يعاني سكان جنوب لبنان، كغيرهم من اللبنانيين، من نقصٍ حادّ في مياه الري ومياه الشفة. يبحثون عنها في باطن الأرض، بينما تجري مياه الحوض السفلي لنهر الليطاني (150مليون م3) نحو البحر. كما تجري مياه الحاصباني والوزاني (نحو 150 مليون م3) خارج الحدود، لتنضمّ إلى بقية الروافد العليا لنهر الأردن ويشرب منها سكان مستعمرات النقب ويروون بها مساحة من الأرض تزيد عن 30 ألف هكتار في هذه الصحراء.يعود سبب انقطاع المياه عن سكان الجنوب وعن أرضهم، إلى تقصير الدولة والإدارة المشرفة على المياه، وامتناعها عن تنفيذ المشاريع المائية الكبرى التي مضى على دراساتها الأولية والتفصيلية أكثر من نصف قرن. ومن بينها مشروع ري الجنوب بمنسوبيه: 600م، و800م. هذا المشروع الحيوي ينقل نحو 110ملايين م3 من بحيرة القرعون ويخصّصها لري 15 ألف هكتار وتأمين مياه الشفة لأكثر من 90 قرية جنوبية. ويفترض أن يترافق هذا المشروع مع بناء سدّ الخردلي (127مليون م3)، ومع سدّ الشومرية أيضاً (28 مليون م3). السدّان مخصّصان لجمع مياه الحوض السفلي لنهر الليطاني التي تقدّر بنحو 150مليون م3 وهي تذهب حالياً في اتجاه البحر، علماً بأن تجهيزات هذا المشروع تنتظر بناء جدار في عرض النهر تحت جسر الخردلي (+240م)، وشقّ نفق أرضي، إلى نقطة تجميع مياه تقع على مقربة من جسر بنات يعقوب (+160م) في الجليل، ثم يتم جرّها مباشرة إلى نقطة تحويل مياه الروافد العليا لنهر الأردن عند محطة الطابغة التي نُفّذت في عام 1964.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

معظم مياه الحاصباني - وزاني (نحو 150م3) تعبر الحدود نحو طبريا وتضاف إلى مياه الروافد العليا لنهر الأردن ليستفيد منها سكان مستعمرات النقب.
وفي مقابل هذه الكميات المهدورة من المياه، تبرز حاجات سكان جنوب لبنان الذين يعانون مرارة العطش وأرضهم متروكة للجفاف تنتظر مياه الليطاني منذ نصف قرن ونيف. ما يحصل عليه الجنوبيون اليوم يبلغ 95 مليون متر مكعب من المياه موزّعة كالآتي:
- مياه شفة: تقدّر بنحو 40 مليون م 3 على أساس 50م3/فرد/سنة.
- مياه ري: نحو 55 مليون م3 على أساس 700 م3 للهكتار الواحد.
مجموع هذه الكميات من المياه المستهلكة لا يتعدى 11% من ثروات الجنوب المائية. وإذا أردنا أن نفي الجنوبي حقه من مياه الشفة، فإن حصّته اليومية يجب ألا تقل عن 250 ليتراً/فرد/سنة، أسوة بما يحصل عليه الفرد من المياه في الدول المتقدمة. لذا، تصبح حاجات سكان الجنوب الإجمالية من مياه الشفة مقدرة بنحو 76 مليون م3، بالإضافة إلى كميات من مياه الري تقدّر بنحو 147 مليون م3 في حال استُكمل تنفيذ مشروع ري الجنوب على المنسوبَين 600م و800م. وبذلك تقدّر الحاجات الإجمالية للمياه المطلوب تأمينها بنحو 223 مليون م3 ولا تتجاوز 26% من الثروة المائية الجنوبية، ويمكن تأمينها من المصادر الآتية:
- 110 ملايين متر مكعب عبر الناقل 800م.
- 90 مليون متر مكعب عبر سد الخردلي.
- 28 مليون متر مكعب عبر سد الشومرية.
تأمين هذه الحاجات بحدّها الأدنى يتطلب تنفيذ مشاريع المياه الكبرى التي تتضمن إنجاز المشروع الحالي لري 115 ألف هكتار جنوبي مجرى الليطاني، وتنفيذ بناء سدَّي الخردلي والشومرية القائمَين على المجرى السفلي للنهر. لكنّ مشروع ري الجنوب الحالي تواجهه عقبات منها تمويل المرحلة الثانية منه المتعلقة بتمديد الشبكات. ولا يبدو حتى الآن أن هناك جهة مستعدّة لمتابعة تمويل تنفيذ المشروع. كذلك يحتاج الأمر إلى تحديث شبكات الري، وشبكات مياه الشفة القديمة، واستخدام المياه بشكل عقلاني سليم.
إنّ النقص في إمداد الجنوبيين بالمياه يسبّب عواقب كارثية من بينها:
- نزوح نصف السكان من قراهم إلى بيروت وضواحيها والهجرة إلى خارج لبنان أيضاً بحسب ما ثبت في المسح الميداني الشامل الذي نفّذته المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في أواسط السبعينيات أثناء قيامها بدراسة مشروع ري الجنوب.
- تحوّل نصف الأراضي القابلة للزراعة إلى البور، مع تراجع حادّ في المنتجات الزراعية المخصّصة للغذاء من حبوب وإنتاج حيواني بنسبة تتراوح بين %50 و60%.
- يؤدي النقص في المياه إلى شنّ هجمة شرسة على مياه الخزان الجوفي نفذها أصحاب رؤوس الأموال وكبار ملاكي البساتين في السهل الساحلي الجنوبي عبر إقدامهم على حفر آبار جوفية عشوائية واستثمار مياه الآبار بشكل جائر. كذلك أقدموا على إلغاء اشتراكاتهم في مياه مشروع ري القاسمية ورأس العين. وأمعن هؤلاء في استباحة المياه الجوفية عبر سحبها بشكل متمادٍ ما سبّب ملوحتها نتيجة تسرب مياه البحر إليها.
- حُفرت مئات الآبار الجوفية لحساب بلديات الداخل الجنوبي بمعدل 4 إلى 5 آبار في البلدة الواحدة بهدف الحصول على مياه الشفة رغم علمهم المسبق بأن استثمار المياه الجوفية في هذه المناطق مكلف جداً، وغير اقتصادي، ولا يسهم في سد الفجوة المائية التي نتجت عن عجز شبكات توزيع المياه العامة عن توفير المياه لسكان القرى. والجدير بالذكر أن معظم هذه الآبار متوقف حالياً، بسبب انخفاض منسوب المياه في البئر، أو بسبب عجز البلدية عن تشغيله. وقد أسندت مهمة تشغيل بعض هذه الآبار إلى مجلس الجنوب وبعضها الآخر ينتظر لفتة كريمة من بعض المتمولين.
يمكن للجنوبيّين الحصول على 223 مليون متر مكعب سنوياً عبر سدَّي الخردلي والشومرية ومرحلة الـ800م من مشروع ري الجنوب


المياه التي تؤمّنها شبكات الدولة مضافاً إليها ما يُسحب من الآبار الجوفية، تؤمن حاجات نصف سكان القرى من المياه مرة أو مرتين في الأسبوع، والنصف الباقي من السكان يحصلون على حاجاتهم بشراء المياه من ناقليها بواسطة «ستيرنات» أو شرائها معبأة بقناني وعبوات بلاستيكية من السوبر ماركت.
كل هذه الوقائع المأسوية ناتجة بالدرجة الأولى عن:
- غياب الدولة وتقصيرها عن تنفيذ المشاريع المائية الملحوظة ما أفسح المجال أمام التعدّي على مصادر المياه، واستغلالها بصورة غير شرعية واستباحتها وتبديدها.
- غياب القوانين والتشريعات التي تحمي مصادر المياه وتمنع التعدي على حرم الأنهر والينابيع، وكذلك تمنع التعدّي على مياه الخزان الجوفي باعتباره رصيداً استراتيجياً لمواجهة السنوات الشحيحة. كما تفرض الحصول على ترخيص مسبق لحفر الآبار الارتوازية من الإدارة المشرفة على المياه.
عدم حصول الجنوبيين على حصتهم الطبيعية من المياه هو بمثابة جريمة كبرى تضاف إلى جرائم إسرائيل التي ارتكبتها بحقهم منذ احتلالها لفلسطين. وما يدمي القلب أكثر في هذه الكارثة، أن مياه الحاصباني يشربها منذ نصف قرن، سكان المستعمرات في النقب، بينما تعاني قرى وبلدات مرجعيون وحاصبيا والخيام من شدّة العطش، مع أن نبعي الحاصباني والوزاني ينبعان من أراضيها ولا بد من التذكير هنا أنه في عام 2000 تم تركيب مجموعة مضخات على نبع الوزاني على بعد أمتار من مواقع العدو لتضخّ كمية من المياه لا تتجاوز الـ 4 ملايين م3 سنوياً. آنذاك المقاومة تحدّت إسرائيل أن تتعدى على هذه المنشأة من دون أن تتمكّن هذه الأخيرة من مواجهة التحدّي. فما الذي يمنع لبنان إذاً، من أن يُقدم على ضخّ حصته كاملة (45 مليون م3) من النبع طالما عنده مقاومة تردّ على التعدي بأعنف منه؟

* مهندس زراعي




تابع «رأس المال» على إنستاغرام