«تأسيس نظام مصرفي من أجل لبنان» ليست عبارة وردت في كتاب - مشروع شربل نحاس «اقتصاد ودولة للبنان»، إنما كانت هي الخلاصة التي يمكن استنتاجها من الفصل الخامس بعنوان «الإجراءات المؤسسية العابرة للقطاعات». ما قصده الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات»، أن لبنان هو كان مسخّراً في خدمة النظام المصرفي الذي كان سائداً في إطار نموذج فاشل يعيش على الوهم النقدي المتمثّل بما يسمى «الدولار اللبناني»، ويقتات على ضرائب الاستهلاك ويميّز أرباح الشركات... لذا، حتى لا يبقى لبنان من أجل النظام المصرفي، تجب إعادة هيكلة النظام لتصبح المصارف من أجل لبنان. هذا يتطلب إعادة هيكلة شاملة نقدية وفي المالية العامة والتمييز بين المصارف والأموال المودعة فيها على أساس الغرض من استخدامها.

الحاجة إلى عملة وطنية
ما كان للنظام الاقتصادي الذي استحكم في لبنان منذ التسعينيات أن يقوم ويستمرّ لولا الوهم النقدي المتمثّل بـ«الدولار اللبناني». عندما سقط هذا الوهم انكشف حجم الخسائر المتراكمة. بات البلد بلا سبيل إلى العملات الأجنبية وسوف يبقى كذلك لمدّة طويلة.
المسألة النقدية أساسية. بما أن فقدان العملات الأجنبية أصبح التحدّي الرئيس، لم يعد هناك مفرّ من مواجهة مسألة القابلية على تحويل النقد. فمن خلال الحفاظ على قابلية تحويل الليرة، علينا، على الأرجح، توقّع انخفاض قيمة العملة بشكل مستمرّ مع إمكانية الانزلاق إلى تضخّم متفلّت. المصارف لم يعد لديها عملات أجنبية، وسوف يتولّى الصرافون القيامة بالمهمة.
المصرف المركزي مارس ويمارس ضغوطاً على الصرافين للحدّ من تأثيرهم على تراجع قيمة العملة، لكن عمله يبقى محدود النتائج.
يتوجب أولاً، الإقرار بالحاجة إلى عملة وطنية. لن يكون هذا الأمر سهلاً بالنظر إلى عمق الدولرة في التبادل وفي تقييم الأصول والخصوم. «الليرة» مقابل «الدولرة» باتت أمراً ضرورياً لأنه من دون عملة وطنية، لا سياسة نقدية، ولا قدرة بالتالي على إدارة المفاضلات بين الأجيال وبين الطبقات من أجل الانتقال من نموذج اقتصادي فاشل إلى نموذج متوازن مع مراعاة القيود الاجتماعية والسياسية.
يفرض الاختلال الأساسي في الموازين الخارجية ضرورة إدارة المخزون المتوافر من العملات الأجنبية بدقّة شديدة. اتضح أن هذا المخزون ممسوك بالكامل من قبل المصرف المركزي. نتيجة لذلك، فإن وضع قيود على تحويلات رأس المال ليست له أهمية فوريّة تُذكر.
قبل الأزمة، كانت كل زيادة في الطلب الداخلي تولّد تسرباً هائلاً نحو الاستيراد إلى جانب بعض الزيادة في الإنتاج الداخلي. وتعزيزاً للإنتاج الداخلي، وفي انتظار رفع مستوى الطلب الخارجي، وهو أمر لن يحصل سريعاً لأنه يتطلب مفاوضات سياسية دقيقة في ظل تراجع الاقتصاد العالمي بنتيجة أزمة «كورونا»، يجدر النظر بجدية، إلى إمكانية إصدار سندات نقدية غير قابلة للتحويل ولا توفّر فوائد وبالتالي غير جذّابة للادّخار. يجب أن يكون استخدام هذه السندات مرتبطاً بقابلية تحويل محدودة لليرة من أجل تحسين إدارة مخزون العملات (الذي لا يزال مجهولاً حتى يومنا هذا!) لتجنّب الانزلاق نحو التضخّم أو مواجهة انقطاع في استيراد السلع الأساسيّة.

الضرائب أداة اقتصادية
يتعامل النهج المحاسبي – المالي مع المالية العامة من منظور الدين واستدامته. ولضمان سداد ائتماناته، يفرض صندوق النقد الدولي «شروطه» التي تدور بشكل أساسي حول الرصيد الأولي للسنوات المالية.
نرى أن الدور الرئيس للضرائب يجب أن يكون تمويل خدمات عامة مستدامة وذات أفضل نوعية: الخدمات الاجتماعية، وإنما أيضاً الإدارة العامة والقدرة الجديّة على الاستثمار العام، للتعويض عن النقص الهائل المتراكم. هذا في ما خصّ شكل العمل المباشر.
لكنّ للضرائب بُعداً «تحفيزياً» أيضاً. فهي تعيد تشكيل الكلف والعوائد وبالتالي السلوك الاقتصادي. ونتيجة لذلك، يجب النظر إلى الإجراءات المالية (جباية وإنفاقاً) من منظور مزدوج: أولاً منظور جزئي يُترجم بقواعد محاسبية - تلك يتعامل معها دافع الضرائب والمستفيد. وثانياً منظور كلّي يربطها بأثرها الاقتصادي، وهي التي يجب أن تُلهم السلطة العامة في المقام الأول. غنيّ عن القول إن الإيديولوجيا السائدة، تميل إلى صبّ النهج الاقتصادي في قالب النهج المحاسبي، وبالتالي إلى طمس آثاره وإمكاناته، خدمة لمصالح لا تخفى على أحد. لم يعد لبنان يتمتع بهذا الترف.
«إعادة هيكلة» النظام المصرفي أو بالأحرى تأسيس نظام مصرفي يؤدي الوظائف التي يحتاج اليها البلد، يجب أن يتم قبل أي تفاوض مع الدائنين، ومع المواطنين لجهة حقوقهم الاجتماعية، ومؤسّسات الادّخار المجتمعية (الضمان، صناديق التعاضد) وأخيراً مع صندوق النقد الدولي بعد أن تمّ التوجّه إليه. يجب أن يتم أيضاً قبل أي عملية لتحويل الذمم المالية إلى الليرة، أو فرض أي ضريبة استثنائية، أو أي اقتطاع من الودائع «هيركات» أو تأجيل للاستحقاقات، أو تحويل للودائع إلى رأس المال، أو أي شكل آخر


على صعيد الواردات، لا مبرر لوضع مداخيل الأسر من الإنتاج (مداخيل العمل والمؤسسات الفردية) في سلّة واحدة مع مداخيل الأموال والريوع، وأن تخضع لمعدلات الضريبة نفسها، لو لمعدلات أعلى، بما في ذلك الاشتراكات الإلزامية. لذا يقتضي التركيز على ضرائب الدخل مقابل الضرائب على الاستهلاك. بالنسبة إلى المبلغ نفسه من الإيرادات، فإن ضريبة الاستهلاك تدفع الأسعار المحلية إلى أعلى بينما تدفعها ضريبة الدخل إلى الأسفل، ويفترض أن يعوّض تغيّر سعر الصرف كلا التأثيرين إزاء باقي العالم. لذا يقتضي التركيز في لبنان على ضرائب الدخل مقابل الضرائب على الاستهلاك. نفقات الأجور، التي تعتبرها الأعراف المحاسبية مجرّد بند من بنود أعباء المؤسسات، لا يعود من مبرر لتنزيلها من الدخل لتحديد الأرباح، مثلها مثل سائر بنود الأعباء التي لا توازيها لناحية قيمتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما أن العديد من تلك الأبعاد ليست سوى أشكال مستترة من التوزيع. وكذلك يجب تعزيز الأرباح المتأتية من التصدير، أو تلك التي يعاد استثمارها في الإنتاج، وصولاً حتى إلى إعفائها من الضرائب متى استوفت شروطاً محددة وتعاقدية. إن الإدارة الذكية للضرائب، كأداة اقتصادية، وإن كانت ستواجه بمعارضة قوية، ستتطلب كفاءةً أعلى بكثير من تلك التي سادت حتى الآن.
على صعيد الإنفاق، سمته الرئيسية هي الحجم الاستثنائي لنفقات إعادة التوزيع على حساب الإنفاق الاستثماري بالطبع، ولكن أيضاً على حساب الإنفاق الضروري للإنتاج الفعّال للخدمات العامة. تتضمن نفقات إعادة التوزيع (سواء ظهرت في الحسابات العامة أو بقيت مخفية في ظلام حسابات البنك المركزي).
1- إنفاق الفوائد، بهدف دعم المصارف ومن خلالها الحفاظ على مخزون وعلى تدفق رؤوس الأموال التي تجذبها من الخارج.
2- المشتريات والصفقات العامة المرتبة سلفاً والمشبوهة وما تتضمنه من توزيع مكشوف للمنافع على الزعماء الطائفيين، ولا سيما من خلال عقود الخدمات مع الإدارات العامة وخصوصاً مع الإدارات الموازية.
3- التوظيف الفائض عن الحاجة الفعلية، خصوصاً في الأسلاك العسكرية، للمحظيين، أو من خلال صيغ المياومين أو المتعاقدين، بهدف استيعاب بطالة اللبنانيين ذوي المؤهلات المنخفضة أو المتوسطة.
نفقات التوزيع هذه، التي تُسمى «فساداً» من باب الاستسهال اللفظي، شكّلت العصب الوظيفي للنظام الاقتصادي السياسي المتهاوي. من مفاعيلها إلى جانب تغذية العجز والدين، وهما أيضاً حاجة وظيفية للنظام:
- عجز متنام في الإدارة.
- تقهقر في كفاءة الخدمات العامة من تعليم وكهرباء ومياه ونقل، ما يفرض على الأسر تكبّد كلفة خدمات بديلة توفرها مؤسّسات ترتبط هي أيضاً بالزعماء الطائفيين وتحظى بحمايتهم.
- تعطيل قسم كبير من القوى العاملة.
لعل مواجهة هذا الوضع والموروث تمثّل أشدّ تحدّ أمام إدارة المرحلة الانتقالية. إن تبيان سياسات التوزيع وفصلها عن آليات توفير الخدمات العامة هما عمل ضروري للغاية وسياسي بامتياز.

أيّ نظام مصرفي نحتاج؟
أدّى النظام المصرفي اللبناني وظيفة روّضته تدريجاً، وصولاً إلى إخضاعه بشكل كامل. وقد سقط اليوم، ومعه المصرف المركزي.
ثلاثة أسئلة مترابطة تُطرح اليوم: ما هي الوظائف التي يُطلب من الوساطة المالية القيام بها في المرحلة الانتقالية؟ أي قطع مصرفي سيحتاج إليه لبنان؟ في أي مرحلة من العملية الانتقالية يجب أن تتم إعادة بناء هذا القطاع المصرفي؟
نقف هنا أيضاً، خارج سياق النقاش السائد والمستقطب بين إعادة رسملة المصارف من قبل مساهميها الحاليين (وهو أمر يتوقف، في غياب مصارف تابعة لمؤسسات مصرفية دولية، ليس فقط على قدرة كل من المساهمين الأفراد، بل على رغبتهم أيضاً، وعلى تخطّي النزاعات التي ستنجم بينهم حول تقييم المصرف وبالتالي حول الحصص وتمركز القرار في الإدارة)، وما يسمى «بايل – إن»، أي تغطية الخسائر من خلال حسابات المودعين التي تحوّل قسرياً إلى رأس المال، أو «بايل – أوت»، أي تغطية الخسائر باستخدام الأموال العامة، أي على حساب المكلّفين الدافعي الضرائب، أو عبر نقل أملاك عامة إليها، وهذه الأملاك في أصلها ملكية مشتركة لجميع المواطنين.
الوظيفة المطلوبة من النظام المصرفي هي حشد الادّخار الداخلي والادّخار الخارجي المتاح وتوجيههما صوب الاستثمار، تسهيلاً للانتقال إلى نموذج اقتصادي يحفظ مصلحة المجتمع، بدلاً من استهلاك هذا الادّخار وتمويه ضياعه، كما فعل النموذج المفلس.
للقيام بذلك يجب حسم عدد من المفاضلات الدقيقة، وعلى وجه الخصوص في اتجاه خفض حاسم لحصّة الريوع المالية في القيمة المنتجة الإجمالية.
قبل الأزمة، كانت القروض للقطاع الخاص، بعد تنزيل المؤونات، والدين العام يمثلان معاً 280% من الناتج المحلي، ويرتبان عبء فوائد يمثل 23% منه. متى أضيفت الاعتمادات المستندية والكفالات، والديون التي كُوّنت لها مؤونات وما زالت المصارف تطالب بها، والتمويل الخارجي، والتمويل التجاري غير المصرفي، تفوق الأعباء المالية الناتجة عن الفوائد والعملات الملقاة على الاقتصاد، ربع الناتج بكثير.
وإذا تذكّرنا أن العبء الضريبي وشبه الضريبي يمثل بدوره 30% من الناتج، وحتى 40% منه متى أضيف عجز المالية العامة، تبيّن أن الاقتطاعات الريعية والضريبة قبضت على ثلثي الناتج. كيف نتعجب مع ذلك أن يكون الاقتصاد قد فقد الاستقرار وبات مهترئاً ومُذلاً؟
الدور المطلوب من النظام المصرفي في لبنان، هو نقيض ما قام بتأديته حتى اليوم. هذا يعني لجم عبء الفوائد، عبر اعتماد معدلات فائدة مخفضة تظلّ أقلّ من معدّل النمو الحقيقي. صحيح أن ذلك يستتبع قدرة جذب أدنى للتوظيفات المالية، سواء اتخذت شكل ودائع أو أشكالاً أخرى، أي التكيّف مع مال يصبح نادراً، فكيف التعامل وقتئذ مع الأموال المنتظرة من المهاجرين؟ لا معنى للاكتفاء بالتمييز بين الأموال العالقة في النظام المصرفي على أساس ثنائية مبسّطة قوامها «أموال طازجة» مقابل «أموال قديمة». يجب أن يتم التمييز في التعامل مع الأموال على أساس الغرض من استخدامها.
يترتب على ذلك، أنه يتعيّن النظر في نوعين من المصارف، في طريقتين لإدارة المخاطر، وفي نوعين من المطلوبات ومن الأصول، وبالتالي في نوعين من المهن. تقوم المصارف التي تجتذب المدخرات القصيرة الأجل بتمويل احتياجات رأس العامل. أما تلك التي تجتذب المدخرات الطويلة الأجل، سواء كانت على شكل ودائع أو سندات أتت ضمن خيار أصحابها، أو بحكم طبيعتها كادخارات اجتماعية مؤسسية متراكمة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفي صناديق التعاضد للمهن الحرة وللمعلمين وفي نظام تقاعد عام يتوجب إنشاؤه وغيرها، فسوف تتولّى تمويل الاستثمار.
لا حاجة إذاً إلى عدد كبير من المصارف. والمسألة الحقيقية لا تتعلق بإعادة رسملة المصارف أو بتنظيف موازناتها من خلال نقل ديونها أو أصولها المتعثّرة إلى مصرف «نفايات مالية» حتى تعود المصارف إلى تأدية اللحن الممجوج نفسه.
تقنيات تمويل المشاريع ستكون أساسية. عمليات هيكلة المؤسّسات، محلياً، وعمليات الاستحواذ على مؤسسات أجنبية يتوجّب التمكّن من إجرائها ببعد النظر وبالكفاءة المهنية اللازمين. ويجب أن تُحظر القروض المستندة على أصول غير متصلة بالنشاط المموّل والتي تؤدّي إلى خلق النقد وتضخيم أسعار الأصول المحليّة.
«إعادة هيكلة» النظام المصرفي أو بالأحرى تأسيس نظام مصرفي يؤدي الوظائف التي يحتاج إليها البلد، يجب أن يتم قبل أي تفاوض مع الدائنين من حملة سندات اليوروبوند ومصارف حالية، وإنما أيضاً مع المواطنين في ما خصّ حقوقهم الاجتماعية، ومؤسّسات الادّخار المجتمعية (الضمان، صناديق التعاضد) وأخيراً مع صندوق النقد الدولي بعد أن تمّ التوجّه إليه. يجب أن يتم أيضاً قبل أي عملية لتحويل الذمم المالية إلى الليرة، أو فرض أي ضريبة استثنائية، أو أي اقتطاع من الودائع «هيركات» أو تأجيل للاستحقاقات، أو تحويل للودائع إلى رأس المال، أو أي شكل آخر.
نحذر بوضوح من أن أي قلب لتسلسل حلقات هذه الإجراءات سيولّد حالات من الأمر الواقع تجعل من الصعب، بل من المستحيل، إقامة النظام المصرفي الذي يحتاج إليه البلد.