في 13 أيلول الماضي، شارك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مؤتمر مجلس محافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية، وقدّم مداخلة عن بُعد لمقاربة الوضع في لبنان على النحو الآتي: حصلت سلسلة من الصدمات أدّت إلى أزمة سيولة وانعدام الثقة بالمصارف بعد إغلاق ثلاثة أسابيع، ما ضغط على سعر الصرف وتحويل الاقتصاد إلى «الكاش».رمى كلمته ومشى ليترك انطباعاً أن هذه الظاهرة لم تأتِ بمثابة ردّ من السوق بشقَّي العرض والطلب تجاه فشل النموذج الذي شارك فيه تأسيسه وأداره سلامة طوال العقود الثلاثة الماضية. نموذج سلامة ابتلع المدخرات وانتقى مجموعة لإنقاذها على حساب الآخرين كلّهم. هي المجموعة ذات النفوذ الأقوى التي كانت تعتاش على الريوع التي يوفّرها سلامة لهم. ما فعله سلامة هو رسمُ المسارات لدخول الأموال وخروجها ليصبح توجيهها حتمياً في اتجاه القلّة. وكلامه عن «سلسلة من الصدمات» مجهولة السياق والفاعل والمفعول به، يُظهر أنّ تحوّل القطاعات نحو التعامل بـ«الكاش» كان أمراً قدريّاً لا يرتبط إطلاقاً بأسباب الانهيار ولا بإدارته القائمة إذا أمكن وصفها بـ«إدارة». هذه الظاهرة في السوق لا تحصل من دون دفع من السياسات النقدية والمصرفية. بمعنى آخر، لا تحصل من دون علم ورعاية المصرف المركزي، ولا يمكنه ادعاء جهله بها، لأن ذلك يعني جهله بآليات السوق التي يديرها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك


الطريق نحو «الكاش»
إذاً، لماذا يتحوّل الأفراد والشركات نحو زيادة استعمالهم للعملات الورقية بدلاً من النقود الإلكترونية؟ انعدام الثقة بالمصارف. وهل انعدمت هذه الثقة بسبب إغلاق المصارف لثلاثة أسابيع، أم بسبب حجم التراكمات التي أدّت إلى انفجار النموذج وإفلاسه؟ لا يمكن الادّعاء بأي طريقة، أن الإغلاق هو مسبّب الأزمة. المسألة أعمق من ذلك بكثير. فمن الثابت حتى الآن، أن الانهيار كان حتمياً في ظلّ نموذج أسّس له سلامة في مطلع التسعينيات وأداره لغاية اليوم. أُتيح لإدارة هذا النموذج الاحتيال على أزمات سابقة من خلال مؤتمرات دعم دولية في باريس، إلا أنه في عام 2016 بدأت الأزمة تتسارع، ولم يعُد التعامل معها قابلاً للترقيع بمؤتمرات دعم دولية، ما اضطر سلامة إلى تنفيذ هندسات مالية أدّت بدورها إلى تسارع إضافي في الانهيار. استمرّ الأمر إلى أن تكثّف الانهيار على شكل اضطرابات اجتماعية انفجرت في 17 تشرين الأول 2019 وأقفلت المصارف لثلاثة أسابيع ظنّاً منها أنها ستركب موجة «الربيع اللبناني» لتبقى الركن الأقوى في النظام المتولّد من الأزمة.
لم يراهن سلامة على المصارف ولم يقِف ضدّها. لعلّه ظن أن الوقوف «على التلّة» سيمنحه رؤية أفضل لمسار الخسارة والربح ويمنحه فرصة أوضح للرهان على الموجة الرابحة وركوبها. لم يعاقب مصرفاً واحداً بسبب إقفاله. لم يُؤنِّب مصرفاً واحداً على الـ«كابيتال كونترول» الانتقائي وغير النظامي الذي فرضته المصارف على عمليات السحب والتحويل، بينما حظي أصحاب النفوذ بمعاملة خاصّة حتى أثناء إقفال المصارف. النتيجة نفسها: لم يعاقب أيّ مصرف على سلوكه الائتماني في السوق. لاحقاً، جرى إفلات سعر صرف الدولار بمواجهة خطّة الحكومة التي حدّدت حجم الخسائر في النظام المصرفي، وخلق مصرف لبنان عدة أسعار للصرف، وتدخّل شارياً وبائعاً للدولار في السوق.

آليات «المركزي» هي السبب
في ظلّ هذه البيئة، بدأت السوق تتحوّل تدريجاً نحو «الكاش». سياق التحوّل ليس بعيداً عن دوافعه الاقتصادية. فالكابيتال كونترول غير الشرعي الذي فرضته المصارف على الزبائن، قلّص مباشرة حجم الأموال المودعة في المصارف والقابلة للتداول في السوق. وبسبب رغبته في إطفاء خسائره مع المصارف، عمد مصرف لبنان إلى إصدارات نقدية إضافية لتوسيع الكتلة النقدية قيد التداول خارج النظام المصرفي. هذا الأمر عزّز ميل السوق نحو اعتماد «الكاش». أصلاً التعامل بالنقد الورقي على النطاق الواسع الموجود في لبنان، لم يكن متاحاً من دون هذه الإصدارات. أكثر من ذلك، إن الآلية التي حدّدها مصرف لبنان لدعم استيراد السلع الأساسية: محروقات، دواء، طحين، مستلزمات طبية، تدفع التجّار نحو استعمال النقد بدلاً من وسائل الدفع المصرفية. فالخوف من توقف الدعم فرضَ على الجميع التعامل على أساس «الدفع النقدي قبل التسليم».
الكابيتال كونترول غير الشرعي ووجود أسعار متعدّدة للدولار ولجوء مصرف لبنان إلى خلق كتلة نقدية كبيرة بالليرة عزّزت الانتقال نحو التبادلات على أساس «الكاش»


أما باقي الشركات، فباتت تعمل على توفير السيولة النقدية من خلال بيع الشيكات المصرفية بفائدة حسم تصل إلى 70% من قيمتها. فبنتيجة تعدّد أسعار الصرف، وبنتيجة النقص في السيولة النقدية، ورغبة مصرف لبنان في إطفاء الخسائر عبر عمليات نقدية توسعية، بات سعر النقد الورقي (الكاش) يرتفع بتسارع. وهذا الأمر ينطبق على الكاش بالعملة الصعبة (الدولار) وبالعملة المحلية (الليرة).
الأفراد أيضاً لهم مسارٌ مرتبط بالمصارف وبأسباب انفجار الأزمة. فعندما شعروا أن مدخراتهم مهدّدة في المصارف، عمدوا إلى سحبها إلى أن أوقفت المصارف بالكامل منحهم الدولارات أو حتى الليرات التي كان يتم تحويلها إلى دولارات في السوق الموازية. الهدف كان خزن الدولارات في المنازل، أو تحويلها إلى أصول ذات قيم أكثر استدامة، أو استعمالها في عمليات المضاربة على العملة، أو تهريبها من المصارف خوفاً من هيركات يطالها... كانت السيولة النقدية حاجة أساسيّة للأفراد والشركات.

إدارة نظام المخاطر
وبمعزل عن حجم «الكاش» المستعمَل سابقاً في الاقتصاد المحلّي ومدى الزيادة التي طرأت عليه، فالأكيد أن نسبته زادت كثيراً لظهور هذا التحوّل الكبير إلى «الكاش». هذه الظاهرة مدفوعة بعوامل تقليص المخاطر السوقية. ففي السابق كان حجم الديون المستترة في السوق يقدّر بنحو 6 مليارات دولار. هذه الديون كانت عبارة عن تسهيلات في الدفع يمنحها المستوردون لتجار الجملة ونصف الجملة ولتجار التجزئة. هذه التسهيلات، مبنية أساساً على التسهيلات المصرفية التي يحصل عليها المستورد أو التاجر مقابل نسب فائدة معيّنة محدّدة في إطار المخاطر الائتمانية. في ظل إقفال المصارف وامتناعها عن تحويل الأموال إلى الخارج، صارت المخاطر الائتمانية مرتفعة من دون أن تعبّر عنها أسعار الفائدة، وصار المستورد والتاجر والصناعي وأي طرف آخر في النشاط الاقتصادي، يفضّل التعامل بالنقد الورقي المباشر لتجنّب مخاطر السوق. فعلى سبيل المثال، إن بيع مخزون السلع التي لا تفسد سريعاً ينطوي على مخاطر كبيرة إلّا إذا تمكّن التاجر من تحصيل ثمن مبيعاته مباشرة ليُتاح له الاستفادة من القيمة الاستبدالية للسلع التي باعها قبل ارتفاع سعر الدولار مجدداً، وخصوصاً أن غالبية المبيعات تتم بالليرة.

يمثّل التداول بالنقد الورقي ارتفاعاً للمخاطر السوقية الناشئة من شعور بانعدام الثقة بثبات سعر صرف الدولار

مثل هذا الأمر يحفّز التوقعات لمستقبل سعر الليرة مقابل الدولار، ويدفع المؤسسات، قصداً لمزيد من الربح، أو تجنّباً لخسارة في قيمة الرساميل، إلى زيادة هامش فوق سعر الدولار المتداول لحماية رساميلها وأرباحها من التآكل. وهذا الأمر تمارسه بتوقيت يناسبها فقط.
الأفراد يمارسون سلوكاً مماثلاً عندما يلجأون إلى تخزين السلع بكميات كبيرة، سواء كان المحفّز احتمال ارتفاع سعر الدولار، أو تدهور الثقة السياسية، أو أي عامل آخر مثل احتمال رفع الدعم، أو إغلاق المناطق بسبب «كورونا». بهذه الحال هم يحاولون أن يشتروا بأكبر كمية ممكنة من الليرات التي بحوزتهم، كميات من السلع بهدف تخزينها خوفاً من خسارة المزيد من قوّتهم الشرائية، أو تجنّباً لخسارة أكبر في مدخراتهم وما يملكونه من ثروات مهما كان شكلها أو طبيعتها.
إنه نظام المخاطر يتحكّم بالجميع. هو النظام نفسه الذي يديره سلامة. بالنسبة له مخاطر بقاء حكومة حسان دياب كان أعلى من استبدالها بالـ «لا حكومة» التي نعيشها اليوم. بالنسبة له، هو ينقل مخاطر انكشاف المنظومة السياسية ويحوّلها إلى مخاطر ائتمانية في السوق تقع حكماً على الأفراد والمؤسسات. لذا بات التداول بالنقد الورقي يمثّل ارتفاعاً في المخاطر السوقية الناشئة من شعور بانعدام الثقة بثبات سعر صرف الدولار. فالمسألة تتعلّق بدوافع هذا التحوّل ونتائجه في السياق الذي نشأ فيه. في السابق كان «الكاش» يتدفّق إلى لبنان بسهولة وبسلاسة وبكميات أكبر بكثير من دون أن ينطوي على مخاطر كهذه. لذا لا يمكن التبرؤ من هذا التحوّل واعتباره فعلاً من أفعال القدر. إنه نتائج سياسات متطرّفة بقيادة رجل جاهل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا