منذ نهاية أيلول 2019، أي منذ صدور تعميم مصرف لبنان رقم 530 الذي يحدّد آلية دعم المشتقات النفطية والطحين والدواء، ولغاية اليوم، تضاعفت أسعار الأدوية العامة (نحو 1500 دواء ليس بينها أدوية الأمراض المستعصية) نحو 7.7 مرات، وتضاعف سعر صفيحة البنزين 4.3 مرات، وسعر صفيحة المازوت 4.8 مرات، وسعر قارورة الغاز 6.9 مرات، وربطة الخبز التي كان سعرها 1500 ليرة صار 4000 ليرة. في منتصف هذه الرحلة، وتحديداً في آب 2020 بدأ حاكم مصرف لبنان يمهّد الطريق نحو رفع الدعم. يومها وجّه رسالة مكتوبة إلى وزير المال غازي وزني يبلغه فيها بأن الأموال القابلة للاستعمال في موجوداته الخارجية أوشكت على النفاد وأن القانون لا يسمح له باستعمال الاحتياطات الإلزامية بالعملات الأجنبية. ومذاك، وجّه ست رسائل كلّها مبنيّة على المادة 91 من قانون النقد والتسليف التي توجب عليه تقديم النصح للحكومة إذا أصرت على الاقتراض منه. نصيحة سلامة كانت وقف الدعم.
السيطرة على قنوات التوزيع
سلامة لم يكتفِ بتقديم النصح، بل ترجم النصيحة إلى سلوك يومي في تنفيذ سياساته النقدية استناداً إلى سردية الامتناع عن المساس بالاحتياطات الإلزامية كونها أموال المودعين (!) هكذا أوقف دعم سلّة المواد الغذائية والزراعية بعد أسابيع من الجدال حول مدى توافر السلع المدعومة في السوق واحتكارها من قِبل التجّار وبيعها في السوق «السوداء»... القصّة نفسها تكرّرت مع الدواء والمشتقات النفطية بعدما عمد إلى ربط استيرادها بموافقات مسبقة منه. ممارسته في تقنين الكميات أفضت إلى توسيع السوق السوداء في مبيع الدواء والمشتقات النفطية، فضلاً عن صعوبة الحصول على السلعة بالسعر المدعوم. استعمال السيارة لم يعُد متاحاً كما في السابق وبالتالي انتقالهم إلى العمل صار أصعب. إنتاج الكهرباء عبر مولدات الأحياء تدنّى أيضاً إلى حدود الانقطاع التام لأيام. الأدوية بقيت أسابيع مفقودة، وباعتراف المستوردين هي موجودة في مخازنهم.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

لم يعترض أحد على رفع الدعم، إنما اندلع صراع يتعلق بالسيطرة على قنوات التوزيع وطريقة شراء المزيد من الوقت. خطّة مصرف لبنان أن يضرب القدرات الشرائية من أجل السيطرة على أسعار السلع وتقنين كمياتها في السوق، حتى يُتاح له مواصلة إعفاء النظام المصرفي من الاعتراف بالخسائر وتذويبها بتضخّم الأسعار الذي يدفع ثمنه عموم الناس من أجورهم وحياتهم، فضلاً عن هذا الأمر يتيح له تقليص الأعباء على الاحتياطات بالعملات الأجنبية. وفي المقابل، قوى السلطة لا تكترث بنتائج آلية إطفاء الخسائر التي يمارسها سلامة طالما أنها تبقى في إطار زمني مناسب للاستحقاقات المقبلة والتطورات التي تعفيهم من أولوية الاهتمام بالعنف الاجتماعي على أبواب استحقاقات حكومية ونيابية وبلدية ورئاسية أيضاً، أي أن قرار رفع الدعم كان مبكراً بالنسبة لهم، بينما كان مستعجلاً بالنسبة لسلامة.
وفيما «مكنة» التوزيع شغالة على قدم وساق، تمكّن مصرف لبنان من التفاوض مع قوى السلطة على سرعة اتخاذ قرار رفع الدعم. وتمكن بالفعل من زيادة أسعار المشتقات النفطية على سعر صرف يوازي 3900 ليرة بدلاً من 1520 ليرة، ثم عُقد بعد أسابيع اجتماع في المجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية قال فيه سلامة إن المطلوب رفع الدعم من دون أن يعترض أحد. يومها ظنّ سلامة أن الطريق صار مفتوحاً نحو الهدف النهائي فأصدر بياناً في الليلة نفسها يشير فيه إلى أنه سيؤمّن الدولارات لتمويل استيراد المشتقات النفطية على سعر السوق. بعد 24 ساعة انبرت السلطة للتصدي إلى هذا القرار، وعقدت جلسة مفاوضات جديدة مع سلامة انتهت بعد أيام من انقطاع البنزين والمازوت، إلى اتّفاق على تسعير دولار المشتقات النفطية على أساس سعر المنصّة وأن يباع للجمهور بنحو 8000 ليرة وأن تسدّد الخزينة الفرق المقدّر بنحو 8000 ليرة أيضاً.
الأمر نفسه حصل في ما خصّ دعم الأدوية. جولات التفاوض بين وزير الصحة حمد حسن وبين سلامة، سواء حصلت مباشرة أو بالواسطة، أو في القصر الجمهوري، انتهت إلى قوامة سلامة على قناة التوزيع وتحديد المستفيدين منها في مجال استيراد الأدوية، وعلى رفع تسعير الأدوية العامة على أساس دولار 12 ألف ليرة وهو أمر رفضه المستوردون وتمسّكوا بإخفاء الأدوية عن السوق وبيعها في السوق «السوداء». كارتيل الدواء رفض خفض هوامش أرباحه، ما اضطر الوزير إلى إعادتها. ثم صدر اتفاق جديد يرفع تسعير دولار الأدوية إلى 13150 ليرة.
بهذه الاتفاقات في مجال الدواء والمشتقات النفطية، عادت «حفلة التوزيع» إلى مجاريها في انتظار جولة جديدة يكون في ختامها رفع جديد للسعر أو تحرير السعر نهائياً. لكن الواضح أن سلامة لن يوقف تمويل الاستيراد طالما أنه الجهة التي تموّل المنصّة بالدولارات. إذاً، ما الهدف؟ ما فعله سلامة قصداً، هو أن ترتفع الأسعار الداخلية للسلع. مفاعيل هذا الأمر هي بمثابة ضريبة هائلة تجبر المستهلكين على خفض كمية استهلاكهم من هذه السلع. وعندما يحصل ذلك، تنخفض كمية السلع المستوردة، وتنخفض معها كمية الدولارات اللازمة لتمويلها. لكن من أين يأتي المركزي بالدولارات طالما أنه يشير إلى عدم إمكانية المساس بالاحتياطات الإلزامية؟ ثمة مصادر تشير إلى أن سلامة يشتري عبر المنصّة نحو مليوني دولار يومياً قسم منها يأتي من المودعين المسجلين على التعميم 158، أي من مبلغ الـ400 دولار، وقسم آخر يشتريه سلامة من السوق الحرّة.
عملياً، فعلها سلامة. ففي نهاية أيلول سيتم تحرير أسعار السلع المدعومة برعاية قوى السلطة وبعد توصية بذلك من مجلس النواب(!) هكذا تصبح لدى مصرف لبنان قدرة أوسع على التحكّم بكمية الدولارات الخارجة من لبنان لتمويل الاستيراد. حجم استيراد المحروقات والدواء بلغ في السنة الماضية نحو 4 مليارات دولار، أي أكثر من 40% من مجموع صادرات السنة الماضية، لذا إن هدف سلامة أن يقلّصها إلى أدنى حدّ ممكن بقوّة تقنينها. لذا، فإن استمرار التمويل عبر المنصّة مرتبط بمدى تحكّمه بتقنين الكميات، وعبرها يتحكّم أيضاً بهامش معيّن لسعر الصرف السوقي.

محدودية سلامة وفريقه
صراع سلامة وقوى السلطة لم يكن يتعلّق أبداً بالإنقاذ بل بكيفية إدارة الأزمة وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية. سلامة الوحيد القادر على اتخاذ القرارات وتنفيذها، وهو يستغلّ تشتت الآخرين من أجل فرض السياق الذي يسعى إليه. هو نجح بذلك سواء كان سياقاً مدفوعاً بخلفيات خارجية أو بآلام محلية. لكن المشكلة أن التحكّم بإدارة الأزمة وتداعياتها متصلة مباشرة بالحاجة إلى السلع التي يتقاتل الجميع على الانتفاع منها. هذه الحاجة تبرّر وقوف الناس طويلاً في الطوابير أو اللجوء إلى سوق غير نظامية (سوداء) ومن دون بديل. ليس لدى الناس سوى كارتيلات البنزين والمازوت والغاز والدواء ومافيات المولدات. لا يملكون أدوات للعيش سوى ما ورثوه من النظام المنهار - الفاسد. لذا ليس غريباً أنهم ساكتون. لكن الانفراج لا يعني نهاية الأزمة، بل قد يكون بدايتها. فبحلول نهاية أيلول، أو ربما قبل ذلك بأيام، ستندلع أزمة شحّ هائلة في المشتقات النفطية وستليها أزمة دواء جديدة، ما يسمح لمصرف لبنان التمسّك بالمسار الذي فرضه على الآخرين لغاية الآن: التحكّم بمن يستورد وماذا يستورد، ومن خلاله التحكّم بالكتل النقدية وتعدّدية أسعار الصرف. هذا الأمر كان من واجبات مجلس النواب والسلطة التنفيذية في بداية الأزمة، إلا أن الكلّ انخرط في السماح لمصرف لبنان بهذه السيطرة الهائلة واستغلالها بأبشع الطرق.
لكن محدودية قدرات سلامة وفريقه، سواء الاستشاريين أو أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، تدفعهم إلى الاعتقاد بأن قيادة الانقلاب على مبدأ الدعم توفّر لهم فرصة للحصول على أدوات فعّالة للتأثير في السوق بعدما خسروا أدواتهم التقليدية (المصارف). وهم لا ينظرون إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي لهذا السلوك الذي ولّد المزيد من الفقر والانحدار. والأسوأ أن سلوكهم شجّع على تمظهر احتكارات القلّة بأبشع صورها. فقد صار المدى الاحتكاري يشمل حلقات من قلّة من كبار المحتكرين المرتبطين بحلقات من صغار المحتكرين الأكثر عدداً ويُسمَّون «سوقاً سوداء». طبعاً القصد مضاعفة الأرباح. بمعنى آخر، صارت قدرة مصرف لبنان على التأثير بالأسواق من خلال التأثير بالكميات والأسعار أضعف بكثير، إلا إذا كان يقصد أيضاً تشريع السوق السوداء! كذلك، لم تعُد لدى مصرف لبنان القدرة على مواجهة التضخّم الناشئ عن ذلك. بهذا المعنى، فإن الطلب على السلعة، لم يعُد يبرّر، وفق المنطق الرأسمالي، سعرها وتوافرها، بل قدرات المحتكرين تقود هذه العملية.
الانفراج لا يعني نهاية الأزمة، بل قد يكون بدايتها. فبحلول نهاية أيلول، أو ربما قبل ستندلع أزمة شحّ هائلة في المشتقات النفطية والدواء ما يسمح لمصرف لبنان التمسّك بالمسار الذي فرضه على الآخرين لغاية الآن


يمكن الاستنتاج بأن تحرير أسعار المحروقات على سعر دولار السوق، قد لا يؤدّي إلى إلغاء السوق «السوداء». قد تبقى هذه السوق موجودة طالما ليست هناك قدرة على إغراق السوق بما يفوق حاجته من السلع. لكن محدودية سلامة وفريقة لا تقتصر على ذلك، بل هناك ما هو أسوأ بعد. فمن المعروف أن لكل سلعة مرونة، وبالتالي ما هو انعكاس رفع أسعارها على سلوك المستهلك. هل سيقلّص من استهلاكها أو سيمتنع نهائياً عنها؟
في الواقع، ثمة عوامل متعدّدة مرتبطة بهذا الأمر مباشرة: مدى حيوية هذه السلعة على حياة المستهلك اليومية، مدى توافر بديل في السوق، القدرة على احتمال النقص... بالنسبة إلى الأزمة الراهنة فإنّ الحديث كلّه يتمحور حول سلع أساسية وحيوية مثل الدواء، والمشتقات النفطية؛
- لا بديل من الدواء. يمكن الحصول على أدوية بديلة أرخص ثمناً لكن الأمر يتعلق بمدى قدرة السلطة ومصرف لبنان على مواجهة كارتيل الدواء. هم أصلاً جزء من قلب هذا الكارتيل وقدموا له الدعم دائماً ولم يكونوا يوماً مرغمين على مواجهته. حتى في عزّ الأزمة الحالية رضخوا لهذا الكارتيل إلى درجة أنه تمكن من قطع الدواء عن السوق لأسابيع قبل أن يُعاد تزويد الصيدليات بالأدوية على سعر صرف يبلغ 13150 ليرة. وبالتالي فإن الحصول على أدوية أرخص ثمناً ليس أمراً متاحاً في ظل سلطة كهذه، ومصرف مركزي كهذا.
- أيضاً لا بديل من المحروقات. لا بديل من البنزين طالما أن السيارة هي الوسيط الوحيد للانتقال من مركز السكن إلى مركز العمل. ليس هناك نقل عام مشترك. ولا بديل من المازوت طالما أنه يستعمل من أجل توليد الطاقة الكهربائية التي تعوّض الطلب على الطاقة الذي لا يمكن تغطيته من معامل مؤسسة كهرباء لبنان بسبب نقص قدراتها الإنتاجية. يمكن التكيّف مع عدد ساعات تغذية أقلّ، لكن لا يمكن أن تكون متدنّية للغاية وإلا سنشهد عنفاً اجتماعياً كالذي حصل قبل أيام حين احتلّت الجموع الغاضبة محطات كهرباء لتقطع التغذية بالتيار الكهربائي عن آخرين وتفوز بنصيب إضافي من القدرة الإنتاجية. أيضاً لا بديل من الغاز إلا الحطب.
البدائل المتوافرة فردية سواء في الدواء أو في المشتقات النفطية. لكنها بدائل مكلفة. يمكن الاستعاضة عن مولد الحي بنظام الطاقة الشمسية، لكن من يمكنه تحمّل الكلفة؟ أي فئات اجتماعية لديها المعرفة والقدرة المادية على ذلك؟ لذا، يتوقع أن تبقى السوق السوداء، وأن تبقى الطوابير رغم ارتفاع الأسعار. وهذا يعني أن القلق سيبقى سائداً ليطغى على كل عوامل سعر الصرف في السوق الحرّة.



جهل أو إجرام؟
ما قام به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لجهة الامتناع عن تمويل استيراد الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان، والاستعاضة عن ذلك بفتح اعتمادات لبواخر المازوت المستعمل في مولدات الأحياء، هو من أبرز الأمثلة على ما يسعى إليه، إذ ارتفعت تعرفة الكهرباء المنتجة بواسطة المولدات لتصبح أعلى من تعرفة مؤسسة كهرباء لبنان بأكثر من 13 ضعفاً.
فقد تزامن آخر اعتماد فتحه مصرف لبنان لمؤسسة كهرباء لبنان مع نفاد سلفة الخزينة التي تلقتها المؤسسة بقيمة 200 مليون دولار. وتحوّلت اعتمادات المصرف بعد ذلك لتغذية سوق المازوت في القطاع الخاص، فاستُبدلت ساعات الطاقة التي فقدتها مؤسسة الكهرباء، جرّاء نفاد مخزونها من الفيول أويل والمازوت، بساعات إضافية من مولّدات الأحياء. وحين قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التوقّف عن مدّ سوق المازوت بالدولارات، تحوّل وضع الطاقة الكهربائية في لبنان إلى مأساة. إلا أن هذا القرار، الذي يبدأ من وقف تمويل مؤسسة كهرباء لبنان وينتهي إلى التضييق على سوق المازوت، كان نابعاً إما عن جهل أو إجرام. فما لا يقيم له حاكم المصرف اعتباراً، هو أنه خارج أوراق ميزانيته وأرقام الاحتياطات، هناك اقتصاد يعمل بصورة أساسية على الطاقة التي من دونها يشلّ النشاط الاقتصادي، وهذا ما شهده البلد في الأسابيع الأخيرة من انقطاع سلع أساسية من السوق، مثل مياه الشرب والخبز وغيرها من السلع. وهذا عدا عن الخسائر الكبيرة التي تتكبدها المصانع والمصالح جرّاء خسارتها لساعات العمل بسبب انقطاعها من الكهرباء.




تابع «رأس المال» على إنستاغرام