بعد أكثر من عام على انتفاضة تشرين الأوّل 2019، لا بدّ أن نقرّ بالتّالي:أولاً - استطاعت التركيبة السياسيّة القائمة منذ ثلاثين سنة إعادة سيطرتها على الوضع في البلد. طبعاً هذا حدث من دون أي محاسبة أو إعادة برمجة لطريقة عملها.
ثانياً – لا يزال مصرف لبنان بقيادته المستمرّة منذ نحو ثلاثين عاماً يسيّر الأمر على النحو المعتاد رغم أن السياسات النقدية في هذه السنوات أوصلت البلد إلى الانهيار الّذي نحن فيه. ففي أيّ بلد فيه القليل من المحاسبة أو الحوكمة لكان حدث تغيير في سياسة المصرف المركزي بدءاً باستقالة أو إقالة طاقم الحاكم. على عكس ذلك، لا شيء حدث ولن يحدث ما دامت القوى السياسيّة لم تتغيّر.
ثالثاً – لم يجد الحراك أرضيّة مشتركة أو برنامجاً سياسياً واقتصادياً مقبولاً من نسبة فعّالة من مكوّنات الحراك. وفي النّتيجة لم يحقّق الحراك أيّ نتائج مستدامة لجهة إحداث تغيير إيجابي ملموس في الوضع السّياسي والاقتصادي في البلد.
في ظلّ هذه الوقائع الّتي لا تبدو أنّها قابلة للتّغيير في المستقبل المنظور، علينا إيجاد وسائل فعّالة لمعالجة الانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل في البلد. هذا لن يحدث إلّا إذا استطعنا فصل مسار الإصلاح الاقتصادي والمصرفي عن المنظومة السياسيّة الحاليّة.
لبنان يواجه مشكلتين أساسيّتين؛ انهيار الاقتصاد، وانهيار القطاع المصرفي، وبالتّالي ضياع الودائع. من دون خطّة لنهوض الاقتصاد وإعادة هيكلة القطاع المصرفي لن يقوم البلد. من غير المنطقي أن نتوقّع أنّ القوة السياسيّة والنقديّة والمصرفيّة التي أوصلت البلد إلى الانهيار هي نفسها تستطيع إخراج البلد من هذا الوضع. والأشهر الاثني عشر التي مضت، أي منذ بدء الانهيار السّريع، هي خير دليل على ذلك. لا شيء بنّاء أو مفيداً حدث.
بعد الأزمة الماليّة الّتي واجهتها اليونان بدءاً من عام 2009 والّتي أدّت إلى انهيار الاقتصاد والقطاع المصرفي، تمّ الاتّفاق في عام 2010 مع الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي (ما عُرف بالترويكا) على إنشاء مؤسّسة مستقلّة لها قانونها الخاص مع كامل الصلاحيّات لإعادة هيكلة المصارف ودعم رساميلها. ولمعرفتها بمستوى الفساد في الدولة والقطاع المصرفي، أصرّت الترويكا (المانحة الدّعم لليونان ولهذه المؤسّسة) على وضع نُظم محدّدة للمؤسّسة والمشاركة في اختيار مجلس إدارة وقيادة تنفيذيّة من ذويّ الخبرة والسمعة الجيّدة والمستقلّين عن مراكز القوى السياسيّة والماليّة الّتي أوصلت البلد إلى الانهيار. واستطاعت هذه المؤسّسة في فترة زمنيّة معقولة نسبيّاً إعادة إحياء القطاع المصرفي وتقليص عدد المصارف إلى أربعة مصارف تشكّل 95% من حجم القطاع المصرفي.
النهج الذي اعتمدته اليونان قد يكون ملائماً للبنان، ليس فقط لإعادة هيكلة القطاع المصرفي بل كذلك لوضع وتنفيذ خطّة إعادة إحياء الاقتصاد. وبما أنّ المؤسّسات الماليّة الدوليّة والدول المانحة تصرّ على عدم منح لبنان الدعم قبل إجراء الإصلاحات في الدولة والسياسة الماليّة، فقد تكون المقاربة من خلال إنشاء المؤسّسة المستقلّة، هي الحلّ. أي أن يكون الدعم من خلال هذه المؤسّسة الّتي ستعمل تحت إشراف ممثّلي الدول المانحة كالبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي. ففي اليونان يتكوّن مجلس عام المؤسّسة (وهو السّلطة الأعلى في المؤسّسة) من سبعة أعضاء، اثنان منهم يمثّلان وزارة المال والمصرف المركزي والخمسة الباقون ومن ضمنهم رئيس المجلس يوافق على تعيينهم الاتحاد الأوروبي وهم من أصحاب الخبرات المصرفيّة العالميّة وقد يكونون من غير حملة الجنسيّة اليونانيّة.
وبما أنّ الخبرات المطلوبة لإدارة مؤسّسة تُعنى بإعادة هيكلة القطاع المصرفي قد تختلف عن تلك الّتي تُعنى في إدارة ونهضة الاقتصاد، قد نكون بحاجة إلى مؤسّستين. الأولى تختصّ بإعادة هيكلة المصارف ودعم رساميلها، والثّانية تكون مسؤولة عن إحياء الاقتصاد ومن ضمنه تنفيذ جميع المشاريع الّتي توافق المؤسّسات الماليّة الدوليّة والدول المانحة على تمويلها. هكذا نكون فصلنا أي دعم خارجي عن الهدر والفساد الّذي على الأرجح أن يحدث إذا أبقينا هذه المهمّات من ضمن مؤسّسات الدّولة الّتي تسيطر عليها القوى السياسيّة الفاسدة ومنطق المحاصصة والطائفيّة.
أصرّت الترويكا الأوروبية على إنشاء مؤسسة مستقلّة لإعادة هيكلة المصارف ودعم رساميلها، ومقاربة كهذه قد تكون هي الحلّ في لبنان


هاتان المؤسّستان المستقلّتان ليستا بديلاً من الدّولة. فكما في اليونان، ستكون المدة الزمنية المحدّدة لهما محدودة كعشرة أو خمسة عشر عاماً، على أمل أن تكون هذه الفترة الزّمنيّة كافية لإقامة دولة مدنيّة حضاريّة وغير فاسدة تستطيع تكملة دور هاتين المؤسّستين على الأمد البعيد.

هل هذا الطّرح واقعيّ؟
في البداية، الانهيار حصل وهو حتّى الآن يسير في اتّجاه واحد نحو الأسوأ. لدينا فترة محدودة قبل أن تتّجه الأمور إلى نقطة يصبح فيها الخروج من هذه الأزمة من أصعب الأمور. المنظومة السياسيّة الحاليّة في لبنان غير قادرة على فعل أي شيء إيجابي أو فعّال وتاريخها على مرّ أكثر من ثلاثين سنة يؤكّد ذلك، إمّا بسبب الفساد أو في بعض الاستثناءات لعدم وجود التفكير الإصلاحي.
ثانياً، الخروج من هذه الأزمة الماليّة والاقتصاديّة يتطلّب مساعدة المجتمع الدولي الماليّ وفي مقدّمتها صندوق النّقد الدّولي والاتّحاد الأوروبي. لذا علينا إيجاد الهيكليّة الّتي تسمح لهذا الدّعم أن يحصل بأسرع وقت ممكن وبفعاليّة عالية. إذا انتظرنا من القوى السياسيّة الحاليّة أن تصلح نفسها فهذا لن يحدث. بما أنّ جميع القوى السياسيّة وافقت على المبادرة الفرنسيّة، إن لم نقل بالوصاية الفرنسيّة، فإن قبولها تحت إشراف دولي مركّز على الأمور الاقتصاديّة لا يجب أن يكون صعباً.
ثالثاً، الطرح أعلاه لا ينفي وجود الدّولة. هاتان المؤسّستان المستقلّتان لن تُعنيا بمحاسبة الفاسدين أو إصلاح مؤسّسات الدولة. هذه ستبقى من مسؤوليّات القوى السياسيّة الحاليّة إذا أرادت فعلاً الإصلاح. كل ما هنالك أنّ الدّولة كما هي اليوم لن تسيطر على الدّعم المالي الدولي الّذي يبدو اليوم أشدّ البعد عن التحقّق. إيجاد هيكليّة ملائمة للمجتمع الدولي هو أقصر الطرق للنهوض الاقتصادي والمالي.
رابعاً، هذه الهيكليّة اعتُمدت في ظروف مشابهة للبنان وأثبتت فعاليّتها.

المراجع
1. Hellenic Financial Stability Fund, www.hfsf.gr
2. Hugo Dixon, “Greek governance gamble”, Reuters, 3 December 2012.
3. Yannis Stournaras, “The Greek Economy 10 Years After the Crisis”, speech at the European Court of Auditors, Luxemburg 28 June 2019.
4. Daniel Munevar, “Greece – The PSI and the Process of Bank Recapitalization (2012-2016)”, CADIM, 24 January 2017.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا