يقول الملياردير الأميركي وارن بافيت: «كُن خائفاً عندما يكون الآخرون جشعين، وجشعاً عندما يكون الآخرون خائفين». يُعبّر هذا القول عن أحد استراتيجيات الاستثمار في الأسواق الرأسماليّة المتعلقة بفكرة الاستثمار خلال الأزمات. فحوى الاستراتيجيّة، أن الأزمات هي فرصة للاستثمار في مختلف الأدوات (السندات والأسهم وغيرها) لاستغلال سعرها المنخفض. ويعود ذلك إلى حقيقة أنه خلال الأزمات يلجأ معظم المستثمرين إلى تسييل أصولهم الآمنة ما يؤدي إلى انخفاض سعرها السوقي، أي أن استراتيجية الاستثمار في الخوف تنطوي على مخاطر مرتفعة لا يتحمّلها أي مستثمر، لأنها تحتاج إلى قدرة على تحمّل المخاطر والخسائر. لذا، من يتّبع هذه الاستراتيجيّة هم المستثمرون الكبار القادرون على حمل مخاطر مرتفعة مقابل أرباح هائلة. إنها استراتيجية التوحّش.في الواقع، ثمة مثال طازج لهذه الاستراتيجية. ففي ميانمار قرّرت شركة «M1» المملوكة من الأخوين نجيب (رئيس حكومة لبنان) وطه ميقاتي، شراء فرع شركة الاتصالات «تيلينور» النرويجيّة العاملة في ميانمار. وكانت رغبة «تيلينور» في الانسحاب من السوق الميانماري، مرتبطة بالحفاظ على سمعتها في الأسواق المالية بعد الانقلاب العسكري الذي حدث هناك في شباط الماضي 2021 خوفاً من إجبارها على تسليم داتا الاتصالات للقوات المسلّحة التي تسلّمت السلطة هناك.
ففي شباط 2021 أطاحت القوات المسلّحة حكومة «أونغ سان سو كي» وتسلّمت السلطة. بعد الانقلاب، أصبح الهمّ الأكبر للشركات الأجنبيّة المستثمرة في ميانمار الخروج باستثماراتها حتى لا يرتبط اسمها بالنظام العسكري الموجود هناك. وشركة «تيلينور» أبدت رغبتها في الخروج من هذه السوق علماً بأنها واحدة من إحدى الشركات الأربع التي تشغّل قطاع الاتصالات في ميانمار. في البداية حاولت «M1» المملوكة من الأخوين ميقاتي، شراء هذه الشركة، إلا أن السلطات في ميانمار لم توافق على الصفقة لأنها أرادت مشغلاً محليّاً يأخذ مكان «تيلينور».

بالأرقام

18 مليون

هو عدد الاشتراكات في شركة «تيلينور»، ما يمثّل 29% من إجمالي الاشتراكات في قطاع الاتصالات في ميانمار، البالغ 61.1 مليون إشتراك، أي 113% من عدد السكان في البلد


13 مليار دولار

هي قيمة إيرادات شركة تيلينور عام 2020 وهي تمثّل 65% من القيمة السوقيّة لأسهم الشركة المطروحة في السوق، التي تبلغ قيمتها 2.4 مليار دولار

لكن لم تمض فترة طويلة حتى عادت «M1» مع تحالف رجال أعمال من ميانمار مقرّبين من السلطة العسكريّة الحاكمة، بحسب «رويترز»، وقدّموا عرضاً مشتركاً لشراء فرع «تيلينور». هكذا أعطت السلطات في ميانمار الموافقة على إتمام الصفقة ما أثار مخاوف الناشطين الميانماريين من تسليم بيانات اتصالاتهم لقوى السلطة العسكرية بعدما تبيّن أن تحالف الشركات بقيادة «M1» مقرّب من السلطة الحاكمة.
ما هو مثير للاهتمام أن الشركات التي تدّعي الخوف على سمعتها من العمل في ظل السلطة العسكريّة في ميانمار وتريد الخروج من السوق لهذا السبب، لا تأبه بأن بيانات الاتصالات قد تعرّض «الناشطين» للأذى في حال تم كشفها. أي أنها شركات باحثة عن الربحية فقط وعندما أصبح استثمارها في ميانمار ينطوي على تأثيرات سلبية على مركزها المالي ما قد ينعكس سلباً على ربحيتها المستقبلية، قرّرت الانسحاب. خوفها على سمعتها مردّه إلى وجود احتمال بأن تهتزّ ثقة المستثمرين ما يعرّضها لخسائر في قيمة أسهمها. لذا، قرّرت الشركة التضحية باستثمار كبير سيترتب عليه أكلاف مالية قد يفرضها حكم قضائي، إذ إن النروج تخضع لقانون حماية البيانات الذي أقرّه الاتحاد الأوروبي. وهذا القانون هو ما يبني عليه «الناشطون» قضيّتهم في المحكمة النرويجية ضد قرار شركة «تيلينور». وبحسب منظمة «SOMO»، قد تفرض المحكمة على الشركة غرامة تبلغ نحو 500 مليون دولار، لخرقها القانون، وهو مبلغ يمثّل 4% من إيرادات الشركة عام 2020 ونحو خمسة أضعاف قيمة صفقة بيع فرعها في ميانمار (105 ملايين دولار). بمعنى أوضح، شركة «تيلينور» كانت جاهزة لتعرّض نفسها لمخاطر المحاكمة بسبب خرق قانون حماية البيانات، في مقابل عدم خسارة قيمة أسهمها في الأسواق المالية، إذا بقيت في السوق «الميانمارية». وهي لم يكن لديها أي مانع يعيق تقديم بيانات الاتصالات إلى الشركة الجديدة، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر على «الناشطين».
في مقابل ذلك، لم تكترث شركة «M1» إلى أن صفقتها لم تُقبل إلا بعدما قدمت اتفاق شراكة مع مجموعة من رجال الأعمال المقرّبين من السلطة العسكريّة. والأخوان ميقاتي، لديهما تاريخ حافل في صفقات مماثلة في قطاع الاتصالات بحثاً عن الربحية الفاحشة التي وضعتهما على لائحة أثرياء العالم وأدخلتهما نادي أصحاب المليارات.
صحيح أن الدراسات تشير إلى أن رأس المال يتجنّب الدخول إلى الأسواق التي تشوبها النزاعات والفساد والأوضاع الأمنية والعسكرية غير المستقرّة، إلا أن رأس المال لا يتشابه، إذ إن بعضه يبحث عن اقتناص الفرص عبر خوض مغامرات استثمارية، حتى لو كان ذلك على حساب «السمعة» أو «الأخلاقيات». لذلك لم يكن لدى شركة «M1» أي مانع في الاستثمار في قطاع الاتصالات في بلدٍ ترتفع فيه المخاطر السياسيّة والأمنيّة، وفي صفقة عليها علامات استفهام.