إنه عالمٌ مضطرب. الأزمات السياسية والاقتصادية تنحسر فقط لتنفجر بشكلٍ أكبر. سكان النصف الشمالي من الكوكب، هؤلاء المترفون المتبجحون بالأخلاقيات والمُثل العليا، والتي توفرت لهم بعد نهب ثروات الجنوب، يتقاتلون اليوم أمام محطات البنزين وسط تقنين لاستهلاك الطاقة لا يكاد يصل إلى نصف ما هو عليه في أزمة لبنان. رغم ذلك، فإن أزمة التضخّم في الغرب انفجرت على شكل تظاهرات وإضرابات عمّالية قادتها النقابات. فالشتاء قادم، ورواتب العمّال قضمها التضخم، وبالتوازي، ارتفعت كلفة الطاقة بشكل كبير. فكيف تحركت نقابات العمّال في أوروبا؟ أين تكمن المشكلة برأيهم؟ وما هي سُبل الحل؟يعاني مواطنو الاتحاد الأوروبي من تضخم لم يُشهد مثيلاً له منذ عقود. في ألمانيا، وصل المعدل إلى نسبة 11%، وبلغ التضخم في لاتفيا وليتوانيا 22.5%، بينما سجّلت هولندا أكبر زيادة شهرية في الأسعار التي قفزت من 13.7% في آب إلى 17.1% في أيلول. والمملكة المتحدة سجّلت 10.1%. في المقابل تحقق شركات الطاقة أرباحاً خيالية. وانعكس كل ذلك احتجاجات وإضرابات تقودها النقابات العمالية انطلاقاً من رؤية شاملة للاقتصاد. أكبر اتحاد للعمّال في أوروبا، هو «الاتحاد الأوروبي لنقابات العمّال» (ETUC). هو أبرز منظّمة نقابية تمثّل العمّال في الاتحاد الأوروبي، وهو يقوم بدور استشاري مع المفوضية الأوروبية ويتفاوض بشأن الاتفاقيات وبرامج العمل مع أصحاب العمل الأوروبيين، بالإضافة إلى تنسيق السياسات الوطنية والقطاعية للشركات التابعة له في ما يتعلق بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على صعيد الاتحاد الأوروبي. حالياً، يمثّل «الاتحاد الأوروبي لنقابات العمال» نحو 45 مليون عامل ينتمون إلى 89 اتحاداً نقابياً وطنياً من 39 دولة أوروبية، وبينهم 10 اتحادات صناعية. وفي بلدان أخرى مثل ألمانيا والنمسا وبلجيكا والسويد وفنلندا ودول الشمال الأخرى، هناك نقابات مركزية قوية واتحادات عمالية قطاعية واتحادات وطنية عامة. وأكبر اتحاد نقابي داخل أوروبا هو «الاتحاد الألماني للنقابات العمالية». وعلى الأقل هناك اتحادان وطنيان داخل كل دولة أحدهما يمثّل العمّال المهنيين أو اليدويين ويُطلق عليه اتحاد النقابات العمالية لذوي «الياقات الزرقاء»، والثاني يمثّل الموظفين الذين يعملون خلف المكاتب ويطلق عليه اتحاد النقابات العمالية لذوي «الياقات البيضاء».
في العقود الأخيرة لوحظ تراجع الانتساب إلى النقابات العمالية في البلدان الأوروبية. بدأ يظهر هذا النمط في الثمانينيات، في أوروبا وأميركا، عندما نفذت إدارة رئيس الولايات المتحدة، حينها، رونالد ريغان، وحكومة مارغريت تاتشر في بريطانيا، سلسلة من التوجيهات الاقتصادية النيوليبرالية لمواجهة الركود التضخّمي الكبير الذي استمر طوال السبعينيات. بالاستناد إلى الأفكار النيوليبرالية التي تروّج لتحرير الأسواق، وإلغاء ضوابط الأسعار، وتقليص تدخّل الدولة، وترك السوق يعالج نفسه، جرى قمع النقابات العمّالية. ففي بريطانيا، بلغ عدد المنتسبين إلى النقابات ذروته عام 1979 وضمّ نحو 13.5 مليون عامل، إلا أن العدد انخفض إلى 6 ملايين منتسب بحلول نهاية القرن العشرين بسبب الضوابط التي فرضتها حكومة تاتشر. ومذاك، لم يزد عدد المنتسبين بل استقرّ ليبلغ 6.5 مليون في عام 2021. ففي الفترة بين عامَي 1979 و1997 أقرّت حكومتا تاتشر وجون ميجر خمسة قوانين للتوظيف وقانوناً للنقابات العمالية من شأنها أن تقيّد الحق في الاعتصام، ومنع النقابات من دعم بعضها البعض، فضلاً عن تحديد نسبة اقتراع للإضراب ارتفعت تدريجاً لتبلغ 50% من الأعضاء. مخالفة الاقتراع على الإضراب يؤدي إلى فرض غرامة ومصادرة أصول العمّال. أما في الولايات المتحدة، فقد سُمح للحد الأدنى للأجور بالانخفاض مقابل متوسّط ​​الدخل. وعلى الصعيد العالمي، كانت عضوية النقابات العمالية تتراجع بمرور الوقت، وبالتالي قدرتها على تنظيم العمال وخدمتهم تقلصت كثيراً.
استمرّ هذا المسار حتى جائحة كورونا. بعد رفع قيود الجائحة في الغرب، برز تبدّل في مزاج العمّال. مفهوم العمل في ظل النيوليبرالية بات خاضعاً للنقاش. ففي أميركا، هناك من تأثر بالاقتصادي الأميركي ريتشارد وولف الذي ذاع صيته بعد الأزمة المالية عام 2008 كناقد لاذع للنظام الرأسمالي الأميركي، وخصوصاً ما ورد في كتابه «الديمقراطية في مكان العمل: علاج للرأسمالية» إذ طرح فكرة تطبيق الديموقراطية داخل المؤسّسات والشركات وعدم اقتصارها على نظام الحكم، فيكون للعمال والموظفين الحقّ في تقرير أهداف الشركة وإنتاجها ووسائل الإنتاج والتوسع، لا أن يترك الأمر بين أيدي أعضاء مجلس الإدارة. أضف إلى ذلك، ظاهرة آخذة في التوسع، وهي الحملات عبر منصة «تيك توك». الفئات الشابة في الولايات المتحدة، اتخذت من التطبيق منصة لنشر مشكلاتهم الاقتصادية وهمومهم المعيشية. وبعض المستخدمين ينقل فيديوات مباشرة لشوارع تعج بشباب أميركي يعيش في سياراته، مقابل منازل فارغة ليس باستطاعتهم استئجارها، ويدعون إلى الفعل مثلهم، ومقاطعة سوق العقارات في محاولة لإرغامه على خفض الأسعار.
أما في أوروبا، فثمة أمر مشابه بدأ يظهر بوضوح بعدما سجّل تضخّماً كبيراً في الأسعار وما تلاه من أزمة شحّ في الغاز والبنزين. فقد باتت النقابات العمالية في أوروبا تتهم تجّار المحروقات باستغلال الأوضاع لمراكمة ثروات فاحشة على حساب المجتمع والاقتصاد حتى صار يطلق على التضخم الحالي تسمية «Greedflation» بمعنى «تضخّم الجشع». أرباح الشركات لم تكن مرتبطة بالأداء الذي تحقق من خلال الاستثمار والتقدّم التكنولوجي، بل في أنها تمثّل احتكار القلّة ما يتيح لها استغلال المستهلك عبر فرض أسعار غير معقولة على المنتجات التي لا بدائل لها.
من أبرز الأمثلة على احتكار شركات الطاقة وتزايد أرباحها بشكل مخيف في أميركا وأوروبا، إعلان شركة «Exxon Mobile» الأميركية تحقيقها أرباحاً بقيمة 17.9 مليار دولار في الربع الثاني من 2022 مقارنة بـ5.5 مليار دولار في الربع الأول، أي ثلاثة أضعاف. وبلغت أرباح «BP» في الربع الأول، ثلاثة أضعاف أرباح العام الماضي البالغة 9.1 مليار دولار. وزادت مجموعة الطاقة الألمانية «RWE» أرباحها بأكثر من الثلث لتصل إلى 2.8 مليار يورو في النصف الأول من عام 2022. وسجلت الشركة النمساوية «ÖMV» ربحاً بنسبة 124% في الربعين الأولين.
في سياق التضخم المتزامن مع تضاعف أرباح المحتكرين، اندفعت النقابات العمالية في أوروبا إلى الشارع. تقول إستر لينش، نائبة الأمين العام لـ«الاتحاد الأوروبي لنقابات العمّال»، إن «الأزمة الحالية لها تأثير أكبر حتى من الأزمة المالية على ذوي الأجور المنخفضة». و«بمعزل عن القدرة على التقشف في مصروف الأسرة، إلا أنها لن تقدر على تغطية نفقاتها». كذلك تقول رئيس نقابة «Huisjing» الهولندية، تور إلزينغا: «لم يتم عمل أي شيء هيكلي لمعالجة الأسباب الأساسية لاختلال التوازن في المجتمع. لقد أصبحنا أكثر ثراء كدولة، لكن الأموال لا تزال في جيوب قلّة محدّدة». وفي فرنسا، وقّعت شركة «توتال إينيرجيز» أخيراً اتفاقاً حول الأجور مع نقابتين لإنهاء واحد من أكبر الإضرابات العمالية الذي شلّ حركة توزيع المحروقات. نصّت الاتفاقية على زيادة بنسبة 7% في عام 2023 اعتباراً من تشرين الثاني، ومكافأة بين 3 آلاف و6 آلاف يورو، لكن الاتحاد العمالي العام هناك، طالب بأن لا يقتصر الأمر على ذلك، بل أن «تتوافق الزيادة مع التضخم، وأن يجري تقاسم الثروة، إذ إن توتال تعمل بشكل جيد وتمت خدمة المساهمين منذ فترة طويلة».
رئيس نقابة «Huisjing» الهولندية، تور إلزينغا: لقد أصبحنا أكثر ثراء كدولة لكن الأموال لا تزال في جيوب قلّة محدّدة


والمواجهة على محور مطلب زيادة الرواتب وتعويض ما تآكل منها بفعل التضخّم، تمتدّ حالياً إلى قطاعات أخرى في فرنسا. فقد اشتبك عشرات المحتجّين المتّشحين بالسواد مع الشرطة، وحطّموا واجهات المتاجر في شوارع باريس. يأتي هذا الإضراب، الذي يشمل القطاعات العامة مثل المدارس والنقل، امتداداً لإضراب عمال شركات المحروقات. وتأمل قيادات النقابات العمالية، أن يتحرك الموظفون في القطاع الرسمي بسبب قرار الحكومة إجبار بعضهم على العودة إلى العمل في مستودعات البنزين لمحاولة إعادة تدفقات الوقود. لكن «الكونفدرالية العامة للشغل»، دعت إلى إضراب مستمرّ للأسبوع الرابع في منشآت لشركة «توتال إنرجيز»، وطالبت بزيادة الأجور بنسبة 10%، مشيرة إلى التضخم والأرباح الضخمة للشركة. كما قالت شركة «يوروستار» إنها ألغت بعض خدمات القطارات بين لندن وباريس بسبب الإضراب.
إزاء هذا المشهد، يبدو أن النقابات العمّالية الأوروبية متماسكة بوجه ما يروّج له من ذرائع حول أن «زيادة الأجور ستؤدي إلى ارتفاع التضخم».



ارتفاع حادّ في مؤشر توزيع الأرباح
يشير تقرير نشره موقع «Euractiv» (شبكة إعلامية أوروبية متخصصة في سياسات الاتحاد الأوروبي)، إلى أن مراكمة الثروات خلال الأزمة لم يقتصر فقط على الشركات النفطية، إذ يُظهر مؤشّر توزيعات الأرباح العالمية ارتفاعاً حاداً في المدفوعات في جميع المجالات. فقد دفعت الشركات الأوروبية لحملة الأسهم 29% أكثر من العام الماضي. وبالتوازي، تستمر محافظ المديرين التنفيذيين في جمع ملايين الدولارات. يكسب الرئيس التنفيذي العادي 278 ضعفاً أجر العامل العادي. وبدلاً من تعويض العمال، دفعت الشركات مبالغ طائلة ومكافآت كبيرة للمديرين التنفيذيين.