حالياً تبلغ القدرة الاستيعابية لمحطات التكرير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 39% من مجمل إنتاجها النفطي. قد يكون هذا الأمر مؤشراً إلى جدوى إعادة تأهيل محطتَي التكرير في لبنان وتوسيعهما. لبنان بحاجة إلى هذا النوع من الاستثمارات التي تمنحه فرصة الانخراط في نشاط يدرّ عليه إيرادات خارجية. فالأزمة الراهنة، ولا سيما الشق المتعلق بضعف قدرة مصرف لبنان على تمويل استيراد المشتقات النفطية، تهدّد الاقتصاد والمجتمع. الاقتصاد بشقّه الإنتاجي - الخدماتي مبني على الطاقة. الصناعة، الاتصالات، المستشفيات، الغذاء، المواصلات، نقل المياه، السياحة بكل مجالاتها، الزراعة... كلّها تعتمد على وجود الكهرباء، وعلى البنزين والمازوت بشكل أساسي. لبنان الذي عزلته دولته عن الزراعة والصناعة وحشرته بين السياحة والخدمات، يختنق في أزمة الحفاظ على احتياطاته بالعملات الأجنبية التي تموّل استيراد المشتقات النفطية. لكنّ لديه محطتَي تكرير للنفط الخام في طرابلس والزهراني متوقفتين عن العمل منذ عقود بينما المنطقة العربية عطشى لمثل هذه الاستثمارات على ساحل المتوسط.
انقر على الصورة لتكبيرها


إنتاج فائض مقابل تكرير متدنّ
في عام 2020 أنتجت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 26.5 مليون برميل نفط يومياً. هذا المعدّل، بسبب جائحة كورونا، هو أقل من معدّل الإنتاج في عام 2019 والبالغ 29.6 مليون برميل يومياً. في المقابل، تبلغ القدرة الاستيعابية لمحطات التكرير في المنطقة 11.5 مليون برميل يومياً. لذا، فإن الدول المنتجة للنفط في هذه المنطقة تبيع النفط الخام لشركات النفط الآسيوية والأوروبية والأميركية التي تقوم بدورها بتكريره والاستفادة من أرباح بيع المنتجات النهائية. بعض دول المنطقة لديها قدرات تكرير كافية لاستيعاب إنتاجها النفطي مثل مصر التي أنتجت نحو 623 ألف برميل يومياً بينما قدرة التكرير لديها تصل إلى 800 ألف برميل يومياً، والبحرين أنتجت 197 ألف برميل يومياً بينما قدرتها تصل إلى 263 ألف برميل يومياً.

بالأرقام

20 مليار دولار
هي عائدات قطاع تصنيع المنتجات البترولية المكررة في اليونان في عام 2019 وهو يشكّل حوالي 10% من الناتج المحلي لليونان في تلك السنة

2.7 مليار دولار
هي قيمة الاستثمارات في قطاع تكرير النفط بين عامي 2009 و2012 في الوقت الذي انكمش فيه الاقتصاد بنسبة 20%


وفي المقابل، هناك دول في المنطقة تعتمد بشكل أكبر على مبيع النفط الخام مثل العراق والكويت والسعودية. العراق لديه محطات قادرة على تكرير فقط 862 ألف برميل يومياً أو ما نسبته 18% من إنتاجه اليومي (4.7 ملايين برميل يومياً). ولدى الكويت القدرة على تكرير 619 ألف برميل يومياً تمثّل 22% من مجمل إنتاجها البالغ 2.8 مليون برميل يومياً، أما السعودية فلديها القدرة على تكرير 2.8 مليون برميل يومياً تمثّل 28% من إنتاجها البالغ 9.9 ملايين برميل يومياً. وإلى جانب ذلك، هناك دول تملك محطات تكرير مع أنها ليست مُنتجة للنفط، مثل الأردن التي لديه قدرة على تكرير 95 ألف برميل يومياً، وهناك دول أخرى تكرّر جزءاً كبيراً من إنتاجها النفطي، مثل إيران التي تكرّر نحو 80% من إنتاجها في محطات قادرة على تكرير 2.4 مليون برميل يومياً، علماً بأن إنتاجها بلغ 2.9 مليون برميل يومياً في عام 2019.
باختصار، إنتاج المنطقة من النفط يفوق قدراتها التكريرية، بينما ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الشركات التي تشتري النفط من المنطقة ليست لديها قدرة تنافسية عالية مع محطات التكرير الموجودة في المنطقة لسبب مهم: تتكبّد الشركات الأوروبية كلفة نقل النفط الخام على متن ناقلات بحرية عملاقة من الدول المنتجة إلى محطات التكرير في أميركا وأوروبا وشرق آسيا. هذه الكلفة تُحتسب ضمن الكلفة التشغيلية ما يحدّ من قدرتها التنافسية مع محطات التكرير الموجودة في الدول المنتجة أو في الإقليم.

هامش الربحية
إذاً، الجدوى الاستراتيجية متوافرة، فماذا عن الجدوى المالية؟ الإجابة تكمن في ما يسمّى هامش التكرير أو «refining margins». هذا هو المؤشر الأساسي إلى جدوى الاستثمار في محطات التكرير، وهو يتعلق بالفرق بين قيمة النفط الخام، وقيمة المنتج النفطي المكّرر مضافاً إليه أكلاف التشغيل. وهذا الهامش ليس واحداً بين محطات التكرير، بل هو مرتبط بالتقنية المعتمدة؛
- هناك محطات تعمل بتقنيات منخفضة التعقيد مثل الـ«Hydroskimming»، وأخرى تعمل بتقنية متوسطة التعقيد مثل الـ«Catalytic Cracking»، فضلاً عن اعتماد بعضها على تقنيات بمستوى تعقيد مرتفع تستخدم الـ«Coking» والـ«Hydrocracking». الفرق الذي تنتجه كل تقنية يتعلق بنوعية وكمية المنتجات التي تستخرجها من النفط الخام. فتقنيات التكرير المنخفضة التعقيد تُستَخدم في تكرير «النفط الخام الحلو» الأعلى سعراً لأنه يُعدّ ذا جودة عالية، وتنتج منه منتجات نفطية ذات قيمة عالية، مثل غاز البروبان والبوتان والبنزين، إنما بكميات أقلّ مما تنتجه التقنيات الأخرى. كذلك تنتج هذه التقنية كمية أكبر من المنتجات النفطية ذات الجودة المنخفضة (مثل النفط الثقيل ووقود الطائرات والبواخر...). بمعنى آخر تحتاج هذه المحطات إلى نفط خام سعره مرتفع لاستخراج منتجات نفطية عائدها أقل. لذا، من الطبيعي أن يكون هامش التكرير متدنياً.
- تقنيات التعقيد المتوسط، يمكنها التعامل مع النفط الخام الأكثر «حموضة» (وهو مصطلح يعبّر عن كميّة الكبريت الموجودة في النفط). وهذا النوع من النفط هو أقل سعراً من «النفط الحلو» الذي يحتوي على كميات كبرى أقلّ ويُعدّ ذا جودة أدنى. إلا أنه من الناحية الأخرى، تنتج هذه التقنية كميات أكبر من المنتجات النفطية العالية القيمة، وبالتالي تحقق مكاسب أكبر.


- تقنيات التعقيد المرتفع يمكنها التعامل مع نفط خام أثقل وأكثر حموضة وهو أقل أنواع النفط الخام سعراً وأقلّها جودة. لكن المنتجات المعدّة للبيع التي تُستخرج بواسطة هذه التقنية هي مرتفعة القيمة. بمعنى آخر، هذه المحطات هي الأكثر فعّالية لجهة تحويل النفط الخام ذي الكلفة المنخفضة إلى منتجات نفطية ذات قيمة عالية، أي أن هامش التكرير هو الأعلى افتراضياً بين كل أنواع محطات التكرير.
تجدر الإشارة إلى أن هوامش التكرير تختلف حتى بين المحطات التي تعتمد تقنيات مماثلة. وهذا يعود إلى أن كل محطة تكرير لها خصائص خاصّة بها، مثل إنتاجية المحطّة، كلفة اليد العاملة، كلفة الطاقة، وغيرها من الخصائص. كما أن هذا الفرق في الإنتاجية بين التقنيات لا يعني بالضرورة أن هامش الربح للتقنيات الأكثر إنتاجية، سيكون أعلى في كل الأوقات، إذ إن هذا الهامش يعتمد أيضاً على تحرّك أسعار النفط الخام على أنواعه وعلى أسعار المنتجات النفطية، ويعتمد أيضاً على أنماط الطلب. فعلى سبيل المثال، قد تصبح هوامش ربح التقنيات الأقل إنتاجية أعلى من تلك الأكثر إنتاجية، بسبب ارتفاع أسعار الزيت الثقيل ووقود الطائرات بشكل أكبر من البروبان والبنزين.

تشغيل محطتَي طرابلس والزهراني
لدى لبنان محطتا تكرير للنفط قديمتان في طرابلس والزهراني خرجتا عن الخدمة خلال الحرب الأهلية (الزهراني في عام 1989 وطرابلس في عام 1992). كانت محطة التكرير في الزهراني تقوم بتكرير نحو 17 ألف برميل نفط خام يومياً، إلا أنها أصيبت بأضرار عدّة خلال الحروب. وكانت محطة طرابلس تملك قدرة تكرير 21 ألف برميل من النفط الخام يومياً، وهي كانت تغطّي نحو 15% من احتياجات المنتجات النفطية في لبنان، وهي موصولة على خطّ نقل النفط الممتدّ من العراق عبر سوريا إلى لبنان.
الاستثمار في تأهيل وتحديث محطتَي تكرير طرابلس والزهراني يكفي لتأمين حاجات لبنان من المشتقات النفطية ولتصدير الباقي


لكن إزاء هذه المعطيات، يبدو أن لبنان أمام فرصة لخفض كلفة استيراد المشتقات النفطية عبر تأهيل محطتَي التكرير والاستثمار فيهما للتوسيع والتحديث. هذا الاستثمار ضروري لأن قدرات المحطتين لا تكفي حاجة السوق اللبنانية التي تبلغ 140 ألف برميل يومياً بحسب أرقام منشآت النفط في لبنان. الجدوى لا تقتصر على تلبية متطلبات السوق المحلية، بل يجب أن تشمل أيضاً قدرات تصديرية تدرّ على لبنان تدفّقات بالعملة الأجنبية. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون هذا الاستثمار باباً لخلق فرص عمل. فالمحطات تحتاج إلى يد عاملة وعمالة ماهرة ومتخصّصة. كذلك ستنشأ حول هذا القطاع شركات مكمّلة مثل التخزين الاستراتيجي الذي بدأ مع تلزيم شركة روسية إنشاء خزانات في منشآت طرابلس.
هناك العديد من الأمثلة عن دول لديها محطات تكرير وتستفيد من تصدير إنتاجها الفائض إلى الخارج أبرزها اليونان التي تملك قدرة على تكرير 528 ألف برميل يومياً. ولبنان قد تكون لديه قدرة تنافسية بسبب موقعه الجغرافي القريب نسبياً من الدول المنتجة للنفط، وإمداده بالنفط الخام متيسّر عبر التمديدات الموجودة أصلاً بين العراق ولبنان. وهذا الأمر يقلّل من كلفة الاستثمار الأوّلي، وكلفة النقل التي تدخل في الكلفة التشغيلية، وهذه الأخيرة تُعدّ عاملاً مهماً في احتساب «هامش التكرير». وكل ذلك يمكن أن يُسهم في زيادة نسب الأرباح، الأمر الذي يعطي لبنان ميزة تنافسية في مقابل الشركات الأجنبية، التي تعمل في مجال تكرير نفط الخام.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام