منذ اللحظة الأولى لبدء عمل اللجنة الوزارية المكلّفة بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي وإعداد أو تعديل خطّة التعافي، سُرّب كلامٌ عن استبدال كلمة «خسائر» بكلمة أخرى أقلّ وطأة وذات مدلول مختلف، هي «فجوة». سريعاً صار استعمال «الفجوة» رائجاً وطاغياً على كل مسار معركة تحديد الخسائر وتوزيعها للدلالة على حجم الخسائر الموجودة في ميزانية مصرف لبنان، وانعكاسها على الخسائر المحقّقة في ميزانيات المصارف. أصلاً لم يكن هناك معركة لتوزيع الخسائر. فالمعركة تستوجب أن يكون هناك طرفان. لكنّ الوضع الحالي هو بمثابة صياغة لانتصار السلطة الرابحة مسبقاً على كل المجتمع. في السنتين الماضيتين تكبّد المجتمع خسائر هائلة في مداخيله ومدّخراته وأصوله من أجل إنكار وجود خسائر النظام المالي (مصرف لبنان، المصارف). في الخطة المرتقبة من الحكومة استمرار لهذا النهج المدروس في إخضاع المجتمع وإجباره على قبول خسائره ومن خلالها ردم «فجوة» النظام المالي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من أبرز مستعملي كلمة «الفجوة» النائب نقولا نحاس، الذي يكون بمثابة «العضو المقرّر» في اللجنة الوزارية المكلّفة بإعداد وتعديل خطّة التعافي باعتباره الرجل الأول من جانب فريق الرئيس نجيب ميقاتي، إلى جانب الاقتصادي سمير الضاهر، بالإضافة إلى حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف. وباسم المصارف، كتب الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر مقالاً في النشرة الشهرية للجمعية، بعنوان «إعادة هيكلة المصارف: السلطة ذات المصداقية!». يشير صادر في هذه المقالة إلى أن «أوساطاً حكومية تتحدّث عن معالجة الفجوة المالية البالغة 60 مليار دولار، والتي تكوّنت أساساً لدى مصرف لبنان على امتداد ربع القرن الأخير». ويضيف أن هذه الفجوة «تعود إلى ثلاثة أسباب بكلفة متوازية: الحفاظ على استقرار سعر صرف العملة الوطنية تجاه الدولار بكلفة تعادل 20 مليار دولار، وجرّاء إقراض الدولة بالعملات الأجنبية لتمويل نفقاتها بما يقارب الـ20 مليار دولار، وقيام مصرف لبنان بتوفير 20 مليار دولار لتمويل استيراد السلع والخدمات، وخصوصاً المحروقات».
ينطلق صادر من هذه «الفجوة» ليبرّر قيام المصارف بتمويلها (الفجوة) ورفع المسؤولية الائتمانية عنها، لافتاً إلى أن «توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان المركزي ليست قروضاً كما هي الحال مع الدولة والقطاع الخاص، وليس في أدبيات صندوق النقد الدولي أو أيّ مؤسسة مالية دولية أخرى من يعتبر ودائع المصارف لدى البنوك المركزية ديوناً عليها أو على الدولة».
كلام صادر، ليس سوى ترداد لما يقال في كواليس خطّة التعافي التي شارفت على الانتهاء، كما يقال. وفيها يرد أن «الفجوة المالية» لالتزامات مصرف لبنان بالدولار الأميركي، تبلغ 85 مليار دولار، وأن العمل ما زال جارياً في وزارة المال لإعداد الإطار الاقتصادي الكلّي الذي سيتضمن المؤشّرات الأساسية المتعلقة بسعر الصرف المستهدف، وبحجم الناتج المحلي الإجمالي، التضخّم، النظام الضريبي، عجز المالية العامة، الحسابات الخارجية، الدين العام، وسائر المتغيّرات التي تتأثّر وتؤثّر في أرقام الفجوة وفي آليات معالجتها، وتنعكس مباشرة على «فجوة» مماثلة في ميزانيات المصارف. ويتردّد أن معالجة هذه الفجوة، مبنية على عدم إمكانية فتح معركة مع المصارف التي تمثّل السلطة الأقوى في لبنان رغم الانهيار.
سيتم التلاعب بالمفاهيم والأرقام من أجل حصر توزيع الخسائر بعموم الناس، كما حصل في السنتين الماضيتين


بهذا المعنى، يصبح من الواضح أن الفجوة المذكورة، هي شكلية. وبالتالي، يتمحور السؤال الأساسي حول الشكل الذي سيتم من خلاله إظهار ما يمكن القيام به للمعالجة، مع الأخذ في الاعتبار القدرة على فرضها على الناس وإجبارهم على قبولها من دون اعتراضات واسعة تُذكر. فالتعامل مع «الفجوة» باعتبارها خسائر يجب شطبها ليس من ضمن جدول أعمال الحكومة أو اللجنة الوزارية المكلّفة بإعداد خطّة التعافي. أي أن التعامل مع «فجوة» يتيح لمعدّي الخطّة رسم مسارات مختلفة كلياً عن مسار التعامل مع «خسائر». فبدلاً من شطب الخسائر بالطرق المعروفة باعتبارها أموالاً لم تعد موجودة داخل النظام أو الميزانيات، سيتم اللجوء إلى آليات لردمها تتنافى مع معايير المحاسبة الدولية، ولا سيما المعيار المحاسبي IFRS9. أصلاً كان حاكم مصرف لبنان قد أعفى المصارف من تطبيق هذا المعيار من خلال إصدار التعميم 542 الذي يتيح للمصارف ألا تتجاوز نسب الخسائر الائتمانية المتوقّعة على محافظ التوظيفات لدى مصرف لبنان بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية بما فيها شهادات الإيداع والتوظيفات في سندات الخزينة بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية، نسب الخسائر الائتمانية المحتسَبة نظامياً المذكورة في الملحق الرقم 6. ويحدّد هذا الملحق نسب الخسائر المتوقّعة على هذه التوظيفات بنحو 0.89%.
إذاً، في رأي مصرف لبنان تكاد تكون الخسائر المتوقّعة من توظيفات المصارف لديه، غير منظورة. وعلى هذا الأساس، صار الحديث عن «فجوة»، وليس عن «خسائر». وفوق هذا الطابق من التوصيف المشبوه لحقيقة ميزانيات النظام المالي، يأتي صادر ليقول إنه ليس في أدبيات صندوق النقد الدولي أو أي مؤسسة مالية دولية أخرى من يعتبر ودائع المصارف لدى البنوك المركزية ديوناً عليها أو على الدولة.
إذاً، فليسمّها صادر وغيره، ما شاؤوا، لأنها «خسائر» سيتم ردمها عبر طباعة كميات هائلة من النقد تسهم في تضخيم الأسعار أكثر وأكثر، وفي انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار. فالعلاقة بين سعر الصرف وبين التضخّم، وبين الكتلة النقدية قيد التداول، كبيرة جداً ولا يمكن محوها من خلال استبدال كلمة بأخرى. وسواء كانت «فجوة» أم «خسائر»، فإن هذه الأموال بالعملة الأجنبية لم تعد موجودة، بل سيتم خلقها من خلال قدرة المصرف المركزي على طباعة النقود وضخّها في السوق. وفي كواليس خطّة التعافي، يتناقل المصرفيون معطيات تشير إلى أن 20 مليار دولار سيتم تحويلها إلى الليرة اللبنانية وفق سعر الصرف المعتمد على منصّة «صيرفة»، أي أن مصرف لبنان سيصدر كمية من النقود تُقدّر بنحو 360 ألف مليار ليرة في هذه العملية (باعتبار أن سعر صيرفة بلغ الأسبوع الماضي ما معدّله 19500 ليرة لكل دولار). هذا عدا أن مصرف لبنان سيصدر نحو 6 مليارات دولار بسعر صرف يوازي 12 ألف ليرة لكل دولار من خلال التعميم 158 (الذي سيتم تكريسه وتشريعه في مشروع قانون الكابيتال كونترول)، أي ما قيمته 72 ألف مليار ليرة.
عملياً، سيتم التلاعب بالمفاهيم والأرقام من أجل حصر توزيع الخسائر بعموم الناس، كما حصل في السنتين الماضيتين. ففي هذه الفترة، تحمّل المقيمون في لبنان عبء إصدار النقد مقابل ردم «الفجوة»، من خلال تضخّم الأسعار بنسبة تفوق 500%. لكنّ ميقاتي وسلامة والمصارف، لم يكتفوا بهذا الأمر، بل يريدون تحميلهم المزيد من خلال خطّة ستتضمن إصدار كل هذه الكميات من العملة بلا قيمة، ومن خلال زيادة الضرائب قبل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي سيفرض إجراءات تصيب شرائح واسعة من العاملين في القطاع العام والمستهلكين. أما ما سيحصل عليه المقيمون في لبنان، فهو المزيد من الفقر المتعدّد الأبعاد، والبطالة، والهجرة.
«الفجوة» تعني استمراراً للنكران، حالة النكران الشاملة. «الفجوة» تعني أنه سيتم تقديم القصّة للناس من أجل استيعابها وقبولها من دون أي خضات سياسية تهزّ عروش قوى السلطة. بينما الخسائر تعني الاعتراف بأن هناك أموالاً تبخّرت وستُشطب من الميزانيات. حالياً ما زلنا في مرحلة النكران.