شكّل انخراط مؤسّسات التمويل الدولية في الاقتصاد التونسي بعد الاستقلال، عاملاً مؤثّراً في تشكيل نظامها الاقتصادي الحالي. فمنذ تولّيه زمام السلطة، كان الرئيس الحبيب بورقيبة يريد اتباع نهج اشتراكي يتمركز فيه القرار الاقتصادي بيد السلطة، ويعتمد على الإنتاج المحلّي، إلا أن تدخّل البنك الدولي ومن بعده صندوق النقد، أغرق تونس في مسار نيوليبرالي امتدّ لعقود من التدخلات والقروض المشروطة بما يُسمّى «إصلاحات» هدفها الأساسي إضعاف دور الدولة في الاقتصاد وإطلاق يد القطاع الخاص بلا قيود. بنتيجة هذا المسار، فإن نحو 70% من صادرات تونس تصبّ حالياً في دول أوروبا مقابل اعتمادها بشكل كبير على رأس المال الأوروبي، بينما نحو 50% من استيرادها يأتي أيضاً من دول أوروبا. هذا الاختلال في العلاقات الاقتصادية كان مفيداً في اتجاه واحد: استغلال تونس.
ماري لينا ناردي ــ إيطاليا

ما قبل النيوليبرالية 
تزامن تحوّل الاستراتيجية الاقتصادية التونسية نحو النيوليبرالية مع انتشار هذا النموذج كنهج اقتصادي وتعميمه في العالم. كان ذلك في نهاية السبعينيات. قبل ذلك، وتحديداً في الفترة التي تلت الاستقلال التونسي في عام 1956، حاول الوزير أحمد بن صلاح، الذي شغل وزارات أساسية (المالية، الاقتصاد والتخطيط)، اعتماد استراتيجية «التعاضد».

6

مليارات دولار هو المبلغ الذي أنفق على إعادة رسملة المصارف العامّة ومساعدة المصارف الخاصّة بين عامي 1992 و2000 في تونس، بحسب المصرف المركزي التونسي


آنذاك، كانت تونس تعاني من صعوبة في إحياء القطاع الزراعي بعد استقلالها وتطهير القطاع من أصحاب رؤوس الأموال الفرنسية الذين كانت لديهم أفضلية الاستحواذ على الأراضي الأكثر خصوبة. كان هؤلاء يمثّلون الحصّة الأكبر من مجمل الإنتاج الزراعي. وهذا الأخير بدوره، هو العصب الرئيسي للاقتصاد التونسي الذي يعمل فيه أكثر من 75% من التونسيين. كانوا يعتمدون عليه كمهنة أساسية أو لتأمين قوتهم اليومي. غير أن التطهير طرَدَ الاستعمار ومعه رجال أعماله ورؤوس أموالهم، ما ترك القطاع في حالة سيئة. ثم تدهورت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي ولم تعد تمثّل أكثر من «ثلث الدخل القومي في البلاد خلال مرحلة ما بعد انسحاب الاستعمار الفرنسي»، بحسب الباحثة جينيفر هان في ورقتها «تونس: الواقعية والتقدّم».
بهذه الخلفية وُلدت «خطّة السنوات العشر» لأحمد بن صلاح كوزير للتخطيط في عام 1961. هو كان المهندس الرئيسي وراء مشروع تجميع الأراضي والتعاون الزراعي، الذي صُمّم لمعالجة الأزمة الزراعية. قام المشروع على تأميم الأراضي الزراعية الرئيسية، بدءاً من الأراضي الأكبر التي كان يستحوذ عليها المستعمرون، وصولاً إلى الأراضي الأصغر التابعة للمزارعين المحليين. تفترض خطّة التأميم أن توفير التقنيات الزراعية والتوجيه الحكومي العام يؤديان إلى زيادة الإنتاج بما يكفي الطلب المحلي. أما الفائض فيتم تصديره لاستجلاب الرساميل الخارجية التي تُستعمل لتنمية الزراعة وقطاعات أخرى.
هذا هو النهج الذي كان يأمل بورقيبة في إحداثه. نهج قائم على الاشتراكية وسياسة «الإنتاج بدلاً من الاستيراد».

الاستعمار القديم - الجديد
البنك الدولي موجود في تونس منذ بداية الستينيات أيام الاستعمار. كان البنك داعماً تمويلياً لمشروع أحمد بن صلاح التعاضدي، قبل أن ينقلب عليه في عام 1966. ففي الفترة التي كان فيها المشروع التعاضدي بحاجة إلى التمويل، وقّع البنك الدولي سلسلة قروض تمويل تنموية مع تونس تعزّز صراحة تنمية القطاع الخاص، حتى إن البنك الدولي أعلن في عام 1969 الامتناع عن تمويل أي مشروع لبرنامج التعاضد. كانت هذه الضربة هي الأكبر لمشروع بورقيبة. فالتمويل من البنك الدولي كان يمثّل ثلثَي الحاجة الإجمالية لتمويل برنامج التعاضد، كما تقول إيما مورفي في كتابها «التغيير الاقتصادي والسياسي في تونس».

انتقلت تونس إلى أحضان النيوليبرالية على يد البنك الدولي الذي دمّر مشروع «التعاضد» من أجل مشروع «الإنتاج من أجل أوروبا»


أدّى التحوّل في سياسة البنك الدولي، إلى تخفيف عزم بورقيبة على المضي قدماً في مشروعه. كما أن ضغط بعض فعّاليات الحزب الحاكم، خوفاً من ازدياد نفوذ أحمد بن صالح، أدّى إلى الإطاحة به من منصب وزير الاقتصاد ومحاكمته لاحقاً. هكذا لعب البنك الدولي دوراً أساسياً في تحوّل تونس جذرياً نحو النيوليبرالية. ويصبح الأمر أكثر وضوحاً مع إشادة البنك الدولي بالتحوّل الذي قاده في تونس. ففي عام 1972، أصدر البنك الدولي تقريراً عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تونس واصفاً التحوّل الجاري هناك بأنه «استراتيجية جديدة تهدف إلى تسريع النموّ والصادرات والتوظيف، وذلك بشكل أساسي عن طريق الحدّ من التدخّل المباشر للحكومة في الاقتصاد، وتخفيف الضوابط الإدارية وتعزيز الدعم غير المباشر للأنشطة الإنتاجية في القطاع الخاص».
في الواقع، أسهم هذا التحوّل في توقيع تونس اتفاقية شراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1969. سمحت هذه الاتفاقية بإعفاء جمركي لصادرات تونس إلى دول أوروبا، وهذا بدوره كان مؤشراً إلى بداية التحوّل من استراتيجية «الإنتاج بدلاً من الاستيراد» إلى «الإنتاج من أجل التصدير». وفي عام 1972 ولغاية عام 1974، تكرّس الأمر في تعديلات تشريعية تخدم «تحرير» الاقتصاد التونسي من أبرزها قانون تنظيم القطاع المصرفي في عام 1976.

تعميق التبعية
كما في كل الدول التي «تحرّر» حساباتها الخارجية، أي تحرّر تدفق الأموال بين الداخل والخارج، تصبح رهينة مراكمة الاحتياطات بالعملات الأجنبية. يصبح هدفها الأسمى الحفاظ على هذا التراكم وتغذيته باستمرار. ما حصل في تونس بعد انسياقها في النهج النيوليبرالي، أنه في عام 1985 انخفضت احتياطاتها بالعملات الأجنبية بشكل حادّ نسبة إلى الدين الخارجي إذ كانت 18% في عام 1983 ثم بلغت 6% في عام 1985. وفي السنة التالية، أي في عام 1986، وقّعت الحكومة التونسية اتفاقية برنامج مع صندوق النقد الدولي. سواء كانت صدفة أو تخطيطاً، فإن هذه الاتفاقية مهّدت للانقلاب الذي قاده زين العابدين بن علي على بورقيبة. يوم انخرط بورقيبة في السياسات التقشّفية، كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يوزّعان الإشادات بخطواته، لكنهما لم يمنحا الحكومة التونسية الدعم المالي، بل كان الأمر بمثابة فرصة لتوسيع انخراط تونس في النهج النيوليبرالي، لجهة تحرير التجارة بشكل أكبر، وتقشّف أقصى في ما يخصّ سياسات الدعم، وفرض «إصلاحات» تجذب الاستثمارات الأجنبية، وتخفيف القيود على الاستيراد. بعد الانقلاب انخرطت تونس بشكل كلّي في النموذج الليبرالي.
وفي عامَي 1986 و1987 وقّعت حكومة تونس قرضين مع البنك الدولي في مجالَي الزراعة والصناعة. استهدف القرض الزراعي خصخصة القطاع بشكل كبير، ما أدّى، بحسب دراسة فاضل علي رضا بعنوان «المؤسسات المالية الدولية وإعادة إنتاج التبعية الاقتصادية لتونس»، إلى قمع صغار المزارعين والفقراء لمصلحة كبار ملّاكي الأراضي. وبحسب علي رضا، فإن هذا المسار نزع الملكية عن عدد كبير من صغار المزارعين وتُركوا بلا وظائف أو أي عمل آخر، ما أسهم في حركة النزوح من الأرياف نحو المدن. وانخفضت نسبة سكان المناطق الريفية بأكثر من الثلث بين عامَي 1970 و2010.
لم يكتف النهج بهذه المجزرة، بل أقرّت الحكومة التونسية في عام 1987 نصّاً صريحاً يشترط إعادة هيكلة المؤسسات العامة الراغبة في الاقتراض، كما ذكرت إيما مورفي. فقد سهّل هذا القانون بيع الشركات الحكومية في أكثر القطاعات ربحية مثل الفنادق والمنسوجات والشركات التابعة للمصارف الحكومية، مع الاحتفاظ بالقطاعات الأقل ربحية للملاك العام. 

بين 2010 و2018 اتسعت هوّة اللامساواة وتدهورت قيمة الدخل أكثر وتفكّكت البنية التحتية للإنتاج


ومع أن نتيجة البرنامج مع الصندوق كانت جيدة نسبياً على صعيد الأرقام التي تخصّ الاقتصاد الكلّي وموازنة الدولة، إذ انخفض العجز المالي والتضخّم،  إلا أن نتائج التحوّل الذي فرضه الصندوق انعكس اتساعاً في هوّة اللامساواة. في هذا السياق يشير علي رضا، إلى انخفاض معدّل الدخل الحقيقي للفرد بنسبة 11% بين عامَي 1983 و1993. وانخفض عدد الذين ينتمون إلى فئة الخمس الأوسط في توزيع الدخل، من 20% إلى 15.3%، بين عامَي 1975 و1990. كما أن البرنامج لم يعالج معدّل البطالة المرتفع والذي بقي بحدود 16%.
مع ذلك، لم تتوقّف عملية إغراق تونس في النظام الجديد حتى بعد انتهاء برنامج صندوق النقد. بل بقيت الحكومات التونسية تمارس التعديلات التحريرية للسوق مقابل المزيد من القروض من قبل البنك الدولي. فكانت النتيجة، خسارة تونس، في الفترة بين عامَي 1996 و2013 نحو 55% من قاعدتها الصناعية من دون أن تنخفض مستويات البطالة بشكل كبير، ومن دون أن يظهر انعكاس إيجابي للاتفاقيات التجارية مع الدول الأوروبية على صادرات تونس نحو الاتحاد الأوروبي رغم أن تونس زادت وارداتها من هناك، وفقاً للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
هذا يدلّ على أن التحوّل الذي شهده الاقتصاد التونسي بعد فرض التغيير عليه من قبل المؤسّسات الدولية، يخدم مشروع دفع تونس في اتجاه التبعية والاعتماد على دول المركز الرأسمالي، وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي.

عودة صندوق النقد 
بهذا النهج، كان اقتصاد تونس يحمل في طياته عوامل انفجاره. الظروف المناسبة لهذا الانفجار جاءت بعد اندلاع الثورة التونسيّة بين عامَي 2010 و 2011 وخلع زين العابدين بن علي. مثل هذه الظروف كانت مثلى لانفجار نظام يعتمد على التدفقات الخارجية لتمويل استهلاكه المحلّي. فجأة عاد الحديث عن كلفة الديون الخارجية التي بلغت 2.3 مليار دولار في عام 2010، أي ما نسبته 18.2% من الموازنة العامة، ما دفع تونس نحو «فم التنين» مجدداً. ففي عام 2013 وقّعت الحكومة التونسية اتفاقية جديدة مع صندوق النقد الدولي تشمل الشروط المعتادة لهذه المؤسّسة النيوليبرالية لجهة إقرار المزيد من التقشّف، وخفض قيمة العملة المحليّة، وإعادة هيكلة المصارف، وخفض فاتورة الأجور في القطاع العام وغيرها.
في النتيجة، وقعت تونس في المزيد من الديون. كانت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 40% في عام 2010، لكنها بلغت 76.6% في عام 2018. وفي هذه السنة تحديداً بات نحو 74% من دين تونس ديناً خارجياً (بالعملات الأجنبية) مقارنة مع 61% في عام 2010. 
وخلصت دراسة أجراها المعهد الوطني للمستهلك في تونس في كانون الأول 2018، أن 1.8 مليون أسرة تونسية تعيش في ديون. كذلك، تبيّن الدراسة نقلاً عن بيانات البنك المركزي التونسي، أن الديون المعدومة (الديون الهالكة) في البنوك التونسية زادت بنسبة 127% بين عامَي 2010 و2018. وكانت 12% من القروض المصرفية في عامَي 2017 و2018 للديون الاستهلاكية. فضلاً عن ذلك كانت هوّة اللامساواة تتسع بالتوازي مع انخفاض قيمة الدخل، وتفكيك البنية التحتية للإنتاج.
هذه كانت نتائج التحوّل الذي شهده اقتصاد تونس منذ ما بعد الاستقلال.



تحكّم البنك الدولي في المراكز الأساسية 
من المسارات التي تتبعها المؤسسات المالية الدولية للسيطرة على قرارات الدول التي تحتاج إلى مساعدتها، هو وضع شخصيات تابعة لها في مراكز القرار للتأكد من تنفيذ أجنداتها بشكل سلس. فمثلاً، في عام 1983 قامت الحكومة التونسية برفع أسعار الخبز، بعد سنوات من انتقادات البنك الدولي لسياسة الدعم لهذه السلعة. وقد صادف قبل إصدار هذا القرار تعيين إسماعيل خليل، مباشرة بعد تركه منصباً تنفيذياً في البنك الدولي، وزيراً للاقتصاد. وعندما دخلت تونس في أول برنامج مع صندوق النقد عام 1986، عُيّن خليل حاكماً للمصرف المركزي، وكان له دور كبير في تطبيق عملية إعادة هيكلة نيوليبرالية للنظام المصرفي خلال فترة تطبيق برنامج صندوق النقد. وقد أعاد التاريخ نفسه في عام 2011، قبل دخول تونس في اتفاق مع صندوق النقد للمرة الثانية في تاريخها، حيث عُيّن مصطفى كامل نبلي حاكماً للمصرف المركزي، بعد أن كان يشغل منصباً رئيسياً في البنك الدولي.

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.