غالباً ما تكون أسعار النفط محدِّداً أساسياً، من ضمن محدّدات أخرى عديدة، لوجهة الاقتصاد الرأسمالي، ولا سيّما خلال الأزمات. فهي تتحرّك وفقاً لمنطق التضخّم نفسه، إذ يكون ارتفاعها النسبي مؤشّراً على نموّ الناتج الإجمالي العالمي، مع زيادة الطلب على موارد الطاقة لأغراض صناعية وتجارية، قبل أن يبدأ المفعول العكسي لهذا الارتفاع، مع كبح نموّ الأسعار الشديد، لحالة التعافي. وكما في حالات التضخّم المعتادة، تنتهي التقلّبات في الأسعار بسرعة، مع تَرْك عملية التصحيح، للسوق نفسها. إذ لا حاجة، مع التوازن الحاصل بين العرض والطلب، لتدخّل مباشر من منتجي النفط الكبار، سواءً داخل أوبك أو خارجها، بغية تصحيح الخلل في التدفّقات النفطية. ظلّت هذه المعادلة سارية، حتى عام 2014، حين بدأت ارتدادات أزمة الرهون العقارية بالتأثير على أسواق النفط. فمع شحّ السيولة النقدية في العالم، على إثر تطبيق سياسات التشديد الكمّي، تراجَعَ الطلب إلى حدود كبيرة، وانهارت الأسعار، إلى حدّ ملامسة سعر البرميل قعر الـ25 دولاراً، وبالتالي لم يعد عامل السهولة في إنهاء التقلّبات، قائماً. هكذا، بل تعطّلت الأداة السوقية الخاصّة بالتصحيح الذاتي، وصار التدخّل من جانب المنتجين «أمراً محتوماً».

الحاجة المشتركة للتدخّل
التزامن بين الأزمتين أضفى طابعاً مركّباً على ديناميات الاقتصاد الرأسمالي المستجدّة. فالحاجة إلى التدخّل أصبحت مشتركة بين الأطراف التي تدير السياستين النقدية والنفطية، مع خروج دورات التضخّم والركود عن السيطرة بالنسبة إلى السياسات النقدية، وحصول تقلّبات غير مسبوقة في أسعار المواد الخام بالنسبة إلى الدول المنتجة للنفط. في هذا السياق وُلِدت مجموعة «أوبك بلاس» لتصبح هي الجهة المسؤولة، ليس فقط عن تسعير النفط، بل أيضاً عن منع السوق من إيصال التقلّبات في الأسعار، إلى الحدّ الذي يهدّد، أرباح المنتجين الكبار. المعادلة التي أرْسَتها المجموعة، منذ عام 2014، تشبه إلى حدٍّ كبير ما حصل في سوق النقد، حيث التدخّل يحصل في حالتين: حين ترتفع الأسعار إلى الحدّ الذي يهدّد بحدوث تضخُّم غير مسيطر عليه، ثمّ حين تنخفض، لاحقاً، إلى درجة تَحَوُّل «الركود المطلوب» إلى عائق أمام استمرار الطلب على السلع والخدمات. أي على النموّ الرأسمالي نفسه. الكبح الذي حصل في الحالتين لمنطق العرض والطلب، أوصَلَ السوق إلى حالة، لا تعود فيها قادرة على إدارة نفسها بنفسها. ثمّة بهذا المعنى، ليس فقط «كينزية جديدة»، أو نسخة مُحدثة من دولة الرعاية، بل أيضاً «اشتراكية فوق دولتية»، ولكن بين المستفيدين من التدخّل الرأسمالي، حصراً. وهو ما يفسّر، الكباش الحاصل بين الحزبين في الولايات المتحدة على السياسة الاقتصادية، إذ يعتبر الجمهوريون إقرار رزم التحفيز البليونية، بمثابة «اشتراكية»، تمارسها المصارف المركزية على نطاق دولي، فيما يكتفي الديموقراطيون تحت إدارة بايدن بالقول، إنها حاجة للإبقاء على التدفقّات الرأسمالية، قائمة. والحال أن حجّة الديموقراطيين أقوى بالفعل، لأنّ ما يحصل عملياً، هو إضافة أداة جديدة إلى الأدوات السابقة للتحكُّم بالسيولة، بحيث لا يتم تصحيح التدفقّات فحسب، بل أيضاً مضاعفة حجم النقد، بمعدّل قياسي. أي، إلى الحدّ الذي يتم فيه إغراق الأسواق فعلياً، بالنقود. غير أنّ حصول ذلك مرهون بتعطيل عمل الأسواق، جزئياً، والحدّ من سياسة العرض والطلب. بمعنى، استخدام القيود التي وضعتها الاشتراكية ومن بعدها الكينزية، على تدفّقات رأس المال، في اتجاه معاكس، بُغية رفع معدّل الربحية التي كبحتها تقلّبات الأسواق، عقب أزمة عام 2008. وهي، تقريباً «الفلسفة ذاتها» التي قادت إلى إنشاء مجموعة أوبك بلاس، في سوق النفط، حيث الحاجة إلى الحفاظ على معدّل الربحية، تقتضي أو تتطلّب كبح السوق، بدلاً من تركها تعمل بمفردها كما كانت سابقاً.

اشتراكية الدول الغنية
التدخّل بهذا المعنى، يحصل لمصلحة نموذج لا تستفيد منه أيّ أكثرية تُذكر، سواءً لجهة قوى العمل أو الدول النامية. فالطلب وفقاً لهذه المعادلة، لا يكون مدفوعاً بسياسة إنتاج واستهلاك واضحة، بقدر ما يرتبط بإتاحة السيولة بكثافة، لجعل العودة عن معدّلات التضخم المرتفعة محفوفة بمخاطر «الركود المستدام». هذا يصعّب إلى حدّ كبير، إنهاء التقلّبات في الأسواق، وبالتالي يؤدّي إلى إطالة أمَد الأزمة، لا سيّما بالنسبة إلى الفئات الأكثر هشاشة، سواءً داخل الدول الرأسمالية أو خارجها. والحال أنّ موقع هذه الفئات في النموذج الجديد هو الأضعف، لأنها تعجز في الحالتين عن مجرّد البقاء. فلا هي قادرة على مواكبة التضخّم بفعل تآكل قوّتها الشرائية، حتى حين تكون ثمّة سيولة في الأسواق، ولا هي تستطيع، أيضاً، تحمّل الركود الذي يهدّدها بالبطالة والخروج من سوق العمل، بمجرّد الشروع بسياسة التشديد النقدي. الثمن الذي تدفعه، في الحالتين، هو نتاج تعطيل عمل السوق، لمصلحة الجهات التي تضع السياستين النقدية والنفطية. فالمصالح الرأسمالية هنا باتت مهدّدة، بفعل التقلّبات الشديدة، ليس في الأسعار فحسب، بل في تدفّق الرساميل نفسها، ومعها بالطبع، السلع والخدمات واليد العاملة. هكذا، يصبح التدخّل، سواءً في سوق النقد أو في السوق النفطية، معادلاً لما يسميه بعض الاقتصاديين الماركسيين «اشتراكية الأغنياء»، حيث الاستفادة محصورة بالاقتصادات الصناعية الكبرى القادرة على الصمود أمام أسعار الفائدة المرتفعة، وإزاء صعود النفط والغاز وموارد الطاقة الأخرى.
الاستفادة من التدخل الرأسمالي في الأسواق محصورة بالاقتصادات الصناعية الكبرى القادرة على الصمود أمام أسعار الفائدة المرتفعة وصعود النفط والغاز وموارد الطاقة الأخرى


المعاناة من التدخّل النقدي النَّشِط
والحال أنّ حصّة الدول النامية من هذه الخسارة أكبر من غيرها. فحين يحصل التدخّل لمصلحة تشديد السياسة النقدية، لا تقتصر تداعياته، بالنسبة إليها، على فقدان الوظائف وارتفاع معدّل البطالة، بل تتعدّاهما، إلى التأثير، سلباً، على الاقتصاد الكلّي لهذه الدول. فمع ارتفاع أسعار الفائدة، تتعزّز قيمة الدولار تجاه باقي العملات، وبالتالي تصبح كلفة الاستيراد أعلى بالنسبة إلى الاقتصاد. يؤدّي ذلك، إلى وقوع عجز في الميزان التجاري، أكبر من ذاك الحاصل في الفترة التي يكون فيها الدولار أرخص، هذا إذا كان ثمّة بالفعل وَفْر أو فائض في أيّ مرحلة سابقة، على اعتبار أنّ واردات هذه الدول، غالباً ما تكون أكبَر من صادراتها. حتى الميزة الوحيدة الناجمة عن صعود الدولار، والمتمثّلة في انخفاض قيمة العملة المحلّية، على ضفّة الصادرات، تصبح مع ازدياد كلفة الاستيراد، غير ذات جدوى. بمعنى أنّ حجم الواردات سيظلّ أكبر، مهما ازدادت التنافسية المدفوعة بعامل التصدير المستفيد من رخص العملة، إذ غالباً ما تمتصّ أسعار الفائدة المرتفعة، الموضوعة رأسمالياً، أيّ زيادة في الإنتاج المحلّي ومعه التصدير، لمصلحة الواردات. ويزداد الأمر سوءاً، مع خروج الرساميل الأجنبية بكثافة، من الأسواق الناشئة، حيث تنخفض جاذبية الاستثمار، بسبب انخفاض قيمة العملة التي تتحوّل إلى عبء على المستثمر الأجنبي، حتى حين تكون كلفة إنتاجه ومعها أجور العمالة المحلّية والرسوم والضرائب، أقلّ من نظيرتها، في الغرب أو في الأسواق الرأسمالية. انخفاض الأرباح هنا، يقود إلى مشكلة أكبر من خروج الرساميل نفسها، فمع الانهيارات الكبيرة في البورصات وإقفال الشركات المتعاملة مع الأجانب، يتقلّص حجم سوق العمل المرتبط بهذه الصناعات، وتخسر الطبقة العاملة المحلّية، كلَّ الوظائف التي توافرت لها، في مرحلة طفرة الاستثمارات في الأسواق الناشئة. كلّ ذلك، بسبب المقامرة التي تمثّلها السياسات الرأسمالية الجديدة، الخاصّة بالتدخّل النَّشِط، لا سيّما مع تواترها الشديد أخيراً، بُعيد استفحال دورات الركود والتضخّم، إلى حدود بعيدة.

الأثَر المزدوج لخفض إنتاج النفط
على أنّ الأثَر الذي تتركه المقاربتان النقدية والنفطية، على الدول النامية، ليس واحداً. فالتركُّز الكبير للثروة، غرباً وشمالاً، المصاحِب لرفع أسعار الفائدة، يقابله تركُّز مقابل، أو معادِل، لسياسة خفض إنتاج النفط، شرقاً وجنوباً. العوامل الجيوسياسية هنا، تلعب الدور الأكبر في حصول هذا النوع من التوازن، ولكن ليس من دون تفاوتات كبيرة، داخل الدول النامية نفسها. فالمصلحة المشتركة لهذه الدول في تكبيد الدول الرأسمالية خسائر، على مستوى الاستفادة من الريوع النفطية، يتحوّل أحياناً، إلى وبال على البلدان الأكثر فقراً في الجنوب، لا سيّما تلك التي تعتمد في وارداتها، على النفط والغاز. ويزداد الحال سوءاً، حين تتزامن استراتيجية خفض الإنتاج، مع أزمات اقتصادية أكبر، على مستوى العالم، مثل تلك الحاصلة منذ أشهر، في أوكرانيا. بالنسبة إلى معظم الدول التي نأت بنفسها، فعلياً، عن الحرب هناك، لا تساعد خطّة أوبك، على تسريع تعافي الاقتصاد العالمي، أو «إعادة التوازن إلى الأسواق»، كما تقول المجموعة في متن قرارها. حتى لو لم يُعلَن هذا الموقف، فإنه يبقى حتى إشعارٍ آخر، محدِّداً لاستراتيجية الدول التي لا ترى مصلحة في الانحياز، عسكرياً، إلى أيٍّ من طرفي الانقسام العالمي. ومع أنها أقرَب جيوسياسياً، وحتى اقتصادياً، إلى موسكو ومعها الصين، إلا أنّ المصلحة التي تجمعها مع روسيا في تعزيز المواجهة مع الغرب، استراتيجياً، لا تنسحب على نظيرتها الاقتصادية. فهذه الأخيرة، تبدو أقرَب، إلى سياسة الحفاظ على معدّلات الأرباح، معتدلة، إن لم نَقُل، منخفضة، بالنسبة إلى تسعير النفط. التموضع الاقتصادي يُملي عليها ذلك، حيث تعتبر كدول مستهلكة من أكثر المتضرّرين من سياسة خفض الإنتاج، وهو اعتبار يتقدّم على سواه، في ترتيب الأولويات. فمع تراكُم الأزمات الاقتصادية، فوق بعضها البعض، تصبح الأولوية، للخيارات الأقلّ كلفة على الاقتصادات النامية. وهذا يعني، في ظروف الحرب الاقتصادية الحالية، ومعها نظام العقوبات الغربي، تحييد الموارد الاقتصادية الأساسية عن الاستقطاب الشديد الحاصل، أقلّه لجهة المعروض وآلية تسعيره، بحيث لا يتحوّل هو الآخر، إلى أداة مُطلقة وصفرية، في الصراع الجاري، على مستوى العالم.