ابتداءً من منتصف 2016، عمد مصرف لبنان إلى تنفيذ عمليات مالية في السوق أُطلق عليها اسم «الهندسات المالية». قد يُفهم من كلمة «الهندسات» أنها أعمال فاضلة أو ذكية أو مجدية، لكن لا شيء فيها من كل ذلك. فباسم الهندسة الأولى، حقّقت المصارف أرباحاً تجاوزت 5 مليارات دولار. لاحقاً، نفّذ مصرف لبنان، عمليات بأشكال مختلفة (حجم العملية ومسارها والفائدة والاستفادة المركّبة منها...)، كانت كلفتها حتى تشرين الأول 2018 نحو مليارَي دولار، واستمرّت لبضعة أشهر إضافية قبل أن ينهار النظام المالي برمّته. جرى التعامل مع «هندسات» سلامة، باعتبارها واحداً من الأسباب المباشرة للانهيار. إنما الهندسات لم تتوقف، بل توقف انتقادها والحديث عنها. آخر الهندسات، تكمن في التعميم 161 الذي يرشّ الدولار على الناس كالماء. إنه سحر شيطاني نتائجه ستظهر بشكل مماثل لنتائج الجولة السابقة في عام 2016.
المصدر: lirarate.org، مصرف لبنان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أثناء تشريح الأزمة وأسبابها العميقة، كانت لـ«الهندسات» حصّة وازنة، إذ ربطتها خطّة التعافي التي أقرتها حكومة حسان دياب بالقفزة التي سجّلتها الخسائر المتراكمة في ميزانية مصرف لبنان من 20.6 مليار دولار في حزيران 2016 إلى 43.8 مليار دولار في كانون الثاني 2020، أي بمعدل وسطي يبلغ 5.8 مليارات دولار سنوياً. فهذه الخسائر لم تكن لتتراكم بهذه السرعة وبهذه القيم الكبيرة لولا أن مصرف لبنان قرّر أن ينفّذ ألاعيب تركيب الطرابيش المسماة «هندسات». وباختصار كانت هذه الهندسات عبارة عن استقطاب لودائع جديدة عبر رفع الفوائد المحلية، من أجل تسديد استحقاقات الودائع القديمة، أملاً في أن يستعيد نموذج العمل القائم على استقطاب الودائع من الخارج الثقة بنفسه، وإغرائه بمزيد من المكاسب. الرهان كان في حصول معجزة انعقاد مؤتمر تمويلي ينقذ النموذج من الانهيار، كما حصل سابقاً في مؤتمرات باريس. أما الهندسات الشيطانية فلم تكن سوى وسيلة لشراء الوقت وزيادة الكلفة وتجفيف مصادر التمويل بالدولار لدى لبنان. يومها، أي في عام 2016 كانت الحاجات التمويلية بالدولار للبنان تبلغ 11.9 مليار دولار، وكان يتدفق إلى لبنان 10.9 مليارات دولار، لكنّ الهوّة بين الاثنين زادت بزيادة الحاجات التمويلية إلى 16.1 مليار دولار في عام 2019 وبانخفاض تدفق الودائع إلى أقل من 5 مليارات دولار.
قد يظنّ كثيرون أن مصرف لبنان أوقف ألاعيبه وشيطناته، لكنه أبداً لم يفعل، بل لعله تعلّم درساً في عرضها على المجلس المركزي لمصرف لبنان لتشريعها باسم الديمقراطية، وأعضاء المجلس من الواضح أنهم نائمون في أحضان سلامة. المهم، صدر أكثر من تعميم ينطوي على «هندسة» ما. لعلّ أول هذه التعاميم ذاك الذي يمنح صغار المودعين حقّ تحويل 3 ملايين ليرة إلى 6 ملايين ليرة بضربة واحدة حتى لو كانت الأموال مسحوبة من الحساب يمكن إعادتها واستعمالها لشراء دولارات يتم تصريفها على سعر 3000 ليرة. استمرّ السحر مع التعميم 151 الذي رفع سعر الصرف إلى 3900 ليرة وأخيراً إلى 8000 ليرة. أما التعميم 158 فقد منح المودعين جزءاً بسيطاً من حقوق كانت محجوبة عنهم طوال الفترة الماضية، لكنه منحهم نصفها بالدولار النقدي ونصفها الآخر بالليرة على سعر صرف 12 ألف ليرة. لم يكن هذا التعميم قمّة السحر، بل ما تلاه، أي التعميم 161. فهذا الأخير أتاح لكل من معه ليرات، وبلا سقف، أن يشتري الدولارات من مصرف لبنان عبر المصارف، بسعر صيرفة الذي كان أقلّ بنحو ألفي ليرة من سعر الصرف في السوق الحرّة.
مثل السحر كان الزبائن يحققون أرباحاً خيالية بين ليلة وضحاها. بسرعة تحوّل الجميع إلى «مضاربجية» وبات هامش ربحهم أكبر في الأيام الأخيرة مع ارتفاع الفرق بين صيرفة والسوق الحرّة إلى أكثر من 4 آلاف ليرة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تودع 200 مليون ليرة صباح اليوم في المصرف، وستقبضها غداً 8850 دولار، أي ما يوازي 235 مليون ليرة بسعر السوق. طبعاً المصارف بدأت تربح في العمولات، وبدأ مصرف لبنان يقلص كميات الدولارات الموردة إلى المصرف تمهيداً لوقف هذه العمليات نهائياً بعدما أدّت مهمتها في شراء الوقت من شهر كانون الأول 2021 لغاية الانتخابات النيابية. المهم، كلفة هذه العمليات بلغت 900 مليون دولار على مصرف لبنان، وما يماثلها جرت إعادة توجيهه من الـOMT نحو السوق. أما كلفة التعميم 158 فقد بلغت بالدولار فقط 1.1 مليار دولار منذ صدوره لغاية الانتخابات أيضاً، لكن لا يمكن تحديد كلفة الـ151 التي تحصر العمليات بالليرة.
المشترك بين كل هذه العمليات، أن صدور الـ161 كان هدفه تثبيت سعر الصرف عند مستوى معين من خلال امتصاص الليرات التي ضخّها مصرف لبنان في السوق عبر الـ151 بشكل أساسي. في الواقع تمكّن مصرف من خفض الكتلة النقدية المتداولة بالليرة من 46 ألف مليار إلى 38 ألف مليار ليرة، لكنه عاد إلى الضخّ مجدداً في الشهر الماضي وزاد فوقها 5400 مليار ليشطب غالبية الامتصاصات السابقة... كل هذا حصل بكلفة تُقدّر بنحو 3 مليارات دولار، بينما خسائر مصرف لبنان أصبحت في نهاية شباط 2022 نحو 72.8 مليار دولار.