نظام منح امتيازات لبعض الفئات في لبنان، يعود تاريخه إلى زمن بعيد ولا سيما في العهد العثماني حين أسندت مهمّة تحصيل الضرائب والإتاوات إلى والي المقاطعة الذي أوكلها، بدوره، إلى «التحصلدار» المحلي. وتولّى هذه المهام، عائلات إقطاعية اكتسبت نفوذها من موقعها السياسي الذي ورثته عن الأجداد. كما أوكلت السلطنة، المراكز الإدارية المحلية، من قائمقاميات، ومقاطعجية، إلى أمراء أطلقت عليهم ألقاب (بيك، وشيخ، وأمير…) حصلوا عليها مقابل خدمات للسلطنة. وقد صدرت هذه الألقاب، بموجب «فرمانات» من الباب العالي. وسمحت وظيفة «التحصلدار» التي شغلها أبناء العائلات المميزة، بتوسيع رقعة أملاكهم. ويروى أنّ أحد الزعماء استقبل وفوداً غفيرة جاءت من بلدات جنوبية عدّة لتسليمه صكوك ملكيّاتهم لقاء تسديد الضرائب المترتبة عليها، ما أتاح له، تملّك قرى بكاملها انتقلت ملكيتها لاحقاً لأبنائه وأحفاده.
توزيع الامتيازات
شكّلت هذه الحقبة، ولادة نحو مئة عائلة إقطاعية سيطرت على الحياة السياسية في لبنان نحو ما يزيد على قرن من الزمن. ووصل أحفاد هذه العائلات، في الانتخابات الأخيرة، إلى المجلس النيابي عبر دوائر عدة. وقد نشهد في الانتخابات المقبلة ترشيح الجيل الرابع من أبناء الأحفاد، للانتخابات، حفاظاً على الإرث التاريخي للعائلة. وفي عهد الانتداب الفرنسي، نشأت طبقة جديدة من الإقطاع المحلي، حصلت على امتيازات خاصة من خلال تولّي أبنائها، مهام جمع وتحصيل ضريبة «الميري» التي فرضت على الأراضي الزراعية والمواشي لحساب سلطة الانتداب. كذلك مُنحت هذه العائلات، مقابل خدماتها، امتيازات خاصة مكّنتها من السيطرة على ملكيات واسعة من الأراضي. بموجب نموذج هذه الطبقة، هناك عشر عائلات تملك وحدها نحو 48% من المساحات التي يشملها مشروع ري البقاع الجنوبي الذي تبلغ مساحته نحو 21 ألف هكتار.
سوكريادي سوكارتوين ــ إندونيسيا

ومع دخول لبنان في عصر الاستقلال، توسّعت رقعة الامتيازات، وأضيفت إليها امتيازات أخرى تقع تحت عنوان «الطائفة». واعتباراً من هذا التاريخ، بدأ جدول توزيع المناصب السياسية الكبرى، والمراكز الإدارية على الطوائف التي تم تقسيمها بين مسلم ومسيحي وأقليات.
- في مرحلة أولى: توزّعت المقاعد النيابية 45% للمسلمين، و55% للمسيحيين.
- في مرحلة ثانية: ساوى مؤتمر الطائف بين الطائفتين مناصفة، بدءاً من رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى وظيفة مأمور أحراج.
- وأخيراً دخلت بدعة «العرف» لتحظى طائفة معينة بحقيبة وزارة المال نتيجة تعاقب عدد من الوزراء من أتباعها، على تولي هذه الحقيبة أكثر من مرّة. وقد أدى التمسّك بهذا العرف، أخيراً، إلى تعطيل تشكيل حكومة جديدة أشهراً عدة.
لم يقتصر تقسيم اللبنانيين على أساس طوائف كبرى مؤسِّسة، وأقليات لكل منها مرجعيات دينية وسياسية يؤخذ برأيها في كل شاردة وواردة، بل تعدّى تقسيمهم إلى فئات محظوظة يصعب المسّ بامتيازاتها مقابل فئات ملحقة لا يحق لأبنائها الولوج إلى مراكز معينة محجوزة للطوائف الكبرى. فانطلاقاً من توزيع المناصب السياسية والوظائف الإدارية على أساس طائفي، حُجزت كل المواقع الاستراتيجية فيها لأبناء الطوائف الكبرى، وما تبقّى من المواقع الهامشية، تُرك لبقية الطوائف والأقليات. هكذا باتت مناصب نقباء الأطباء والمهندسين والمحامين، «محجوزة» يتناوب عليها المسيحيون والمسلمون بالتساوي. كما وُزّع بعضها مداورة بين السنة والشيعة.

عنصرية التيار الكهربائي
وأخيراً، وصلت عدوى الامتيازات إلى قطاع الكهرباء. فانتقلت نعمة الحصول على التيار الكهربائي من توزيع ساعات التغذية بالتساوي بين اللبنانيين، إلى تخصيص ساعات التغذية بالتيار الكهربائي لمناطق معينة على حساب مناطق أخرى يسكنها مواطنون «من الدرجة الثانية».
ضمن هذا البرنامج «العنصري» الذي اعتمدته كهرباء لبنان لسنوات عدة، تمتّعت بيروت الإدارية بتغذية كهربائية على مدار الساعة لسنوات عديدة. كما تمكنت كهرباء زحلة، وبسحر ساحر، من إمداد عروس البقاع وقضائها، بالتيار على مدار الساعة. وفي المقابل تركت بقية مشتركيها بعهدة أصحاب المولدات الخاصة وجشعهم. وتعيش بقية المناطق برنامج تقنين قاس بمعدل ساعة أو ساعتين تغذية بالتيار الكهربائي في اليوم الواحد.
وفي ظلّ نظام الامتيازات، تسجّل مؤسّسة كهرباء لبنان والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، واقعة شاذة أخرى في مسلسل التجاوزات. هذه الحالة الشاذة تجري وقائعها في معامل إنتاج الطاقة الكهربائية التابعة لمصلحة الليطاني.
ضمن البرنامج «العنصري» الذي اعتمدته كهرباء لبنان تمتّعت بيروت الإدارية بتغذية كهربائية على مدار الساعة في مقابل مناطق تعيش على برنامج تقنين قاس


تنتج هذه المعامل الثلاثة منذ إنشائها، نحو 190 ميغاواتاً في حال تشغيلها بكامل طاقتها وهي كالتالي: في معمل عبدالعال (مركبا) نحو 34 ميغاواتاً، وفي معمل بولس أرقش (الأولي) نحو 108 ميغاوات، وفي معمل شارل حلو (جون) نحو 48 ميغاواتاً، أي ما مجموعه 190 ميغاواتاً.
كانت كمية الطاقة المنتجة في المعامل الثلاثة، في سبعينيات القرن الماضي، تغطي نحو 40% من حاجات لبنان للكهرباء، وأصبحت في عام 2015، تغطي نحو 5% فقط من هذه الحاجات. وتحتاج المعامل الثلاثة لإنتاج هذه الكمية من الطاقة، إلى 350 مليون م3 من المياه، معظمها توفّره بحيرة القرعون، وترفدها في فصل الشتاء، بعض الكميات الأخرى من المياه الجارية في نهر الأولي.
أما الإنتاج الحالي للمعامل، فهو موزّع كالتالي: في معمل عبد العال (مركبا 4 ميغاوات، وفي معمل بولس أرقش (الأولي) 50 ميغاواتاً، وفي معمل شارل حلو (جون) 40 ميغاواتاً، أي ما مجموعه 94 ميغاواتاً، وهي كمية معتبرة حالياً، قياساً على ما تنتجه المعامل الأخرى في كهرباء لبنان.
إلّا أن هذه الكميات المعتبرة من الطاقة الكهربائية، محتكرة من قبل «الجزر» القائمة في محيط المعامل. فتُحظى قرى الإقليمين وجزين وراشيا، بساعات تغذية 24 ساعة بينما تغرق بقية المناطق في ظلام دامس وتقنين قاس. فهل يعقل أن تحرم مدينة صيدا، وهي على بعد كيلومترات قليلة، من هذه النّعمة؟
اعتراضنا على هذه الواقعة الشاذة، يقوم على ما يلي:
- الأولوية في الاستفادة من مياه الليطاني (ري، شفة، طاقة) يعود لسكان الحوض، أي البقاع، والجنوب. بنود القانون الدولي للمياه تنص على هذا الحق. ولا ضرورة للتذكير بأن إقليم التفاح وإقليم الخروب، وجزين تقع جميعها خارج حوض الليطاني. والإدارة الحالية في مصلحة الليطاني أقدمت على خطوتين:
- الأولى: إزالة التعديات الواقعة على منشآت مشروع ري القاسمية ورأس العين، واكتشاف خمسة آلاف دونم من الأراضي التي كانت تروى من مياه المشروع من دون تصريح ولا ترخيص، وإلزام مالكيها بدفع الرسوم والغرامات المترتبة عليها.
- الثانية: الحملة الناجحة التي شنّتها المصلحة على مصادر التلوّث في الحوض الأعلى لنهر الليطاني، ومنع أصحاب المعامل والمصانع والمشاغل من رمي مخلفات صناعاتهم التحويلية في مجرى النهر وفي روافده.
لذا، ندعو هذه الإدارة إلى رفع اليد عن محتكري الطاقة الكهربائية المنتجة في معاملها الثلاثة، وإلزام كهرباء لبنان بتوزيعها على كافة المناطق اللبنانية، وأن يكون على رأس قائمة المستفيدين من ساعات التغذية، سكان حوض الليطاني.
إنّ الواقعة الشاذّة التي تتعرّض لها معامل الليطاني، تشبه تماماً، عمليات السطو التي جرت أخيراً من خلال احتلال محطات توزيع الطاقة في منطقة الحرج، ومحطة توزيع الطاقة الواقعة على مفرق كفررمان في الجنوب. لكن الفرق بين الواقعتين:
- أنّ الأولى تتم برضى ورعاية المؤسّسة، والثانية، تعدّ عملية «سطو» على المرفق العام. لكن النتيجة واحدة في الحالتين، وهي الحصول على امتيازات، ومكاسب على حساب الصالح العام. فمتى يأتي اليوم الذي تلغى فيه جميع الامتيازات، ليصبح جميع سكان لبنان متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات؟

* مهندس ورئيس مصلحة سابق في مصلحة الليطاني