مع ارتفاع معدلات التضخّم عالمياً، برزت أصوات تطالب بزيادة الأجور لتعويض الضرر اللاحق بالقدرة الشرائية للعمال. لكن تُواجَه هذه المطالب بالتخويف والتهويل من خلق دوامة تضخّم - أجور، أي أن زيادة الأجور تسهم في إشعال معدلات التضخّم، ما يدفع العمال إلى المطالبة بزيادات إضافية على أجورهم من شأنها أن تفاقم التضخّم أيضاً، وهكذا دواليك. هذه الإشكالية تعني أن معالجة التضخّم ستأتي على حساب مداخيل الطبقات العاملة، بينما لم يعد ينظر إلى جذور الأزمة والخيارات الأخرى المتاحة للتعامل معها.جذور التضخّم المرتفع المسجّل الآن حول العالم، تعود إلى سياسات المصارف المركزية بقيادة البنك الفدرالي الأميركي والمصرف المركزي الأوروبي الذين تعاملوا مع مجموعة من الأزمات ظهرت في آخر عقدين من خلال ضخّ النقد في الأسواق بكميات كبيرة بات الاقتصاد العالمي عاجزاً عن استيعابها. في البدء كانت الأزمة المالية العالمية، ثم جائحة كورونا، وأخيراً الحرب الأوكرانية. فبنتيجة ضخّ النقد وخفض الفوائد إلى ما دون الصفر، كان لا بدّ من أن يبدأ التضخّم بالظهور عاجلاً أم آجلاً، وهو ما بدأ يحصل بالفعل اعتباراً من نهاية 2021 إنما تسارعت مفاعيله مع بداية الحرب الأوكرانيّة.

بالأرقام

2570
يورو هو معدّل الأجور الوسطي في أوروبا في عام 2022
6.5
ملايين هو عدد العمّال المنتسبين إلى النقابات في بريطانيا في عام 2021
10.9%
هو معدّل التضخّم على أساس سنوي في الاتحاد الأوروبي في شهر أيلول الأخير
8.8%
هو معدّل التضخّم على أساس سنوي في بريطانيا في شهر أيلول الأخير


حصل التضخّم على حساب الطبقات العاملة في الأسواق. وصف الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان ما يحصل قائلاً: أتى التضخّم على شكل ضريبة على الناس، في مقابل إنقاذ رؤوس الأموال، المتمثّلة بالشركات الكبرى وأصحاب المليارات، الذين حققوا أرباحاً خياليّة خلال الجائحة. بشكل عام، قامت السلطات الغربيّة بتعويم أصحاب رأس المال خلال الجائحة، على حساب الناس، الذين يدفعون ضريبة التضخّم اليوم. بالفعل، فالتضخّم هو، بشكل غير مباشر، نوع من الضرائب التي يتحمّلها المجتمع من دون أن يلحظ ذلك. وبحسب فريدمان، فإن التضخّم هو أحد أشكال الضرائب التي تفرضها السلطات بلا تشريع، وهي لا تحتاج إلى توظيف محصّلي ضرائب للاستفادة منها، أي إن «الدولة تستطيع أن تفرضها من دون أن تتحمّل مسؤوليّة أو أكلاف عواقبها». ويشرح ذلك، بأنه إذا ازدادت الأسعار بنسبة 10% سنوياً، سيتوجب على الناس جمع المزيد من «الأوراق التي تحمل علامة الجنيه» من أجل الحفاظ على قدرتهم الشرائيّة، وبالتالي هذه «الأوراق» الإضافيّة التي يضطرّ الناس إلى جمعها، تعادل، بشكل ما، الضريبة.
عملياً، ما حدث في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في الغرب، كان عبارة عن تحميل الطبقات العاملة ثقل الأزمة. ارتفاع الأعباء الضريبية على الشعوب في سياق واحد مع تراجع القدرات الشرائيّة، لا يترك ملاذاً أمام الطبقات العاملة، ولا سيما في الاقتصادات الغربية، إلا بالمطالبة بتصحيح الأجور. هذا ما يحصل اليوم في فرنسا، وإنكلترا، والولايات المتحدة، وألمانيا... رغم ذلك، انخرطت الحكومات في نقاش لا عقلاني حول انعكاسات رفع الأجور على الاقتصاد. استحضرت الحكومات الغربية، وروّج صندوق النقد الدولي، نظرية دوامة الأجور - التضخم. كان النقاش المتصل بهذه النظرية قد بلغ أوجّه بعد الحرب العالميّة الثانية، حين كانت التوقعات الاقتصاديّة في أميركا تقول بأن هناك تضخّماً قادماً. في ذلك الوقت تحفّز العمال للمطالبة بأجور أعلى لحماية أنفسهم من تداعيات الخطر القادم. واحتدم النقاش مع صعود قوّة الحركات النقابيّة في أميركا في الخمسينيات والستينيات، لكنه انطفأ في الثمانينيات مع موت الحركات النقابيّة في أميركا وفي الكثير من الدول الغربية أيضاً.
إحدى وجهات النظر في النقاش الذي دار في ذلك الوقت، كانت تشير إلى أن زيادة الأجور تسبّب ارتفاع الأسعار؛ أولاً لأن هذه الزيادة تسهم في ارتفاع الكلفة بالنسبة إلى أصحاب العمل، الذين سيقومون بدورهم برفع الأسعار للحفاظ على أرباحهم. وثانياً، لأنها ترفع القدرة الشرائيّة لدى العمّال، وهم الشريحة الأكبر عددياً، ما ينعكس ازدياداً في الاستهلاك يعزّز الطلب مقابل العرض، وهو ما يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار. هذا الأمر يخلق، نظرياً، ما يُسمّى بـ«دوامة الأجور والأسعار»، التي تغذّي نفسها. فكلما ارتفعت الأجور ترتفع الأسعار، وكلما ارتفعت الأسعار تبدأ المطالبة برفع الأجور.
في المقابل، هناك وجهات نظر أخرى تدحض نظرية «الدوامة»، ومفادها أن رفع الأجور لا يمكنه أن يكون سبباً في التضخّم، لأن هذه «الدوامة» ليست حدثاً مجرّداً بحد ذاته، بل إنها أحد العوارض الناتجة عن أزمة التضخّم. فريدمان، مثلاً، يقول إن التضخّم ليس إلا ظاهرة نقديّة «في كل زمان ومكان»، بمعنى أنه لا يمكن إنتاج التضخّم إلا من خلال زيادة كمية المال بشكل أسرع من سرعة زيادة الإنتاج. وهو أمر يُفسّر ما يحدث اليوم، بشكل أو بآخر.

الحكومات الغربيّة دائماً ما تذهب لإنقاذ رؤوس المال فقد حصل هذا الأمر خلال أزمة 2008 الماليّة، ثمّ تكرّر أثناء جائحة كورونا، ولن يكون مفاجئاً أن يحدث خلال المرحلة الراهنة

إذ إن أساس المشكلة التضخميّة التي نشهدها اليوم يعود إلى زيادة النقد بشكل سريع جداً خلال الجائحة، بمعزل عن العوامل التي أسهمت في انعكاس هذا التضخّم على أرض الواقع، مثل العقد في سلاسل التوريد والحرب الروسيّة الأوكرانيّة وغيرها. لذا، إن أي مطالبة برفع الأجور، ليست أكثر من ردّ فعل على المشكلة الأساسيّة التي تسبّبت بها المصارف المركزيّة في المقام الأوّل.
من ناحية أخرى، العلاقة بين الأجور والأسعار ليست مُلزمة. وفق الاقتصادي ريتشارد وولف، فإنه في النظام الرأسمالي، لا يمكن النظر إلى قدرة أصحاب العمل على رفع الأسعار بحريّة، لأن هناك عوامل أخرى تتحكّم بهذا الأمر. فالأسعار في هذا النظام هي في الحقيقة التقاء بين العرض والطلب في السّوق. بمعنى، إن تغيير الأسعار يخلق انعداماً في التوازن بين العرض والطلب، وهو أمر يعرّض المؤسّسات لمخاطر انخفاض الطلب على بضائعها، خصوصاً في ظروف تضخميّة تتآكل فيها القدرة الشرائيّة. بالتالي هذا الأمر يُعرّض المؤسسات لمخاطر التوقّف عن العمل، ما يعني أنها قد تختار رفع الأجور من دون زيادة الأسعار.
ما هو أكيد أن الحكومات الغربيّة دائماً ما تذهب لإنقاذ رؤوس المال. فقد حصل هذا الأمر خلال أزمة 2008 الماليّة، ثمّ تكرّر أثناء جائحة كورونا، ولن يكون مفاجئاً أن يحدث خلال المرحلة الراهنة التي تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى أزمة ركود تضخّمي. لذا، لا يمكن لوم العمال الذين يريدون استعادة بعض من قدرتهم الشرائية بينما كل السياسات ضدّهم، من ضخّ النقد وصولاً إلى رفع أسعار الفائدة لسحب المعروض النقدي من السوق. هذه السياسات تأتي على حسابهم من خلال ارتفاع أكلاف الديون وتقليص مداخيلهم القابلة للاستعمال.