وصف الرئيس المكسيكي لوبيز أوبرادور في خطابه الافتتاحي، النيوليبرالية، بأنها «كارثة». وكان الحزب السياسي اليساري «مورينا»، الذي ينتمي إليه، قد صرّح في برنامجه العملي: «لقد كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية فشل النموذج النيوليبرالي. السياسة الاقتصادية التي تفرضها المنظمات المالية الدولية تؤدي إلى أن تكون المكسيك واحداً من البلدان ذات النمو البطيء». برنامج «مورينا» اقترح بدلاً من ذلك أن «تتحمّل الدولة مسؤولية قيادة التنمية من دون تدخل أجنبي».من هذا المنظور، وضع أوبرادور مجموعة من التغييرات الاقتصادية التي تمثل الابتعاد عن النيوليبرالية، وإعادة تأسيس نظام اقتصادي تلعب فيه الدولة دوراً توجيهياً قوياً ابتعدت عنه قيادة البلد على مدى العقود العديدة الماضية. وليس مستغرباً أن يتعرض أوبرادور للهجوم من قبل الصحافة الغربية بسبب هذه الجرأة، إذ وضعت مجلة الإيكونوميست، ومقرها لندن، في عددها الصادر في نهاية أيّار الماضي، صورته على غلافها الأمامي تحت عنوان «المسيح الكاذب للمكسيك».
ما يلفت الانتباه في هذا الهجوم الإعلامي الغربي هو أنهم، مع إدراكهم للطريق المسدود الذي جلبته النيوليبرالية للاقتصاد العالمي، يُظهرون تعاطفاً أكبر بكثير مع عملية الابتعاد عن النظام النيوليبرالي عندما يتعلق الأمر بدول المركز؛ ولكن عند أي تحول بعيداً عن النيوليبرالية في اقتصادات العالم الثالث، فإنهم ينهالون عليه بالانتقادات. هذا ليس مجرد موقف مزدوج. إنه يمثل ظاهرة الإمبريالية، إذ يُعتَبر تضييق الدخل في العالم الثالث ضرورياً لانتعاش خالٍ من التضخم في دول المركز. ورغم أن نصيب الفرد من الدخل فيها أعلى بكثير من دول جنوب آسيا أو أفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن المكسيك لا تزال جزءاً من العالم الثالث، بل إنها جزء مهم منه نظراً إلى كونها دولة مُنتجة للنفط.


في الواقع، تُعتبر إصلاحات أوبرادور ذات أهمية بشكل خاص في قطاع النفط. وفيما كان الطلب على رأس المال الدولي في خدمة المزيد من الخصخصة في قطاع النفط، تحرّكت حكومة أوبرادور في الاتجاه المعاكس نحو إعادة تأميمه. ولهذه الغاية، ألزمت شبكة الكهرباء الوطنية بشراء النفط أولاً من شركة بيميكس المملوكة للدولة بدلاً من شركات النفط الخاصة. حتى في مجال التنقيب عن النفط، أوقفت جميع العطاءات الخاصة بحقوق التنقيب عن النفط التي كانت مفتوحة بشكل أساسي للشركات الأجنبية الخاصة.
توقّفت المكسيك عن الاستثمار في توسيع طاقة تكرير النفط المحلية لأكثر من أربعة عقود. واعتادت على إرسال النفط الخام إلى الولايات المتحدة ليتم تكريره هناك. لكنّ حكومة أوبرادور باشرت في إنشاء قدرة تكرير جديدة في المكسيك لتديرها شركة بيميكس، التي تتلقّى أيضاً مساعدة مالية من الحكومة. وهكذا، في كل نشاط مرتبط بقطاع النفط، من التنقيب إلى الاستخراج إلى التكرير، تقوم حكومة أوبرادور بتوسيع دور الدولة المكسيكية على حساب المصالح الخاصة الأجنبية.
هذا الأمر له آثار مالية مهمة أيضاً، إذ تأتي أرباح شركة بيميكس إلى خزانة الدولة؛ فكلما كان الحجم النسبي لـ Pemex أصغر، وكلما قلّت الأرباح من هذا المصدر، زاد اعتماد الحكومة على مصادر الإيرادات الأخرى لإنفاقها، ومن المصادر المهمة الأخرى الضرائب المفروضة على النفط محلياً (وهو بالضبط ما كانت تفعله حكومة مودي في الهند). وبالتالي، فإن خصخصة قطاع النفط في المكسيك تعني ضرائب أكبر على النفط، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط، لتصبح المكسيك، رغم كونها منتجاً رئيسياً للنفط (أنتجت 2% من إجمالي إنتاج النفط العالمي في عام 2019)، صاحبة أعلى مستوى محلّي لسعر النفط في أميركا الشمالية بأكملها.
قطاع النفط ليس القطاع الوحيد الذي عكس فيه أوبرادور السياسات النيوليبرالية. فقد تمّ إيقاف جميع امتيازات التعدين الجديدة للشركات الأجنبية، ولا سيما الكندية؛ وهناك خطط لتأميم احتياطيات الليثيوم في المكسيك.
وإلى جانب الجهود لاستعادة السيطرة على الموارد الطبيعية في المكسيك، تخطّط حكومة أوبرادور أيضاً لاستعادة السيطرة على مصرفها المركزي. فحتى عندما يتم تعيين محافظ البنك المركزي اسمياً من قبل حكومة البلد، فالشخص المُعين في هذا المنصب عادة ما يكون الشخص المقبول من قبل جهات التمويل الدولية. والسياسات النقدية التي يتبعها مثل هؤلاء الأشخاص تعطي الأولوية دائماً للتحكم في التضخم على حساب النمو الاقتصادي. إن انتقاد مثل هذه السياسة النقدية لا يعني أنه يجب تجاهل التضخم. بل إنه يعني معالجة التضخم بشكل مختلف، وليس عن طريق تقليص النمو الذي تنطوي عليه السياسة النقدية المتشددة. لقد كان هذا موضوعاً ساخناً للنقاش في أميركا اللاتينية.
يواجه تسارع النمو في اقتصادات العالم الثالث العديد من القيود الهيكلية الحقيقية، التي تنشأ بشكل أساسي من القطاع الزراعي، إذ لا يستجيب الناتج ببطء فحسب، بل تتطلب زيادته تدخلاً واعياً من الدولة على شكل إصلاحات للأراضي، وتوفير المدخلات وغير ذلك من الإجراءات. وبالتالي، فإن أي جهد لزيادة معدل النمو الاقتصادي يؤدي فوراً إلى حدوث تضخم بسبب الاختناق الذي ينشأ في القطاع الزراعي. وإذا أصبح التحكم في التضخم هو الهدف المهيمن، فستتم ممارسة هذه السيطرة من خلال تقليص معدل نمو الاقتصاد في اللحظة التي يرفع فيها التضخم رأسه، ما يعني إبقاء الاقتصاد إلى الأبد في فخّ معدّل الدخل المنخفض.
للخروج من هذا الفخ، يجب أن تتوقف السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية بشكل عام عن كونها مقيّدة ويجب أن تهدف إلى تعزيز النمو. وإذا ظهر التضخم، يجب معالجته بشكل منفصل من دون تعريض آفاق النمو للخطر من خلال التدخل المباشر في السوق عبر التقنين و«إدارة العرض».
في الفترة النيوليبرالية، تمنح السيطرة على التضخم الأولوية على حساب جميع الأهداف الأخرى، ما يعني إبقاء الاقتصاد محصوراً إلى الأبد في فخ معدّل الدخل المنخفض. هذا ليس بسبب بعض الفهم الأكاديمي الخاطئ. إنها طريقة عمل الإمبريالية، التي تصرّ على إبقاء مداخيل العالم الثالث منخفضة، من أجل الإفراج عن السلع الزراعية الموجودة لمتطلبات دول المركز، ومن دون زيادات «لا داعيَ لها» في أسعار السلع. لذلك فإن الجدل حول السياسة النقدية هو في الحقيقة حول الإطاحة بنظام تفرضه الإمبريالية على اقتصاد العالم الثالث في العصر النيوليبرالي. وهذه هي المهمة التي أخذها الرئيس أوبرادور على عاتقه، الأمر الذي جعل وسائل الإعلام الغربية تسخر منه لالتزامه بـ«الدولة والقومية والحنين إلى السبعينيات» (على حدّ تعبير الإيكونوميست).
لقد أصبح التغلّب على النيوليبرالية ضرورة ملحّة ويجب حشد الناس لتحقيق هذه الغاية


يبقى أن نرى مدى نجاح أوبرادور في قلب الأجندة النيوليبرالية، لكنّ الإمبريالية لن تتمكن من إخراج مشروعه عن مساره بسهولة. وبينما لا يزال هناك بعض الوقت قبل الانتخابات الرئاسية في المكسيك، تظهر الانتخابات الأخيرة للهيئة التشريعية وحكام المقاطعات أن أوبرادور يتمتع بدعم شعبي كبير. بالإضافة إلى ذلك، تظهر الانتخابات أنه حشد دعم الأحزاب السياسية الأخرى مثل الحزب الشيوعي الثوري الذي خرج من الثورة المكسيكية وحكم المكسيك لعقود، والتي كان ينتمي إليها اليسار المكسيكي بأكمله في يوم من الأيام. لذلك سيكون من الصعب على الإمبريالية القيام بانقلاب برلماني، كما حدث في البرازيل ضد لولا.
ما يحدث في المكسيك يحمل دروساً مهمة. حتى في الوقت الذي تبذل فيه دول المركز نفسها جهوداً للتخلص من النيوليبرالية، فإنها ستهاجم أي دولة في العالم الثالث تسعى إلى القيام بذلك، وستستخدم جميع أنواع الأسلحة لهذا الغرض، من دعم التشكيلات السياسية اليمينية المتطرفة ضد مثل هذه الجهود، إلى خلق الانقسامات في معسكر الشعب، إلى استخدام الحرب الاقتصادية كما في كوبا (وفي الحالات القصوى حتى التدخل العسكري). لكن إذا بقي الشعب متّحداً وبالتالي فرض الوحدة بين قسم كبير من التشكيلات السياسية، يمكن هزيمة كل هذه المناورات. لقد أصبح التغلّب على النيوليبرالية ضرورة ملحّة. ويجب حشد الناس لتحقيق هذه الغاية.

* نُشر هذا المقال على موقع People's Democracy في 22 آب 2021




تابع «رأس المال» على إنستاغرام