بعد عقود من النشاط الاستهلاكي المحفّز بالاستيراد المدعوم بتثبيت سعر الصرف، يقف لبنان مكبّلاً أمام تداعيات الأزمة الروسية - الأوكرانية. فهو لا يملك الكثير من الأموال بالعملات الأجنبية لتسديد ثمن واردات السلع الأساسية، ولو توافر لديه المال الكافي، فإن طبيعة الأزمة العسكرية في البحر الأسود أدّت إلى تقطيع سلاسل التوريد، كما أن طبيعة الإنتاج في روسيا وأوكرانيا والدول المحيطة من قمح وشعير وزيوت نباتية خلقت طلباً عالمياً على السلع أدّى إلى ارتفاع أسعارها بالتزامن مع ارتفاع أسعار النفط الذي يدخل في كل الأكلاف. لا داعيَ للتذكير بأزمات لبنان المتتالية من الأزمة المصرفية - النقدية - المالية، إلى انفجار مرفأ بيروت، وجائحة كورونا ما بينهما، وصولاً إلى كونه بلداً يسهل هزّه من الخارج بسبب انقساماته ورهاناته الخارجية، ويسهل ضربه من الداخل بسبب تركيبته الطائفية والزبائنية وفساد منظومته، ومطلوب إخضاعه أميركياً... نموذج الاقتصاد السياسي في لبنان يخضع بنيوياً للخارج فيما هو يعاني من الركود التضخّمي في الداخل
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يعتمد لبنان على الاستيراد لتغطية غالبية حاجاته الغذائية. وبحسب الاستراتيجية الوطنية للزراعة في لبنان 2020- 2025، فإن الإنتاج الزراعي والغذائي في لبنان يلبّي فقط 20% من الطلب المحلي. والاعتماد على الاستيراد أكبر عندما يتعلق الأمر بالقمح والسكر واللحوم والقمح والشعير والحمص والعدس والفاصولياء وسواها. لذا فإن مخاطر الأمن الغذائي مرتفعة للغاية في لبنان لأنها مرتبطة بالخارج. فأي تقلبات أو هزّات خارجية، تنعكس مباشرة على سلاسل التوريد وعلى أسعار الغذاء في لبنان. غير أن هذه الهشاشة لا تخصّ لبنان وحده. فغالبية الدول العربية فقدت مقوّمات الأمن الغذائي بسبب اعتمادها على الخارج أيضاً. والهزّات الخارجية، لم تأت فرادى، إذ لم يكد العالم يخرج من أزمة جائحة «كورونا»، حتى دخل في أزمة تضخّم ناتجة من آليات التعامل مع الجائحة، وبينما هو يتخبّط في معالجة التضخّم، انطلقت الأزمة الروسية - الأوكرانية التي كان لها وقع أشدّ على سلاسل وأسعار توريد الغذاء حول العالم وأسعار كل مصادر الطاقة أيضاً.
القمح كان السلعة الأولى التي استحوذت على انتباه الجميع بسبب الأزمة الروسية - الأوكرانية. فقد انتبه العالم سريعاً، إلى أن روسيا وأوكرانيا هما المنتج الأكبر للقمح والمصدر الأساسي للتوريد إلى الكثير من الدول. 80% من حاجات إنتاج الرغيف في لبنان تأتي من أوكرانيا وقسم آخر من روسيا. مصر أكبر مستورد للقمح من أوكرانيا. دول الخليج اكتشفت أنها تستورد خُضَر من أوكرانيا بقيمة 300 مليون دولار. المغرب انتبه إلى شحّ المحاصيل وأنه مضطر أن يزيد اعتماده على الاستيراد. الأردن يستورد 90% من سلّته الغذائية من الخارج وعلى رأسها القمح والشعير. 70% من التجارة العربية مع روسيا هي بيد أربع دول: السعودية، مصر، الإمارات والجزائر. أما تونس، فهي الدولة المصابة بأزمة اقتصادية كبرى، مثل لبنان، وإن بدرجة أقلّ، إلا أن سلّتها الغذائية تعتمد على الخارج أيضاً.
ورغم تشابه الواقع بين لبنان والدول العربية، إلا أن ثمّة فرقاً جوهرياً؛ فلبنان، لم يُصب فقط بجائحة «كوفيد»، بل انفجرت فيه أزمة مصرفية - نقدية - اقتصادية يصفها البنك الدولي بأنها قد تكون ثالث أسوأ أزمة شهدها العالم منذ القرن التاسع عشر. وبعد مرور سنة، أصيب بكارثة مصنّفة من بين الأكبر أيضاً: انفجار في مرفأ بيروت ضرب قسماً كبيراً من العاصمة وأطاح بصوامع القمح. ولبنان يختلف عن بعض الدول العربية المنتجة للنفط مثل دول الخليج التي لا تنتج الكثير من غذائها إنما لديها القدرة على تحمّل ارتفاع كلفته، إذ إن الاستيراد بالدولار خاضع لما تبقّى من احتياطات بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان. الرقم المتداول في المجلس المركزي لمصرف لبنان هو 12.2 مليار دولار، لكنّ الرقم الفعلي بعد احتساب الفواتير غير المسدّدة المترتبة عليه للمستوردين والدولة، يبلغ 8 مليارات دولار. حالياً، وبعد تقلّص عجز الميزان الجاري وباحتساب صافي التدفقات المالية الواردة والصادرة، فإن الحاجات الإضافية للبنان من العملة الأجنبية تُقدّر بنحو 2.5 مليار دولار سنوياً.
وإذا استثنينا من هذا الحساب، نمط الفساد السياسي والمؤسساتي القائم في لبنان، والأولويات السياسية التي تضع الانتخابات النيابية فوق اعتبارات رسم خطّة للخروج من الأزمة، وحسابات الخارج (كل الخارج)، فإن أزمة الأمن الغذائي قد تتحوّل سريعاً إلى كارثة. كارثة لجهة الأسعار وانعكاسها على المداخيل. وكارثة على صعيد توفّر السلع. بدايةً، كان أوّل انعكاس لهذه الأزمة على أسعار النفط، نظراً إلى أن روسيا هي أحد أكبر منتجي النفط في العالم. فقد أدّى ذلك إلى بلوغ سعر برميل النفط 120 دولاراً، يوم الأربعاء الماضي، قبل أن يهبط إلى 111 دولاراً يوم الجمعة. وسعر النفط هو العامل الأساسيّ الذي يؤثّر على كل أسعار السلع الأخرى. فهو يدخل في كل عمليات الإنتاج، وفي عمليات النقل، ما يعني أن التغيّرات في سعره تنعكس مباشرةً على أكلاف الإنتاج والنقل، وبالتالي على أسعار استيراد السلع.
لبنان لم يُصب فقط بجائحة «كوفيد» بل انفجرت فيه أزمة مصرفية - نقدية - اقتصادية تلاها انفجار مرفأ بيروت الذي أطاح بصوامع القمح ويخضع الآن لتداعيات الأزمة الروسية - الأوكرانية


إذاً، لبنان عرضة للمتغيّرات في كل الأسعار، بما فيها الارتفاع العالمي لأسعار الغذاء، كلفة شحن البضائع إلى لبنان، كلفة انتقال الأفراد محلياً، كلفة النقل الداخلي للبضائع، وكلفة توليد الطاقة الكهربائية بواسطة المازوت... بكل ما تخلقه هذه الارتفاعات من انعكاسات على مداخيل الأفراد وأكلاف الإنتاج لدى المؤسسات. ويظهر هذا الانكشاف على الخارج، في أن العديد من مورّدي السلع الأساسيّة إلى لبنان، هي بلدان بعيدة جغرافياً. ما يعني أن الارتفاع في كلفة نقل السلع منها إلى بيروت ستتأثر بكل ما يحصل وستشهد ارتفاعاً كبيراً. فمثلاً، أكبر مصدرين لاستيراد الأرز هما الصين والهند، اللتان تقعان في النصف الآخر من العالم. وأكبر مصادر الشاي هي سريلانكا، والعدس من كندا، والحمّص من أميركا والمكسيك، والأبقار الحيّة من كولومبيا والبرازيل. الرحلات الآتية من هذه البلدان إلى لبنان لنقل السلع الغذائيّة الأساسيّة، تقطع مسافات بعيدة، ما يعني أنه سيكون لارتفاع أسعار النفط أثره الهائل على كلفة الاستيراد. تتوقّع جلين كوبكي، المديرة العامة لشركة استشارات سلاسل التوريد «FourKites»، أن ترتفع كلفة الشحن بنحو ثلاثة أضعاف بسبب الأزمة الروسيّة-الأوكرانيّة، فيما تشير بعض التوقّعات إلى ارتفاع الكلفة 5 أضعاف.
ومن ناحية أخرى، انعكست الأزمة على حركات الملاحة البحريّة في العالم، وقد ظهر هذا من خلال تعطّل بعض الرحلات البحريّة في محيط أوروبا، خوفاً من حدوث أي تداعيات عسكريّة. وقد شهدت بعض شحنات الشركات الأوروبيّة إلغاء لرحلاتها، ومنها شحنات لا علاقة لطريقها بالبحر الأسود حيث تحدث المواجهة العسكريّة، لقد تم إلغاؤها بسبب مخاوف من تصعيد وتطورات في المياه الدوليّة. ويعني حدوث هذا الأمر أن الكثير من الشحنات ستتأخّر، ما سيخلق تبعات طويلة الأمد في حركة الشحن العالميّة، وهي التي لم تتعافَ بعد أصلاً من تبعات أزمة كورونا التي خلقت مشاكل كبيرة انعكست على سلاسل التوريد بسبب النقص في عدد الحاويات في العالم.
بطبيعة الحال، هذا الأمر يدفع التجّار والدّول إلى زيادة الطلب على السلع الغذائيّة الأساسيّة خوفاً من تأثّر حركة الشحن مستقبلاً، وهذا الأمر سيرفع أسعار السّلع. وقد اجتمع عاملا ارتفاع أسعار النفط، المُدخل الأساسي في الإنتاج، وزيادة الطلب على السّلع، لينتج عنهما ارتفاعٌ فعليّ في أسعار بعض السلع الغذائيّة الأساسيّة. فمنذ 24 شباط الماضي ارتفع سعر الأرز بنسبة 7%، وسعر السكّر بنسبة 5.5%، أمّا القمح، وهو كان أكثر السلع الغذائيّة تأثراً بالأزمة الروسيّة-الأوكرانيّة، فقد ارتفع سعره بنسبة 23% في الفترة نفسها.
لكنّ هناك عاملاً إضافياً أسهم في ازدياد الطلب على السلع: الخوف والقلق. بعض الدول أقفلت حدودها أمام التصدير. وبعضها الآخر قلّص صادرات بعض أنواع السلع للحفاظ على مخزون استراتيجي. فيما شعرت دول أخرى بالهلع من نفاد السلع لديها وسارعت إلى شراء كميات كبيرة بالأسعار المطلوبة. كل ذلك ساهم في تقليص حركة العرض ودفع الأسعار إلى مزيد من الارتفاع.
بالنسبة إلى القمح، سيعاني لبنان من مشاكل كبيرة تتعلّق بهذه السلعة. فأكبر أربعة مصادر يستورد لبنان منها تقع على البحر الأسود. فكما أصبح معروفاً، فإن أكبر مصدري قمح للبنان هما روسيا وأوكرانيا، وهما الطرفان الأساسيّان في الصّراع الدائر، أمّا ثالث مصدر فهو مولدافيا التي تصدّر إلى لبنان من خلال مرفأ ماريوبول في أوكرانيا. هذا الأمر يعني أن أكبر ثلاثة مصادر قمح للبنان معرّضة بشكل مباشر لتداعيات المعركة الدائرة، التي يشكل البحر الأسود مسرحاً لها. أما رابع أكبر مصدر فهو بلغاريا، التي تقع على البحر الأسود حيث تعرّضت حركة الملاحة البحريّة فيه لمشاكل ومخاطر عديدة.
إذاً، أي ثمن سيدفعه لبنان للحصول على الغذاء؟ بالتأكيد لن يكون الثمن مالياً فقط، بل سيكون سياسياً، لكن النظر إلى هذا الثمن بشكل تفصيلي، يشير بما لا يرقى إليه شكّ إلى أنه سيأتي على حساب الناس. ففي الفترة الماضية، تبيّن أنه بسبب الأزمة النقدية - المصرفية - المالية، وانهيار القدرات الشرائية، عمد قسم من المقيمين إلى حذف وجبات غذاء، أو حذف أنواع من الغذاء، أو تقنين الغذاء للأطفال... والكثير من الممارسات المماثلة التي تهدف إلى تقليص الأعباء على الأسر. اليوم، إذا استمرّت الحرب الروسية لفترة طويلة، سيتفاقم التضخّم حول العالم، وسيجد لبنان نفسه أمام مصيبة أكبر من تلك التي شهدها سابقاً، سواء لجهة تقنين حصوله على السلع الغذائية الأساسية، أو ارتفاع الأكلاف المحلية المدفوعة ثمناً للغذاء، أو استنفاد الاحتياطات بالعملات الأجنبية إلى الحدّ الذي يدفع نحو استخدام الذهب المخزّن جزئياً في الولايات المتحدة والذي يثير شهية القيّمين على النموذج من أجل مزيد من النهب.