خلال الأسبوعين الماضيين، بدأ اللبنانيون يشعرون بوطأة وثقل رفع الدعم عن المواد الأساسية. فما بين طوابير السيارات المتوقفة أمام محطات الوقود وفقدان شريحة واسعة من الأدوية في الصيدليات، والقفزة الجديدة في سعر صرف الليرة، بدأت صورة ما بعد رفع الدعم تتضح تدريجاً. هذه الصورة تتشكّل بالتواطؤ بين مصرف لبنان الذي يرفض الاستمرار في تمويل الدعم على الأساسيات (وأهمها المحروقات)، والمصارف ذات الدور التدميري، سواء عبر امتناعها عن أداء دورها في الدورة الاقتصادية عبر الإقراض، أو من خلال حجز أموال المودعين. بالإضافة إلى حفنة من التجار على مستوى سلاسل التوريد الخارجي (المحتكرون الكبار) والتجار على كلّ مستويات سلاسل التوريد الداخلي. هذه الصورة هي التي ستتحكم بمستقبل عيش عموم القاطنين على الأراضي اللبنانية في المدى المنظور. هذه الصورة ليست وليدة الأمس، ولا حتى وليدة العقود الثلاثة الأخيرة، بل هي وليدة منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية المترسخة منذ ما قبل تأسيس الكيان. ما حصل في العقود الثلاثة الأخيرة كان تغييراً في طبيعة الفعاليات من اللاعبين الأساسيين في المنظومة، من دون أنّ تشهد تغيّراً جوهرياً. هذه الصورة هي عبارة عن نذير يبشر بأيام صعبة سيعيشها عموم اللبنانيين، تكون فيها أسعار السلع بالليرة اللبنانية خارج متناول معظم قاطني البلاد، بينما ستكون الحياة الاقتصادية والاجتماعية في حالة شلل بسبب غياب الطاقة ووسائل النقل. وفي الوقت عينه سينهار سعر صرف الليرة اللبنانية أكثر فأكثر وتدريجاً، ليس بسبب ضخّ المصرف المركزي لـ27 ألف مليار ليرة فقط، بل أيضاً بسبب تهافت التجار على كلّ مستويات سلاسل التوريد على شراء الدولارات من السوق المحلية. وفي الواقع، هذا التسلسل من الأحداث سيكون التعبير الأوضح عن واقع الأزمة الاقتصادية المالية اللبنانية، يُعبر عنه بإفلاس بلد بأكمله.

ديناميات الاقتصاد
في هذه الأثناء، النقاشات في الحيز العام لا تتعدى أبعد من استحضار أفكار الجشع والحفاظ على الأرباح والمكتسبات، لتحليل الواقع والتعامل معه. ومع أن هذه الأفكار تعكس جزءاً من الواقع، إلاّ أنها لا تعكس الصورة بشكل شامل بما فيه الكفاية للتعامل بشكل فعّال مع تبعات الأزمة، فما بالنا بالتعامل مع جذورها. وفي الحقيقة، لم يعد يكفي التعامل مع هذه الأزمة، من باب أنّها من اختصاص الاقتصاديين، أو الخبراء الماليين فقط. بل في العالم اليوم، لم يعد مجدياً التعامل مع الاقتصاد على أنّه مجال حصري للاقتصاديين. فمحاولة تحليل حالة ما، من دون توسيع إطار البحث إلى مجالات الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع الاقتصادي، ستكون قاصرة عن تقديم صورة شاملة تعكس ترابط المخرجات الاقتصادية ببنية الشبكات والهياكل الاجتماعية والتكوينات المؤسسية والأطر الثقافية في المجتمع. واليوم يخطو البعض خطوة إضافية في ما يخص توسيع التحليل، نحو مراجعة المنطلقات الأساسية للتحليل في الاقتصاد السياسي، بالأخص منطلق افتراض أن كل الفعاليات الاقتصادية (Economic Actors) عاقلة. وراهناً يمكن الادعاء بأن محاولة تحليل مخرجات أي اقتصاد رأسمالي، على افتراض أن كل فعاليته الاقتصادية عاقلة، يعطي تحليلاً قاصراً يهيّئ الأرضية لتكرار سلبيات المخرجات وربما توسيع آثارها. وأمام صعوبة ما هو قادم على لبنان، من المفيد محاولة الغوص في ديناميكيات الاقتصاد اللبناني، لمحاولة الحدّ من التأثيرات السلبية لما قد وقع، بما أن الوقت قد فات لمنع وقوعه.

آريس ــ كوبا

يرى جينس بيكيرت، وهو عالم اجتماع اقتصادي، أن فهم ديناميات الاقتصاد الرأسمالي يجب أن يشتمل على تحليل التفاعل الاجتماعي، الناتج عن التقسيم الطبقي، بالإضافة إلى الشبكات والمؤسسات الاجتماعية، وذلك لمحاولة جسر الهوة بين الاقتصاد الكلي والاقتصاد السياسي من جهة، وآليات عمل الاقتصاد الجزئي من الجهة الأخرى. وفي سبيل ذلك يقدّم بيكيرت مفهوم «التوقعات المتخيّلة»، الذي يختصر تصوّرات الفعاليات الاقتصادية الحالية للمواقف المستقبلية، علماً بأن هذه التصورات هي التي تبني عليها الفعاليات الاقتصادية عملية اتخاذ القرارات، رغم عدم إمكانية القطع بالنتائج المستقبلية. و«المتخيّل» هنا، هو الإشارة إلى المستقبل غير المتوقع، حيث يجب أن «تسكن» التوقعات العقل فتصبح في ظل ظروف عدم اليقين صورة يقينية لحالة العالم المستقبلية. هذه الصورة اليقينية تسمح للفعاليات الاقتصادية بالتصرف كما لو أن التوقعات حاصلة لا محالة، فتتخذ شكلاً سردياً كقصص ونظريات وخطابات. ومن الناحية الهيكلية، تعتمد التوقعات على الأطر الثقافية والنظريات السائدة وهياكل التقسيم الطبقي للمجتمع والشبكات الاجتماعية والمؤسسات. وهذه هي إحدى ركائز عمل منظومة الاقتصاد السياسي. لذا، إن مفهوم «التوقعات المتخيلة» يحظى ببعد سياسي لأن التوقعات قابلة للتلاعب من قبل الفعاليات الاقتصادية القوية، فكل طرف من الفعاليات الاقتصادية لديه اهتمامات مختلفة في ما يتعلق بالتوقعات السائدة، وبالتالي سيحاول التأثير والضغط لتشكيل التوقعات بما يناسبه. وإحدى المهام الرئيسية لناظمي سياسات الاقتصاد، والهدف الرئيسيّ للسرديات التي ينسجونها والأدبيات التي ينشرونها، هما تحفيز قرارات الفعاليات الاقتصادية بشكل عام من خلال تشكيل توقعاتهم، ويتضمن ذلك استغلال الهياكل الاجتماعية والسياسية لتشكيل هذه التوقعات. فتنتج عن هذه العملية «التوقعات المتخيلة»، على شكل نتائج عملية تتكشف مع مرور الوقت، حيث تقوم الفعاليات الاقتصادية بتطوير وتنفيذ المشاريع والخطط والاستراتيجيات.
يطلق بيكيرت على هذه العملية تسمية «إدارة التوقعات»، ويراها عنصراً محورياً في التطوّر الرأسمالي والصراع من أجل الربح. وهي بحد ذاتها تعبير عن ممارسة القوة الاجتماعية في المجال الاقتصادي للتأثير على توقعات الآخرين. ولأن «التوقعات المتخيلة» ذات طابع متخيل، أي أنّها لا تعبّر عن تنبؤات دقيقة للحالة المستقبلية لمحيط الفعاليات الاقتصادية، فإن ما يحددّ القرارات فعلاً هو اللعبة السياسية للتفاوض والتلاعب في تفسير الموقف. فتصبح عملية «إدارة التوقعات» صراعاً بين الفعاليات الاقتصادية الأقوى- كالدولة والشركات الكبرى ووسطاء السوق ومجموعات الضغط وغيرها من الفعاليات الناظمة للسياسات- عبر استناد كلّ منها إلى الطبقات والمؤسسات والهياكل الاجتماعية التي تمتلك فيها مواضع قوة.

سياسات الإفقار
وإذا أسقطنا نظرية بيكيرت على الواقع اللبناني، يمكن استخلاص نتيجة واضحة؛ ناظمو السياسات من الفعاليات الاقتصادية هم أصحاب المصارف وتجار سلاسل التوريد الخارجي - أي محتكرو استيراد المواد الأساسية وغير الأساسية- وكبار السياسيين من شركاء هؤلاء التجار وحماتهم وبدرجة أقل الدولة، ممثلة بمصرف لبنان حصراً. وهؤلاء يديرون اليوم التوقعات عبر ممارستهم للعبة السياسية والتفاوض من خلال البنى الاجتماعية، التي تتيح لهم منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية الولوج إليها. وهذه البنى تشمل الطبقات الاجتماعية والمؤسسات والبنى الطائفية والعائلية والعشائرية بالإضافة إلى التكتلات الاقتصادية المرتبطة بها بشكل مباشر. والفعاليات الاقتصادية ضمن منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني هم، بالإضافة إلى ناظمي السياسات، التجار على مستوى سلاسل التوريد الداخلي ومن تبقّى من أصحاب المهن والصناعيين.
وتقسيم الفعاليات الاقتصادية إلى هذين القسمين- ناظمو السياسات بدرجة أولى، وباقي الفعاليات الاقتصادية بدرجة ثانية- ضروري لفهم الديناميات التي تتحكم بالتمظهرات الحالية والقادمة للأزمة الاقتصادية- المالية اللبنانية. فكل طرف من أطراف ناظمي السياسات يحاول إدارة التوقعات بطريقة تخدمه، فيحاول صناعة «توقعات متخيلة» عند فعاليات المستوى الثاني تناسب مصالحه. فمثلاً، من الأكيد أن مصلحة كل تجّار سلاسل التوريد الخارجي (أي كبار المحتكرين) تكمن في رفع الدعم، رغم استفادتهم من الدعم بشكل جليّ ومخالف للقانون. إلاّ أن رفع الدعم يعني زيادة أرباحهم، فقيمة نسبة الأرباح على السلع المدعومة تُحتسب بالليرة اللبنانية، بينما قيمة نسبة الأرباح على السلع غير المدعومة ستُحتسب بالدولار الأميركي، أي أنّها ستكون أعلى حتى ولو كان مستوى النسبة أدنى. وفي سبيل هذا نشرت هذه الطبقة من التجار سردية عن ضرورة احتساب «كلفة الاستبدال» أثناء بيع سلع كانت قد استوردتها عندما كان سعر صرف الليرة أعلى، فيتم بيعها على أساس سعر الصرف الجديد الأدنى. عملياً هذه السردية تخدم حفاظ هؤلاء التجار على رأس مالهم من دون خسارة ولو جزءاً منه بسبب الأزمة، بينما رؤوس أموال عموم اللبنانيين لحقت بها خسارات رهيبة. وما تفعله هذه الطبقة هو أنها تستعمل نقاط قوتها، ضمن منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، لفرض تصوّراتها عن الواقع الحالي (ومن ضمنه الحفاظ على مصالحها) على المستوى الثاني من الفعاليات الاقتصادية. أما المصارف فمن مصلحتها المزيد من التدهور في سعر صرف العملة المحلية، إذ إنّ ذلك يساهم في تذويب خسائرها على المديين المتوسط والطويل. وعلى هذا الأساس تقدّم المصارف تنظيراً، من خلال معاقل قوّتها في المنظومة، يشرح ضرورة تحرير سعر الصرف، من دون تقديم أو دعم خطط حقيقية تحدّ من جموحه.
معظم ناظمي السياسات ما زالوا غير مقتنعين بأن المنظومة تتفتّت، لأنّ أوجه الشبه كثيرة مع الأزمة الممتدة بين عامَي 1987 و1991 كثيرة، لذلك يراهنون على أنّ الحلول متشابهة وبالسهولة نفسها، لكن يفوتهم أن طبيعة أزمة 1987-1991 كانت تتعلق بمالية الدولة ومضاربة المصارف على العملة، بينما أزمة اليوم ذات أبعاد أكثر والخسائر تتركز في مصرف لبنان والمصارف


ومصالح المستوى الأول من الفعاليات، تنعكس على المستوى الثاني بشكل تفرض عليه اتخاذ قرارات تدعم إنفاذ المخرجات العملية، التي ستنعكس في الاقتصاد الكلي، وستصب في مصلحة ناظمي السياسات، أي المستوى الأول من الفعاليات الاقتصادية. وكل هذا، كما سبق وشرحنا، يعتمد على الولوج إلى البنى والمؤسسات الاجتماعية عبر منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني. ولكنّ السؤال هو: ماذا سيكون مصير «إدارة التوقعات» في حال انهارت هذه المنظومة؟
في الحقيقة، تحويل تصورات ناظمي السياسات (أو توقعاتهم المتخيلة) إلى واقع، لن يتم في حال فقدوا قدرة استعمال نقاط القوة داخل منظومة الاقتصاد السياسي. فهذا يعني أنّهم لن يتمكنوا من ممارسة الضغوط والمفاوضات، في ما بينهم بالدرجة الأولى ومع باقي الفعاليات بالدرجة الثانية. المشكلة الحقيقية تكمن في أنّ معظم هؤلاء الناظمين لا يزالون غير مقتنعين بأن المنظومة تتفتّت. وذلك لأنّ أوجه الشبه مع الأزمة التي حلّت بالبلاد في الفترة الممتدة بين عامَي 1987 و1991 كثيرة، فيراهنون على أنّ الحلول اليوم شبيهة بالأمس وعلى مستوى السهولة النسبية نفسها. ولكن ما يفوتهم أن طبيعة أزمة 1987-1991 كانت تتعلق بمالية الدولة ومضاربة المصارف على العملة، بينما طبيعة أزمة اليوم ذات أبعاد أكثر. فاليوم، الخسائر لم تلحق بمالية الدولة فقط، بل بالمصارف (وهي الجزء الأكبر من حجم الاقتصاد اللبناني) والأهم بمصرف لبنان- وموضوع خسائر الأخير هي القذارة التي نكنسها تحت السجادة. والحلول السريعة والسهلة نسبياً غير متوفرة أساساً، وإن توفّرت، بشكل إعجازي-نظري، فلا يوجد رعاة سياسيون خارجيون لها. حجم الخسائر التي لحقت بالاقتصاد اللبناني كلّه كبيرة لدرجة أنّها تفتّت منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني بشكل متسارع، ومعها تسقط كل مواقع القوى للاعبين الكبار في هذه المنظومة. أمّا «توقعاتهم المتخيلة» فمن غير المرجح أن يتمكنوا من فرضها واقعاً على مستقبل عيش عموم القاطنين على الأراضي اللبنانية. ولن تكون كل معارك فرض هذه التوقعات إلاّ صراعات عبثية، تزيد فقر ومعاناة اللبنانيين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام