في عام 2017 كان العجز في الميزان التجاري يبلغ 17 مليار دولار، ثم انخفض إلى 15.5 مليار دولار في عام 2019، وبلغ 7.7 مليارات دولار في عام 2020، و9.7 مليارات دولار في عام 2021. ما تغيّر فعلاً في الفترة الفاصلة بين الانهيار ونتائجه، هو التراجع الهائل في قيمة الاستيراد مقابل تحسّن طفيف في التصدير، لكنّ حصص الأبواب الأساسية من مجمل الاستيراد لم تتغيّر هي أيضاً ربطاً بالنموذج الاقتصادي للبنان الذي يعتمد على الاستيراد بنسبة 80% من كل السلع المستهلكة محلياً، وترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 90% في ما خصّ السلع الغذائية (بحسب أرقام منظمة الغذاء). فما هي السلع التي لم يتخلَّ عنها المستهلكون في لبنان؟ وهل يعكس ذلك تعديلاً اقتصادياً؟ هل أجرى المستهلكون تعديلاً جذرياً في نمط حياتهم ليتماشى مع إدارة الأزمة؟الكثير من الأسئلة التي تثار حول تغيّر نمط الحياة، ولا سيما عندما تتداخل العوامل المحلية بالعوامل الخارجية. فعلى سبيل المثال، تخلّى المستهلكون في لبنان عن قسم كبير من استهلاك المازوت والبنزين والفيول بسبب ارتفاع الأسعار الداخلية لهذه السلع وخصوصاً بعد توقف مصرف لبنان عن تمويل المازوت وقسم من البنزين، إلا أن فاتورة الاستيراد المدفوعة بالدولار تحسّنت في عام 2021 وسجّلت انخفاضاً بنسبة 10% مقارنة مع الاستيراد في عام 2017، وذلك بعدما كان الانخفاض يبلغ 28% في عام 2020. ما حصل هو أن الكميات المستهلَكة تراجعت مقابل ارتفاع أسعار المشتقات النفطية العالمية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

فاتورة استيراد السيارات بلغت 766 مليون دولار في عام 2021، مقارنة مع 295 مليون دولار في عام 2020 و1.3 مليار دولار في عام 2017. لم تطرأ تغيّرات واسعة على أسعار السيارات العالمية في السنوات المشار إليها، ما يثير القلق حول مدى التغيّر في بنية الاستهلاك لدى المقيمين في لبنان. فهل عاد استيراد السيارات إلى الارتفاع في عام 2021 بسبب المخاوف من ارتفاع سعر الدولار الجمركي الذي سينعكس ارتفاعاً في أسعار السيارات؟ إذا صحّ وجود عمليات تخزين كبيرة كهذه، فهل درس التجّار حقيقة أن ارتفاع الأسعار يقلص الاستهلاك؟ أم أنهم مستعدون لتحمّل مخاطر كهذه؟ هل هذا الأمر يعكس تعديلاً ما في نمط الحياة؟
بالنسبة إلى السلع الغذائية، فإن واردات الغذاء سجّلت 2.34 مليار دولار في عام 2021، علماً بأنها بلغت 2.29 مليار دولار في عام 2020، وكانت 3.4 مليارات دولار في عام 2017. عملياً، سجّلت التراجع في واردات الغذاء بقيمة مليار دولار بين فترة ما قبل الأزمة وما بعدها. وهذا التراجع حقيقي، وغالبيته ناتجة من تراجع استيراد البقر، إذ تقلّص استهلاك اللحوم الحمراء بنسبة كبيرة. فقد استورد لبنان في عام 2021 نحو 143 ألف رأس بقر مقارنة مع 220 ألف رأس في عام 2020 (في حينه كان استيراد البقر مدعوماً لفترة أشهر من السنة)، ومقارنة مع 233 ألف رأس بقر في عام 2017. الفرق في فاتورة الاستيراد بين عامَي 2017 و2021 بلغ انخفاضاً بقيمة 78 مليون دولار علماً بأن الأسعار العالمية انخفضت في هذه الفترة. كذلك، يعود الأمر إلى انخفاض في استيراد الألبان بقيمة 176 مليون دولار.
إذاً، ما الذي تشي به هذه الأرقام؟ ما بات معروفاً هو استغناء اللبنانيين عن وجبات غذائية أو عن بعض المكوّنات الغذائية في وجباتهم، وأيضاً انخفضت ساعات التغذية بالتيار الكهربائي التي يحصلون عليها من المولّد، لكنهم في المقابل، زادوا من رسملة أصولهم سواء في السيارات أو في المجوهرات. رغم ذلك، لم يحصل تعديل بنيوي في نمط الحياة. هذا الأمر واضح للعيان، فالنموذج الاقتصادي، وإن تعرّض لضربة شديدة، ما زال على حاله يعتمد على التحويلات الخارجية من المغتربين أو من الأموال الآتية إلى النازحين السوريين أو حتى من القروض والمساعدات والهبات الدولية. وكل هذه الأموال تُستعمل في سبيل تمويل النمط نفسه، سواء من قبل الأفراد، أو من قبل السلطات المنظّمة مثل مصرف لبنان. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من الاستقرار النسبي في حصّة الأبواب الأربعة (المشتقات النفطية، الغذاء، السيارات والمجوهرات) من مجمل قيمة استيراد لبنان السنوي. في عام 2017 كانت تمثّل 54.4%، وفي عام 2020 بلغت 58.5% وفي عام 2021 بلغت 54.9%. ورغم أنه في مرحلة ما ظهرت تقارير واسعة عن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة، وأشارت بعض التقارير إلى مدى سوء الأحوال المعيشية لدى أكثر من 80% من السكان... وقد استندت التقارير بشكل أساسي إلى تدهور القوّة الشرائية للمداخيل، وإلى ارتفاع سعر الصرف في السوق الحرّة، للاستنتاج بأن هناك اجتياحاً للفقر المتعدّد الأبعاد لغالبية السكان في لبنان أجبرهم على تعديلات جذرية في أنماط استهلاكهم. لكنّ المؤشرات لا تشير إلى تغيّر جذري، بمقدار ما تشير إلى «تكيّف ما» جرى تكريسه في الأشهر الثلاثة الأخيرة من خلال عودة مصرف لبنان إلى دعم الاستهلاك عبر دعم سعر الصرف وتثبيته على 20 ألف ليرة. المشكلة ستظهر حالما يعود النموذج إلى الانفجار. قد يظهر ذلك بوضوح بعد الزيادات الهائلة على أقساط المدارس، أو توقف مصرف لبنان عن تمويل استيراد 85% من شحنات البنزين... بالتأكيد سيظهر الأمر مجدداً وبقسوة أكبر إلى أن ينقذنا أحد مجدداً، أو نُجبر على تغيير بنيوي.