في تشرين الأوّل من عام 1970 أصدر وزير الصحّة في حكومة صائب سلام، إميل بيطار، قراراً قضى بإلغاء شهادة فقر الحال، أي الوثيقة التي تُثبت فقر حال حاملها وتخوّله الحصول على الطبابة والاستشفاء على نفقة وزارة الصحة. قرار بيطار الذي أراد به أن يكون مدخلاً لإرساء التغطية الصحية لجميع اللبنانيّين واللبنانيات مباشرة من دون وساطة، وأياً يكن وضعهم المهني، استُتبع بقرار لاحق في أيار 1971، قضى بلزوم العمل ابتداءً من أيار عام 1972 بالبطاقة الصحية التي تعطي حامليها، من ذوي الدخل المحدود، الحقّ بالطبابة والاستشفاء في جميع المؤسّسات الصحّية المتعاقدة مع الدولة. وطرح بيطار نظام البطاقتَين: البطاقة العائلية وتشمل الوالدين والأولاد ممّن هم دون الـ18 عاماً، والبطاقة الفردية لمن تجاوز سنّ الـ18.معركة بيطار لتأمين الصحة للبنانيّين شملت أيضاً تنظيم قطاع الدواء. إذ أحال بيطار في شباط 1971 قانوناً إلى مجلس النواب يمنح من خلاله الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الحقّ في استيراد الأدوية لمصلحة وزارة الصحّة والمؤسّسات العامّة. لكن جرت مواجهة عنيفة ضدّ قرار الوزير، إنما لم تكن مفاجئة، من كارتيل تجار الأدوية الذين اتّهموه بضرب النظام الاقتصادي الحرّ - فزّاعة كل زمان ومكان - وسار في الاتجاه نفسه رئيس الوزراء صائب سلام، ووزراء ونواب تجمعهم مصالح وصداقات مع مستوردي الأدوية.
ومع بدء تطبيق القرار في 12 أيلول 1971، فُقِدَت على الفور كلّ الأصناف التي شملتها التسعيرة الجديدة. حاول بيطار التصدّي لضغوط الحلقتين التجارية والسياسية، وصرّح بعدم الرضوخ لضغوط المستوردين قبل أن يستقيل من منصبه: «لن أقبل بأن يصبح بعض المحتكرين للدواء أولياء على صحّة هذا الشعب وحياته وكرامته».
معركة بيطار السياسية لم تكن المعركة الوحيدة في سبيل إرساء التغطية الصحية الشاملة، واستقالته لم تكن أيضاً الاستقالة الوحيدة في السبيل نفسه. فبعد 4 عقود عاد الحديث عن التغطية الصحية الشاملة إلى جدول أعمال مجلس الوزراء عام 2011 بعدما تقدّم وزير العمل في حكومة نجيب ميقاتي، شربل نحاس، بمشروع إرساء التغطية الصحية الشاملة لجميع المقيمين في لبنان. وقد ظهّر نص المشروع، بالإضافة إلى الأسباب الموجبة والحيثيات الاقتصادية والاجتماعية لإرساء التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين واللبنانيات، الحيثيات السياسية للمشروع باعتبار أن «توفير حدّ أدنى إلزامي ومعمّم من الضمان ضدّ مخاطر المرض والحوادث، يجسّد أداة أساسية ومهمة في سبيل استعادة مشروعية الدولة ووظيفتها الاجتماعية تحقيقاً للاستقرار والعدالة الاجتماعية».
واللّافت قبل ذلك، انطلاق مشروع القانون من تعهّد وتوقيع الكتل السياسية الممثّلة في المجلس النيابي، الوثيقة الصادرة عن المنتدى الاجتماعي الذي نظّمه الاتحاد الأوروبي في بيروت في نيسان 2008، والتي نصّت بوضوح وبصراحة: «العمل على إقامة نظام تأمين صحّي أساسي موحّد وشامل للبنانيين كافة بإدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وبتمويل من الموازنة العامة، بعد إلغاء الاشتراكات الإلزامية في المؤسسات الصحية الرسمية وإدماجها في سياق تصحيح الأجور». لكن الكتل النيابية التي كانت موافقة والممثّلة في حكومة نجيب ميقاتي يومها، تراجعت عن تأييد المشروع.
لا مدّخرات في المصارف، يعني لا طبابة ولا استشفاء لغير المضمونين


في حين لاقت سياسات وزير الصحة إميل بيطار عام 1971 تأييد الاتحاد العمالي العام، إذ أطلق رئيسه غابريال خوري تصريحات عن دعم الاتحادات العمّالية المطلق لسياسة وزير الصحّة، لم يلاق الاتحاد العمالي العام برئاسة غسان غصن، الوزير نحاس في مشروعه لتأمين التغطية الصحية، ما يشكّل سابقة استثنائية في تاريخ الطبقة العاملة في العالم.
شكّلت مساعي نحاس وبيطار استثناءً ليس فقط على صعيد الحكومات المتعاقبة وإنما أيضاً على صعيد الحركات النقابية والمعارضة. لم تسعَ النقابات أو الأحزاب المعارضة للنظام إلى الدفع باتجاه تعميم الضمان الصحي على اللبنانيين واللبنانيات. أخذ النضال الحقوقي شكلاً فئوياً وظيفياً، فترجمت حركات الاعتراض، امتيازات وظيفية ولا سيّما لدى الموظفين والمنضوين في نقابات المهن الحرّة. وفيما كان المسار نحو إرساء التغطية الصحية الشاملة متعثّراً والدفع باتجاهها غائباً، استطاعت الحركات النقابية والعمالية انتزاع حقوق مجتزأة هنا وهناك.
وحتى عام 2019 كان نصف المقيمين في لبنان لا يتمتعون بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية رغم ارتفاع الإنفاق على الصحة، أما النصف من المقيمين، فكان يتمتع بتغطية صحية جزئية ومتفاوتة الجودة وهم بشكل أساسي المنضوون تحت حماية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أعضاء نقابات المهن الحرّة، المعلّمون والمعلّمات، اللاجئون عبر مساعدات الدول المانحة، الأمنيون والعسكريون والموظفون والمضمونون عبر التأمين الخاص.

سطو أصحاب المصارف على الصناديق الاجتماعية يعني أنّ لا امتيازات وظيفية بعد اليوم


واليوم مع إفلاس الصناديق الاجتماعية لنقابات المهن الحرة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وخسارة المقيمين والمهجّرين اللبنانيين لمدخراتهم في المصارف، بات جميع المقيمين مهددون بأمانهم الاجتماعي، إذ إن تقلّص الإنفاق الحكومي بسبب تراجع المداخيل يعني لا مال عام ليُصار إلى توزيعه عبر القنوات الزبائنية تحت بدعة ما يسمى «على حساب وزارة الصحة». لا مدخرات في المصارف، يعني لا طبابة ولا استشفاء لغير المضمونين. أما سطو أصحاب المصارف على الصناديق الاجتماعية فيعني أنّ لا امتيازات وظيفية بعد اليوم. وكأن جميع المسارات التي لجأ إليها اللبنانيون لتأمين الضمان والأمان الصحيّين تتلاقى مع الإفلاس في مسار واحد مفاده أن لا تغطية صحية للمقيمين في لبنان.
اليوم مع الإفلاس، باتت معركة جميع الأنظمة المتعدّدة، في نظام عام شامل وجمع الصناديق في صندوق واحد، حاجة ماسة وواجباً إلزامياً وأولوية لمواجهة سطو أصحاب المصارف على الصناديق المتعدّدة ولحماية المجتمع من العوز والهجرة.