معظم الزيادة في الثروة الكلية منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ومع ذلك، كان الانقسام متساوياً تقريباً عام 2021، إذ ارتفعت الأصول المالية بمقدار 23.3 تريليون دولار مقارنة بـ20.6 تريليون دولار للأصول غير المالية. فبعدما كانت أسواق العقارات تتدهور في البداية خلال ذروة الوباء، وتعثّرت خلال النصف الثاني من عام 2020، إلا أنها عادت إلى الانتعاش عام 2021. ومن المحتمل أن تكون أسعار الفائدة المنخفضة واحدة من العوامل المسؤولة عن ازدهار سوق الإسكان.

علاقة عكسية
في الواقع، أدّت التداعيات الاقتصادية للجائحة، إلى تغيّر كبير في ادخار الأسر والشركات والقطاع العام. وتُرجم ذلك في تبدلات ظاهرة ومعاكسة في المدخرات الوطنية وأرصدة الحسابات الجارية. فالانخفاض في الاستهلاك الناجم عن عمليات الإغلاق يفسّر قسماً كبيراً من الزيادة في مدخرات الأسر. إنما في قطاع الشركات، سُجّل انخفاض الإنتاج مقابل انخفاض تعويضات الموظفين وارتفاع قيمة الدعم العام، وبالتالي لم تطرأ تغيّرات واسعة على مدخرات الشركات. لكن الديون الحكومية ارتفعت بسبب الدعم الحكومي الذي خفّض الادخار العام، أي إن ارتفاع الثروة لدى الأسر والشركات كان مموّلاً بالمال العام.


«كريدي سويس» أجرى تحليلاً لحركة الادخار في عدد من البلدان على النحو الآتي:
- الولايات المتحدة وكندا: في عام 2020، ارتفع الدخل الشخصي المتاح في كندا والولايات المتحدة بعد حزمة الإغاثة التي دفعتها الحكومات للتعويض عن آثار الجائحة. أدت الزيادة في الإنفاق الحكومي وانخفاض الإيرادات الضريبية إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وزيادة الادخار. في الوقت نفسه ارتفع مستوى الدين العام من 87.2% من الناتج المحلي في كندا عام 2019 إلى 117.8% عام 2020، ومن 108.8% من الناتج المحلي في الولايات المتحدة عام 2019 إلى 134.2% عام 2020.
- فرنسا وبريطانيا: كان الدخل الشخصي المتاح ثابتاً تقريباً، لكن الاستهلاك انخفض بشكل حادّ، فارتفعت معدلات ادّخار الأسر في فرنسا من 14.7% في عام 2019 إلى 21.0% في عام 2020، وفي بريطانيا من 4.6% إلى 13.8%.
- النمسا، ألمانيا وسويسرا: انخفض الدخل الشخصي المتاح قليلاً، لكن الاستهلاك الخاص انخفض بشكل حادّ في عام 2020، بمتوسط 6.1% عبر هذه البلدان الثلاثة. ما أدّى إلى زيادة متوسط معدل الادخار في النمسا وألمانيا من 16.2% في عام 2019 إلى 21.5% في عام 2020. ساهم الادخار بشكل كبير في زيادة الأصول السائلة وخفض الديون. وارتفعت أسعار الأسهم في هذه البلدان الثلاثة خلال عام 2020 ككل وطوال عام 2021. وكان الأداء لافتاً بشكل خاص في عام 2021 مع ارتفاع أسعار الأسهم بنسبة 14.6% في ألمانيا، و20% في سويسرا، و31.9% في النمسا.
- النرويج، الدنمارك، فنلندا والسويد: ارتفع الدخل الشخصي المتاح بشكل طفيف في النرويج، في حين انخفض بشكل طفيف في الدنمارك وفنلندا والسويد. لكن الاستهلاك انخفض في جميع هذه البلدان بمتوسط 4.7%. ما أدّى إلى ارتفاع متوسط معدل ادّخار الأسر في عام 2020 إلى 16.2% بعدما سجّل 12.5% في 2019.

41.5 تريليون دولار

هو حجم الارتفاع في الثروة العالمية في عام 2021 وهو يمثّل ارتفاعاً بنسبة 9.8%


- اليونان، إيطاليا وإسبانيا: كان للوباء في البداية تأثير إيجابي على ادّخار الأسر في هذه البلدان، إذ بلغ متوسط ادخار الأسر المعيشية 17.4% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، مقارنة بـ10% في 2019. وفي إسبانيا، ارتفع هذا المعدل من 8.3% إلى 15%. انتقلت اليونان من مرحلة عدم الادخار بمعدل سلبي يقدر بـ3.8% إلى ادخار إيجابي بنسبة 2.8%. تعكس هذه الأرقام انخفاضاً في الاستهلاك في 2020، بمتوسط انخفاض نسبته 10.2%. وانعكست الزيادة في المدخرات الخاصة في زيادة الدين العام كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى. فارتفع الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان وإيطاليا وإسبانيا بمبالغ مماثلة من متوسط 138.3% في 2019 إلى 162.1% في 2020.
- أستراليا ونيوزيلندا: كما هو الحال في معظم البلدان الأخرى ذات الدخل المرتفع المذكورة سابقاً، ارتفع الدخل المتاح في أستراليا بشكل ملحوظ بنسبة 4.8% بسبب المدفوعات الحكومية للأسر خلال فترة الوباء عام 2020. من ناحية أخرى، انخفض الاستهلاك الخاص بنسبة 6.7%. ما ساهم في قفزة في معدل ادخار الأسر من 15.6% إلى 24.9%. وكان للادخار المتزايد تأثير إيجابي على الأصول المالية وأدّى إلى سداد بعض الديون. ومجدداً، يتناقض ارتفاع المدخرات الخاصة عام 2020 مع الدين العام، أي الاتجاهات التي ارتبطت بالزيادة في الإنفاق على مواجهة الوباء وخفض الإيرادات الضريبية. فارتفع الدين العام في أستراليا من 46.8% من الناتج المحلي عام 2019 إلى 57.8% عام 2020 وارتفع الدين العام في نيوزيلندا من 31.8% إلى 43.1%.

تَتبّع الثَّروة عبر الحساب الجاري
يقيس الحساب الجاري أرباح الدولة وإنفاقها في الخارج ويتكون من الميزان التجاري (السلع المادية والمنقولة، والخدمات من المعاملات غير الملموسة وخدمات الأعمال والسياحة...)، وصافي الدخل الأولي (الرواتب والأرباح من الاستثمارات الأجنبية مطروحاً منها المدفوعات للمستثمرين الأجانب) وصافي التحويلات الأحادية (المساعدات والمنح والتبرعات...)، التي حدثت خلال فترة معينة من زمن. ويمكن الاستدلال عن أحوال الثروة حول البلدان المختلفة عبر حركة أرصدة الحساب الجاري للاقتصادات المختلفة. وذلك إمّا عبر حركة الاستيراد والتصدير بشكل أساسي، أو عبر الدخل والتحويلات من وإلى البلد.
وفق «تقرير القطاع الخارجي 2022» الصادر عن صندوق النقد الدولي في آب الماضي، فإن جائحة كورونا أسهمت في تحويل أنماط استهلاك الأسر بعيداً عن الخدمات، نحو السلع. ففي وقت الإغلاق الشامل للبلاد، انخفضت مستويات استهلاك الأسر للخدمات بشكل كبير مقابل ارتفاع في استهلاك السلع (كمعدات العمل والتعلم عن بعد)، والتي بدورها ساهمت في توسيع أرصدة الحسابات الجارية العالمية. هذا التحوّل أدّى إلى زيادة استيراد السلع لدى الاقتصادات المتقدمة التي تعاني أصلاً من عجز في الحساب الجاري. إذ شهدت اقتصادات فائض الحساب الجاري مثل الصين، زيادة في فائضها بسبب ارتفاع صادرات السلع الطبيّة التي استوردتها اقتصادات لديها عجز الحساب الجاري، مثل الولايات المتحدة.

أدّت التداعيات الاقتصادية للجائحة إلى تغيّر كبير في ادخار الأسر والشركات والقطاع العام والديون الحكومية


على صعيد قطاع السفر والتجارة الطبية مثلاً، انعكس انخفاض خدمات السفر على أرصدة الحساب الجاري للعديد من البلدان المصدرة للسياحة. في المقابل أدّى الطلب على المنتجات الطبية ومعدات الحماية الشخصية، إلى تحسّن في الحساب الجاري لمُصدّري هذه السلع. تُشير التقديرات إلى أنّ صدمة السفر أدّت إلى خفض الحساب الجاري لإسبانيا بنسبة 1.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 2021، وحساب تايلاند بنسبة 4.4%. كما أن تجارة السلع الطبية ومعدات الحماية الشخصية أدّت إلى زيادة الحساب الجاري لدى ماليزيا بنسبة 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي.
في ما يخص النقل، في عام 2021 أدّى ارتفاع الطلب على السلع القابلة للتداول في الاقتصادات المتقدمة بالتزامن مع اختناقات العرض المرتبطة بالوباء، إلى زيادة أكلاف الشحن بشكل ملحوظ، ما زاد الضغوط على ميزان الحساب الجاري لبعض الاقتصادات (منها فرنسا وكوريا).
وتُقدر زيادة عجز الحساب الجاري للولايات المتحدة بنسبة 0.4% من الناتج المحلي وفائض الصين بنسبة 0.3% من الناتج المحلي لعام 2021. بالإضافة إلى ذلك، في عام 2021، بدأت اقتصادات فائض الحساب الجاري في سحب الدعم المالي أسرع من اقتصادات عجز الحساب الجاري، ما أنتج اتساعاً في الحسابات الجارية العالمية. ويتوقع أن تتسع أكثر في عام 2022، ما يعكس زيادة في أسعار السلع الأساسية (من دون إنكار تأثير الحرب في أوكرانيا).