«كرة القدم هي مرآة العالم» هذه هي نظرة الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو لـ«الساحرة المستديرة». في الماضي كانت اللعبة للجماهير، أما اليوم فهي منصّة مهمّة للملّاك وأصحاب النفوذ للدخول إلى أي دولة وتأسيس استثمارات تعود عليهم بأرباح طائلة، مستفيدين من نجوم يشكلون مع الوقت وجوهاً تسويقية لهذه المشاريع.
الاستثمار في «النجوم»
قبل أيام جدّد اللاعب الفرنسي كيليان مبابيه عقده مع نادي باريس سان جيرمان الفرنسي ـ المملوك قطرياً ـ حتى عام 2025. دفعت الإدارة القطرية أكثر من 300 مليون يورو من ضمنها 130 مليوناً للّاعب، على أن يتقاضى راتباً سنوياً صافياً تصل قيمته إلى نحو 30 مليون يورو، إضافة إلى الحصول على أكثر من 60% من حقوق صوره الخاصة، وغيرها الكثير من الامتيازات على مستوى التسويق.
هذه الأرقام تعتبر الأعلى في التاريخ، وستفتح الباب أمام غيره من اللاعبين للمطالبة بتحسين شروطهم. التجديد ليس هدفه مبابيه، اللاعب الموهوب، بل مبابيه النجم، والصورة الجميلة. هو فتى صغير السن لكنه سيكون وجهاً تسويقياً ودعائياً للنادي الباريسي لسنوات، وسيدرّ على الإدارة أضعاف راتبه من خلال الإعلانات وبيع اللوازم الرياضية التي تحمل اسمه وتوقيعه. وهو بالتأكيد سيشكل دافعاً مهماً لتجديد الإدارة القطرية عقد شراكتها مع المؤسّسات الراعية، كما أنّها وجهت صفعة لإدارة ريال مدريد الإسباني التي كانت مهتمة بهذا اللاعب، وهذا يُحسب في عالم الرياضة. تفاصيل كثيرة تجعل من الرياضة أمراً ثانوياً، فالأساس هو التجارة.

توماس ــ إيطاليا

ما حصل في باريس ليس جديداً. فجهاز قطر الاستثماري الذي استحوذ على النادي الباريسي منذ عام 2011 أنفق مليارات الدولارات على شراء لاعبين، بينهم نيمار جونيور البرازيلي الذي أتى من برشلونة إلى باريس عام 2017 مقابل 222 مليون يورو، وهو رقم قياسي صامد حتى يومنا هذا. كما ضمّ هذا النادي أيضاً كوكبة من النجوم بينهم الإسباني سيرخيو راموس، والأرجنتيني ليونيل ميسي. الهدف المعلن هو حصد الألقاب، إنما الهدف الحقيقي هو التسويق وجذب المعلنين وعدسات الكاميرات، أي حصد الأرباح وتحسين صورة مالكي النادي أمام العالم قبل أشهر على انطلاق نهائيات كأس العالم التي تستضيفها الدوحة الخريف المقبل. وكانت مؤسّسة مايكل جوردان (لاعب كرة السلة الأميركي الشهير) والتي تربطها شراكة مع النادي الباريسي، أكدت في وقت سابق أنّ توقيع باريس سان جيرمان مع ميسي عاد عليها بأرباح وصلت إلى 6 ملايين يورو في أول أسبوع جرّاء بيع قمصان النجم الأرجنتيني.
ليس المال وحده هو الهدف. هناك أيضاً النفوذ، وهذا الأمر تحديداً ما أشار إليه مدرّب باريس السابق، الألماني توماس توخيل عندما فسخ عقده في الموسم الماضي مع النادي الفرنسي. توخيل قال إنه لم يعد قادراً على اللعب مع نادٍ سياسي. كلامه ينسجم مع العديد من التقارير التي تحدثت عن أن هدف قطر من الاستثمارات الرياضية هو تحسين صورتها أمام العالم، وفتح علاقات مع دول أوروبية من أجل فتح مسارات سياسية. ما يفعله جهاز قطر الاستثماري، كان قد بدأه نائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات منصور بن زايد آل نهيان في إنكلترا عندما استحوذ عام 2008 على نادي «مانشستر سيتي» وحوّله إلى واحد من أغنى أندية العالم. بن زايد قام باستثمار ناجح وقاد مانشستر سيتي إلى الألقاب، إلا أن الأمر الأساسي كان تلميع صورة الإمارات في العالم، عبر إطلاق اسم «الاتحاد» على ملعب الفريق في مدينة مانشستر، فضلاً عن تنظيم زيارات مستمرّة للنادي ونجومه، إلى الإمارات للقيام بمعسكرات تدريبية، أو رعاية نشاطات تقوم بها الدولة هناك، وهو ما يجعلها محط أنظار العالم بفعل وجود هؤلاء النجوم.
النشاط الإماراتي القطري المتصاعد، جعل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يشعر بـ«الغيرة». وبعد العديد من المحاولات الفاشلة لشراء نادي مارسيليا الفرنسي ومانشستر يونايتد الإنكليزي، نجح أخيراً عبر صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي السعودي) في شراء نادي نيوكاسل يونايتد الإنكليزي، علماً بأنّ العديد من التقارير الحقوقية تؤكّد أن هدف السعودية هو تلميع صورتها بعد تسجيل انتهاكات لحقوق الإنسان في الرياض، إضافة إلى جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول.
خلال نهاية الألفية الماضية لم تكن رواتب اللاعبين تتجاوز عشرات آلاف الدولارات، أما اليوم فباتت هذه الرواتب تصل إلى عشرات الملايين


الاندفاعة الخليجية نحو الاستثمار في الرياضة، تُثبت مجدّداً نظرية الكاتب الأميركي شون هاميل، بأنّ كرة القدم أصبحت صناعة كبيرة، وهي باتت في مرحلة ما بعد الاحتراف، أي دخلت إليها بشكل أساسي عمليات الرعاية والاستثمار.
الواقع الجديد للرياضة وكرة القدم تحديداً، ترعاه وتحميه الجهات الرسمية. فالاتحاد الدولي لكرة القدم يواصل البحث في فكرة تنظيم كأس العالم كل سنتين بدلاً من أربع سنوات، ورفع عدد المنتخبات المشاركة، وكل ذلك من أجل تحقيق المزيد من الأرباح. وعلى هذا المنوال تنسج الاتحادات القاريّة، خصوصاً الاتحاد الأوروبي، تأسيس المزيد من البطولات ورفع عدد الأندية المشاركة فيها بهدف وحيد يكمن في جذب الشركات الراعية، وإضافة مدن جديدة إلى خريطة الألعاب، وبالتالي مزيد من الأرباح.

البحث عن أسواق جديدة
جميع ملّاك الأندية الأوروبية خاصة أندية الصف الأول، تبحث عن طرق جديدة لرفع نسب الأرباح. تتعاقد هذه الأندية مع لاعبين لديهم شعبية كبيرة على مستوى العالم، ويبدأون بتنظيم جولات على هذه الدول من أجل خلق أسواق جديدة يكون فيها نقل تلفزيوني للمباريات، إضافة إلى تأسيس أكاديميات ومتاجر خاصة بهذه الأندية. وفي هذا كلّه يكون التركيز الأكبر على النقل التلفزيوني الذي يدرّ مئات ملايين الدولارات سنوياً على الأندية.
وفي هذا الإطار تسعى مختلف الأندية لإيجاد أسواق لها في الصين وبعض دول شرق آسيا حيث يمكن بناء قاعدة جماهيرية كبيرة، وتوقيع عقود مع شركات النقل التلفزيوني. أما بعض أندية أوروبا فهي تسعى عبر كشّافيها المنتشرين في كل أنحاء العالم، للتعاقد مع لاعبين من خارج القارّة من أجل جذب مشجّعين جدد للنادي، وبالتالي خلق أسواق أكبر ضمن ما بات يُعرف بعولمة كرة القدم.
وبما أنّ الأندية المملوكة خليجياً تكون مكتفية مالياً بسبب النفط والغاز، فإن هدفها يكون سياسياً لمحاولة تلميع صورة أنظمة تلك الدول، وفتح علاقات مع دول وحكومات أخرى.

أرباح أكبر
تطور عمل الأندية من أجل الكسب الأكبر، انسحب أيضاً على اللاعبين. أصبحوا يسعون للأرباح أيضاً. يمكن الاستدلال على ذلك من خلال مصاريف الأندية التي تكون في غالبيتها رواتب للاعبين وهي تتضاعف كل عام. كل لاعب نجم يحاول ابتزاز فريقه لرفع أجره السنوي، كما حصل تماماً مع كيليان مبابيه في باريس. فاللاعبون خلال نهاية الألفية الماضية لم تكن رواتبهم تتجاوز عشرات آلاف الدولارات، أما اليوم فباتت هذه الرواتب تصل إلى عشرات الملايين، وهذا يخلق عالماً موازياً عبر تأسيس هؤلاء اللاعبين لأنديتهم وأكاديميّاتهم الخاصة.
وهذا التطوّر التجاري في عمل الأندية لم يعد حكراً على أندية كرة القدم. فقد دخلت كرة السلّة هذا العالم أيضاً وباتت تسعى إلى توسيع دائرة عملها ونفوذها، وهي تنظّم اليوم جولات حول العالم من أجل إيجاد أسواق جديدة وتوسيع دائرة النقل التلفزيوني وبالتالي تحقيق المزيد من الأرباح، ولذلك دخل لاعبو كرة السلّة في أوروبا وأميركا نادي العشرة الأوائل في قائمة الرياضيين الأعلى دخلاً في العالم.



رسم بياني | مداخيل اللاعبين «خارج الملعب»
نشرت مجلة فوربس تقريراً مفصلاً عن أرباح الرياضيين في عام 2022. يوضح التقرير أن الأموال التي يتقاضاها اللاعبون «خارج الملعب»، تمثّل جزءاً كبيراً من مداخيلهم. المقصود بالمداخيل «خارج الملعب»، هي عقود الرعاية وغيرها من الأموال التي يتقاضاها اللاعب خارج إطار عقده الرياضي مع ناديه. وبالتزامن مع ارتفاع الأجور التي يتقاضاها لاعبو الرياضة بشكل جنوني في العقدين الأخيرين، أصبح لدى هؤلاء، لا سيّما النجوم الكبار منهم، مصادر دخل مختلفة تتعلّق باستغلال وجوههم وأسمائهم في عمليات التسويق.


تصدّر النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي القائمة مع 130 مليون دولار من الأرباح الإجمالية قبل الضرائب على مدى الـ12 شهراً الماضية، 55 مليون دولار منها أتت من عقود «خارج الملعب». وبحسب فوربس، فإنّ راتب ميسي يبلغ نحو 22 مليون دولار منذ وصوله بداية الموسم إلى باريس سان جيرمان، ولكن اللاعب حقّق أرقاماً هائلة من عقود الرعاية في عاصمة الأنوار. وفي المركز الثاني جاء نجم كرة السلّة الأميركي ليبرون جيمس بـ121 مليوناً (80 مليون منها «خارج الملعب»)، فيما حلّ نجم كرة القدم البرتغالي كريستيانو رونالدو ثالثاً بـ115 مليون دولار (55 مليون منها «خارج الملعب»).
كذلك أشار التقرير إلى أن عشرة رياضيين حققوا أرباحاً بلغت 992 مليون دولار خلال الأشهر الـ12 الأخيرة، وهذا يمثل انخفاضاً بنسبة 6٪ عن عام 2021. ويعتبر المجموع الإجمالي لهذا العام هو ثالث أعلى معدل على الإطلاق، بعد عام 2021 إذ بلغ 1.05 مليار دولار وما مجموعه 1.06 مليار دولار لعام 2018.
واللافت أن الرياضيين العشرة الأوائل في تصنيف فوربس حصلوا على نحو 500 مليون دولار «خارج الملعب».