مع إتمام الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية للبنان وتحديد حقوق المستفيدين من حقل الغاز في البلوك الرقم 9، تبدأ مرحلة جديدة في لبنان متصلة بمسار التنقيب عن الغاز واستخراجه، ثم تحديد آليات استعمال العائد منه والأهداف الاقتصادية والاجتماعية. بالتأكيد، الاستخراج يتطلب وقتاً زمنياً ولا سيما أن مسألة طريقة البيع غير محسومة بعد، إنما من المهم رسم خريطة طريق واضحة وأفق اقتصادي واضح لتحسين فرص استغلال الغاز المستخرَج، سواء من خلال استخدامه في الداخل، أو بيعه للخارج والاستفادة من عائداته بالعملة الأجنبية. أساس هذه المقاربة أن يجري التخطيط لاقتصاد واضح المعالم يأخذ في الحسبان حجم البلد عددياً واقتصادياً، ووضعه الإقليمي والدولي، وقدراته الإنتاجية في المنافسة المحلية والخارجية... المطلوب أن تكون لدى لبنان سياسات وطريق بأهداف شاملة ومحدّدة من خلال الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة

ليس واضحاً بعد حجم احتياطات الغاز القابلة للاستخراج في البحر اللبناني، لكن حتى في حال لم تكن الكميات ضخمة، يُمكن استغلال هذه الثروة للنهوض الاقتصادي المحلّي، إذ إن الكميات المنتجة ستمنح الاقتصاد دينامية فائقة للتطوّر والتنمية إلى حدّها الأقصى. أما إذا كانت كميات الغاز المُنتجة كبيرة، فستزداد صادرات الغاز بما تمثّله من عوائد بالعملة الأجنبية ناتجة من تصدير الغاز إلى الخارج. لكن إزاء التعقيدات التي قد ترافق مسألة البيع إلى الخارج ولا سيما أن الأمر يتطلب وجود أنابيب نفط متصلة بمواقع الاستخراج ومقاصد البيع، أو وجود معامل تسييل للغاز لتحميله على البواخر وبيعه في الأسواق الدولية وكلاهما خطوات تحتاج إلى استثمارات كبيرة وفترة زمنية طويلة لتنفيذها، يمكن البدء بالاستغلال الداخلي للمخزون الذي يمكن استخراجه سريعاً.

1.1

مليار دولار أفضل سيناريو لمعدّل التدفّقات المالية السنوية الناتجة من استخراج الغاز


ما الذي يعنيه استعمال الغاز المستخرج، في الداخل؟ ما هو الأثر الذي يتركه ذلك على الاقتصاد اللبناني؟ ما هي القطاعات التي ستستفيد من هذا الغاز؟ أي دورة اقتصادية سيتم تحفيزها بفعل الكميات المستخدمة في الداخل؟
تقول ورقة أعدّتها مؤسسة جمعية المواطن، بالاستناد إلى أرقام وكالة المسح الجيولوجي في الولايات المتحدة الأميركية، إن كل كميات الغاز المتوقع اكتشافها في حوض المتوسط تبلغ 3450 مليار متر مكعب. وبالاستناد إلى حقول الغاز المكتشفة في الجوار، ووفقاً للمعايير التقنية والاستثمارية وللمصالح المتعلقة بالأطراف (الدولة، الشركات المستخرجة، البيع، استرداد الكلفة، فترة الاستخراج القصوى، الكميات...) فإن أفضل سيناريو للبنان هو أنه يكتشف سريعاً في كل المياه الإقليمية أن لديه ما يفوق 500 مليار متر مكعب من الغاز، وأن يكون الاستخراج على فترات تمتدّ إلى عام 2074 ضمن وتيرة تتيح له تصدير 12 مليار متر مكعب سنوياً، وكفاية ذاتية في الاستهلاك الداخلي. التصدير سيؤمن نحو 1.1 مليار دولار سنوياً.
إذاً، ما هو أفضل استخدام داخلي للغاز؟ المسألة الأساسية تكمن في إنتاج الكهرباء. فهذا الأمر سيكون له أثر واسع على ميزان الحساب الجاري الواقع في عجز كبير، مصدره الأساسي الاختلال لمصلحة الاستيراد الذي تشكّل الواردات النفطية القسم الأهم منه. تقليص فاتورة الاستيراد من خلال تحويل إنتاج الكهرباء بشكل كامل إلى الغاز، وزيادة كميته، سيؤدي إلى مجموعة نتائج مهمّة مثل خفض فاتورة الكهرباء على المستهلكين، استدامة تقديم الخدمات، لكنّ الأهم، أنه سيلغي أكثر من 2 مليار دولار من فاتورة الاستيراد وبالتالي سيتقلص العجز في الحساب الجاري (يبلغ هذا العجز حالياً 2.5 مليار دولار). ففي الوضع الحالي يستورد لبنان الفيول أويل والمازوت لتشغيل المعامل، أو المازوت وحده لتشغيل مولدات الأحياء بكلفة باهظة مقارنة مع كلفة الإنتاج بواسطة معامل مؤسسة كهرباء لبنان. هذه الكلفة تمثّل عبئاً أساسياً على الاقتصاد اللبناني، وتقليصها يعني تقليص عجز الحساب الجاري، ما ينعكس مباشرة على التوازن في سعر الصرف لأنه يخفف الطلب على الدولارات التي يستحوذ عليها تجّار الفيول والمازوت لتمويل الاستيراد.
توليد الطاقة بغاز منتج محلياً، يعني أن كلفة إنتاج الكهرباء ستكون أقل؛ أولاً، لأن توليد الطاقة على الغاز أقل كلفة وأكثر فعالية من توليد الطاقة بواسطة الفيول أو المازوت، ولهذا السبب اتجهت البلدان في العقود الأخيرة إلى الغاز كمصدر لإنتاج الطاقة بدلاً من المصادر الأخرى التقليديّة. وثانياً، لأن استخدام الغاز المنتج محلياً يعني أن كلفة الطاقة تقتصر فقط على كلفة إنتاج الغاز، بدلاً من أن تكون متعلّقة بأسعار الغاز العالميّة التي تتحكّم فيها حركة العرض والطلب. ولأن الطاقة هي مُدخَل أساسي في القطاعين الزراعي والصناعي، يُمكن استغلال الطاقة الرخيصة لتحفيز هذين القطاعين. فتُصبح القيمة المضافة الموضوعة في الإنتاج مرتفعة بشكل يساهم في زيادة الربحيّة. وهذا الأمر يسهم في زيادة الاستثمارات وبالتالي يُساهم في توسيع الدورة الاقتصاديّة ونمو الاقتصاد.

الشيء الأهم في مسألة التعامل مع الكميات المستخرجة لجهة الاستهلاك المحلي أو التصدير الخارجي، هو أن تكون هذه الإيرادات جزءاً من خطّة متكاملة


لا يقتصر الأمر على الكلفة المباشرة للكهرباء. ففي ظل إنتاج مستقرّ للكهرباء وتعرفة مبنية على كلفة تشغيل بواسطة الغاز الطبيعي، سيتاح خفض أكلاف الإنتاج على القطاع الخاص، ولا سيما الأكلاف المتعلقة بالصناعات التي تستخدم الطاقة المكثفة، مثل مصانع الألمنيوم، مصانع الزجاج، مصانع الإسمنت، وبدرجة أقل على الصناعات التحويلية التي تُراوح كلفة الطاقة فيها ما بين 20% و40% من مجمل الكلفة. في الواقع، إن كلفة الإنتاج المرتفعة للكهرباء، أدّت إلى إقفال الكثير من المعامل في لبنان التي كانت لديها أفران حرارية تعمل بواسطة الغاز والمازوت والكهرباء.
يمكن استخدام الغاز محلياً بأشكال أخرى متعددة، لكن هذه الأشكال من الاستهلاك تحتاج لبنى تحتية مناسبة لاستهلاكها. فمثلاً الاستهلاك المنزلي يحتاج إلى شبكة نقل تصل إلى المنازل بشكل مباشر، تماماً مثل شبكات المياه. وهذا الأمر بحاجة إلى استثمار كبير من قبل الدولة. إلا أن توفير هذا الخيار يمكن أن يغني عن استيراد مشتقات طاقة إضافية مثل المازوت المستخدم للتدفئة أو الغاز المنزلي. وهذا الأمر يسهم في تخفيف الضغط عن سعر الصرف بشكل إضافي.
كما يمكن الاستفادة من الغاز في قطاع النقل العام، إذ يمكن تحويل مركبات النقل العام إلى العمل بواسطة الغاز، والاستفادة من كلفته المنخفضة لتأمين شبكة واسعة من النقل العام المشترك الزهيد الكلفة، ما يسهم في تخفيف الكلفة عن المستهلكين ويضيف فعالية أكبر على النشاط الاقتصادي. فانخفاض كلفة النقل على الأفراد يعني زيادة في الدخل وفي القوة الشرائية، ما قد يتيح لهم قدرة استهلاكية أكبر أو يشجّعهم على الادّخار والاستثمار. لكنّ استخدام الغاز بهذه الطريقة يحتاج أيضاً إلى استثمارات في تحويل قطاع النقل العام، وبشكل خاص الباصات، للعمل على الغاز.


ومع ارتفاع أسعار الغاز عالمياً، أصبح خيار تصدير الغاز خياراً أكثر جاذبيّة. لذا، من المهم دراسة جدوى الاستخدام الداخلي مقارنة مع التصدير. بعض الدول مثل مصر بدأت تخفض الاستهلاك الداخلي للغاز من أجل زيادة التصدير، وهدفها إدخال عملات أجنبية أكبر إلى البلد من أجل إعادة التوازن إلى ماليتها المثقوبة بسبب البنية الجديدة التي وضعتها بالاستناد إلى نماذج صندوق النقد الدولي. فهذا التصدير يأتي على حساب حرمان المصانع المحلية من التنعّم بقدرة إنتاجية كاملة، أي أنه يأتي على حساب القدرة القصوى الإنتاجية، ما يعني إنتاجاً أقلّ، ما يعني أن الطلب الاستهلاكي عليه أن يتأقلم لتغطية النقص في الإنتاج المحلي من خلال الاستيراد بما يعنيه ذلك من طلب على العملة الأجنبية لتمويل الواردات، أو أن الفائض في الكميات المنتجة محلياً والذي كان يُصدر إلى الخارج سيتقلص. كذلك، فهذا يعني وظائف أقل في المعامل، وعدد ساعات عمل أدنى، أي أجوراً أقل.
الشيء الأهم في مسألة التعامل مع الكميات المستخرجة لجهة الاستهلاك المحلي أو التصدير الخارجي، هو أن تكون هذه الإيرادات جزءاً من خطّة متكاملة، لا تتعامل معها كمصدر وحيد لتغطية الخسائر التي تراكمت في النظام اللبناني على مدى العقود الثلاثة الماضية، بل على أنها مكسب للاقتصاد يُستخدم لبناء اقتصاد منتج على المدى الطويل، إذ يمكن، من خلال وضع خطة طويلة الأمد، أن تُستخدم هذه الإيرادات في مشاريع تنموية، مثل توسيع وتطوير البنى التحتية في قطاعات مختلفة، مثل تمويل التغطية الصحية الشاملة، وزيادة القدرة الإنتاجيّة للكهرباء للاستفادة القصوى من عدد ساعات التغذية، وإرساء شبكة نقل تربط المناطق اجتماعياً واقتصادياً. كما يمكن تمويل المشاريع الاقتصاديّة بشكل مدعوم، ما يساهم في تطوير القدرة الإنتاجيّة في الاقتصاد. هذا الأمر يحتاج إلى وضع هذه الإيرادات تحت إشراف دقيق، يضمن أن لا تُستخدم هذه الأموال بطرق غير مدروسة. وهو أمر يحتاج إلى إقرار قوانين تحمي هذه الأموال ووضعها في عهدة جهات مختصة بعيداً عن المناكفات السياسيّة المعتادة في البلد. حالياً، هناك عدد من الاقتراحات المتصلة بالصندوق السيادي وحدود استعماله. يعتقد البعض أن هناك تدفقات هائلة ستصبّ في هذا الصندوق، بينما لبنان يرزح تحت عبء أزمة طاحنة وخسائر هائلة لم يتم توزيعها بعد. استخدام هذا الصندوق لترحيل الخسائر إلى المستقبل وتمويلها منه سيكون خسارة كبرى للاقتصاد ولفرص النهوض.