في نهاية أيار 2023 تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعدما أمضى 30 سنة في موقع الحاكمية. المدّة الفاصلة بين هذه النهاية، وبين نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون، هي سبعة أشهر. في هذه الفترة، سيكون هيكل الحكم في لبنان شبه فارغ، أو على الأقل هذا ما هو متوقّع إلى الآن بسبب صعوبة تأليف حكومة جديدة برئاسة الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي، والمعوّقات التي تواجه ترقيع الحكومة المستقيلة برئاسة ميقاتي أيضاً. فراغ كهذا، سيكون فرصة ملائمة لـ«صانع السياسات الوحيد» رياض سلامة، على حدّ تعبير البنك الدولي، من أجل إعلان انتصاره السياسي والنقدي على كل الآخرين. إنه الانتصار الأسود. هو انتصار لا يلغي الإفلاس، بل يكرّس سياقه ونتائجه. من التحقيقات الأوروبية بشبهة تبييض أموال، إلى منع التحقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، ومنع أي تقدّم في التحقيقات المحليّة، واستمرار تعدّدية أسعار الصرف في مقابل تحميل المجتمع والاقتصاد خسائر باهظة.

في 31 آب الماضي أصدر مصرف لبنان البيان نصف الشهري الذي يشير إلى أن قيمة العملات الأجنبية التي بحوزته بلغت 22229 مليار ليرة (14.74)، ومن ضمنها سندات خزينة يوروبوندز بقيمة 5.03 مليارات دولار، أي أن القيمة الفعلية القابلة للاستعمال تبلغ 9.7 مليارات دولار. أما كمية الليرات التي يجري تداولها في السوق فتبلغ 43394 مليار ليرة. وهذا البيان مجرّد جدول إحصائي، لا يتضمن أي تحليل أو استنتاجات أو أي معطيات إضافية غير الأرقام الواردة فيه. لكنّ تحليلاً بسيطاً لإحصاءات العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، يشير إلى أنه في عام 2020 أُنفق من هذه العملات الأجنبية بمعدل 1.1 مليار دولار شهرياً (أيام الدعم)، وفي عام 2021 أُنفق بمعدل 522 مليون دولار شهرياً، وفي عام 2022 أُنفق بمعدل 415 مليون دولار شهرياً. معدّل آخر سنتين، هو السياق الذي يمكن اعتماده للفترة المقبلة لأنه يتضمن تطبيقاً لمجموعة تعاميم من ضمنها التعميم 158 الذي يتيح تسديد 400 دولار نقداً لأصحاب الودائع والذي جرى تمديده لمدّة سنة تنتهي في تموز 2023. أي إن معدل السنتين الأخيرتين يبلغ 470 مليون دولار شهرياً.
بهذا المعنى، فإن العملات الأجنبية التي بحوزة مصرف لبنان تكفي لغاية 20.6 شهراً إذا لم يطرأ أي تعديل على مسار الإنفاق. لكن كلما انخفضت هذه الاحتياطات، أصبحت المعادلة غير ذات قيمة، لأن الثقة بالقدرة على الاستمرار في عملية التمويل ستفقد أكثر. ووفق هذا المسار، فإنه من اليوم وإلى نهاية ولاية سلامة سيتم إنفاق 4.7 مليارات دولار ولن يبقى من الاحتياطات أكثر من 5 مليارات دولار.




لكن ليس هذا هو الانتصار الذي سيقودنا إليه سلامة. فهو يدرك تماماً، أن هناك فواتير متأخرة غير مسدّدة لمورّدي الأدوية والشركات من أيام الدعم الذي كان قائماً خلال الفترة ما بين عامي 2020 و2021. فمع وصول العملات الأجنبية إلى هذا المستوى على وقع الفراغ، سيصبح الوضع أكثر سوءاً من قبل. أصلاً، مصرف لبنان لم يصل إلى هذه النتيجة، إلا بعدما نقل كل المخاطر التي كانت على عاتقه إلى السوق. عملياً، حمّلها لكل المجتمع عندما قرّر أن يلغي تمويل المازوت والبنزين وأن يوقف تمويل استيراد الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان، وأن يقنّن كل المدفوعات الخارجية للدولة بما فيها 4.5 ملايين دولار لتسديد فواتير استعمال شبكة الإنترنت سنوياً. فما حصل هو أن الطلب على الدولار، انتقل إلى السوق. أكثر من 5 مليارات دولار صارت تُجمع من السوق وفق معدلات تفوق 13 مليون دولار يومياً، إضافة إلى الطلب التجاري العادي. لذا، ليس مناسباً أي سؤال يتعلق بمصير سعر الصرف ومتى سينخفض.




السؤال هو لماذا لا يرتفع طالما أن الطلب بات خاضعاً للمضاربات اليومية على الدولار؟ وبالتوازي مع ذلك، خلق مصرف لبنان منصّة «صيرفة» التي يفترض أن تضخّ الدولارات للشركات، لكنه خصّص القسم الأكبر منها لضخّ الدولارات للأفراد والشركات ضمن سقف مفتوح أولاً، ثم للأفراد ضمن سقف محدود بـ500 ولار شهرياً. على هذه المنصّة يعيد مصرف لبنان توجيه الدولارات الآتية من الخارج عبر التحويلات الإلكترونية (مثل التحويلات عبر OMT مثلاً) ليضخّها للشركات والأفراد عبر «صيرفة». بكلام أوضح، كأنه عاد إلى دعم وتثبيت سعر الليرة بآلية تتضمن هامشاً من الثبيت أوسع مما كان عليه سابقاً أيام الـ1500 ليرة، لكنه بدلاً من استخدام الودائع الآتية إلى المصارف، كما كان يفعل سابقاً، أصبح يستخدم شركات التحويل. لكنّ ركاكة هذه الآلية، فرضت استعمالها كآلية تمويل للمضاربات في السوق، ما يترك هامشاً واسعاً من الارتفاع البطيء في سعر الصرف. وقد يتسارع هذا الارتفاع في أي لحظة اهتزاز واضحة سياسية أو اقتصادية أو أمنية وعسكرية.

1100%

هي نسبة تضخّم الأسعار في الفترة بين 2019 وحزيران 2022


هذا جزء من انتصارات سلامة. فهو في الأشهر المقبلة، في ظل الفراغ المتوقّع، سيكون قادراً على إعلان الانتصار الذي يريده. فهو سيكون بمنأى عن أي مساءلة سياسية. وملفه في أوروبا لم يعد يتحرّك إلا نادراً. بل كان لافتاً ما قاله السفير الفرنسي بيار دوكان في زيارته الأخيرة لرئيس الجمهورية ميشال عون. فقد قال: «لا يجب الإفراط في الحديث عن المسؤوليات، بل يجب السير قدماً نحو إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ضمن أولوية إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية، وإقرار موازنة 2022». بدا دوكان كأنه يقول بأنه لا ضرورة لمحاسبة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الآن، بل هناك ضرورة لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة يكون فيها لبنان منخرطاً بالكامل مع صندوق النقد الدولي وما يسمّى المجتمع الدولي. فمنذ ذلك الوقت، هدأت جبهات سلامة القضائية المفتوحة في أوروبا ولبنان، وتركت زيارة دوكان الكثير من الانطباعات التي تفسّر هذا الهدوء. لكن الأبرز أنه لم يقل ولا مرّة كلمة إعادة هيكلة المصارف أو إعادة هيكلة الدين العام. فهو ركّز كثيراً على أن يعمد الرئيس عون في نهاية عهده إلى «دخول التاريخ» من خلال تسريع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية ولايته. وحاول دوكان أن يثير قلق الرئاسة من خلال الإشارة إلى أن الصناديق الكاسرة لن تتأخر عن شراء سندات اليوروبوندز اللبنانية بسبب أسعارها المتدنية وأنها ستعمد بعد ذلك إلى رفع دعاوى للاستيلاء على أصول لبنان في الخارج إذا لم يُنجز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي خلال وقت قريب، مختصراً مطالب الصندوق في إطار الشروط المسبقة للاتفاق، بأمرين: إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية، وإقرار قانون موازنة 2022.

دوكان: لا يجب الإفراط في الحديث عن المسؤوليات


ما فُهم من كلام دوكان، هو أن المسائل المتعلقة بالتدقيق الجنائي، وباسترداد المال المنهوب، وسائر المسار المتعلق بالمساءلة والمحاسبة لم تعد تندرج ضمن الأولويات. لا بل إن كلامه يوحي بأن هذه الملفات أُغلقت، ولو مؤقّتاً. وما يعزّز هذا الاستنتاج، هو أن الانخراط في العلاقة مع صندوق النقد الدولي من دون أي مسار موازٍ للمساءلة والمحاسبة، سيكون بمثابة العفو عما مضى، إذ إنه بمجرد الاتفاق مع الصندوق، ستصبح الأولويات مختلفة لجهة التعامل مع الدائنين، وإعادة هيكلة الدين العام والمصارف. وهذه مسائل ستصبح بيد سلامة شبه منفرد، أو بالتنسيق والتعاون مع رئيس الحكومة المستقيلة، ورئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي. ولديهما تغطية واضحة غير مستجدّة من رئيس مجلس النواب نبيه برّي.

تبديد 29 مليار دولار منذ أول 2019 إلى آب 2022


هذا هو الانتصار الذي سيعلنه سلامة وسيمارسه أيضاً في فترة الفراغ. فهو الجهة التي تُعدّ مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف وتحدّد مصرف لبنان قائداً لعمليات إعادة الهيكلة. المصرف المركزي سيعيد هيكلة المصارف التي نهبها، والتي بدورها نهبت الزبائن! الانتصار الأبرز هو تبديد أكثر من 29 مليار دولار من أول 2019 لغاية نهاية آب 2022، وتراكم الخسائر في ميزانية مصرف لبنان لتبلغ في نهاية حزيران نحو 79 مليار دولار (تُحتسب الخسائر بالليرة على سعر صرف 1507.5 ليرات وسطي). كما جرى تحميل الأسر والمؤسّسات تضخّماً هائلاً في الأسعار إذ ارتفعت بنسبة تفوق 1100%، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي من 55 مليار دولار إلى 14 مليار دولار وفق توقعات البنك الدولي، وخسر الفرد أكثر من 7 آلاف دولار من حصّته في الناتج. خسائر الأجور هائلة، وخسائر الهجرة أيضاً، والفقر لم يعد مجرّد خطوط يُصنّف ما فوقها وما تحتها بالنسب المئوية، بل بات يُعتمد على الأبعاد ومستويات الحرمان من الغذاء والكهرباء والمياه والطبابة والتعليم... هذه أبرز مكوّنات انتصار سلامة. إنه الانتصار الأسود.