يوم السبت الماضي انتهت المهلة التي منحها البنك الدولي للحكومة اللبنانية من أجل استخدام مبلغ 244 مليون دولار هو جزء من القرض المخصّص لإنشاء سدّ بسري. برّر البنك إلغاء هذا المبلغ بتأخر إنجاز البنود التي تشكّل شروطاً مسبقة للبدء بأعمال بناء السد. معارضو السدّ، من مجموعات بيئية وسياسية، عدّت الخطوة سقوطاً لمشروع السدّ، مقابل تصنيفه خسارة للفئات التي كانت ترى أنه ضروري لرفد حاجتها بالمياه. لا حاجة للقول إن المشروع كان محور تجاذب سياسي أكثر منه بيئي، وأن الأمر لا يتعلق بصفقة تشييد السدّ أيضاً كما صوّرت، بل هو مشروع يتطلب نقاشاً أعمق حول الحاجات الفعلية وجدواها والبدائل الاستراتيجية. إليكم نموذجان من هذا النقاش؛ الدكتور حسين رمّال المهندس الزراعي الذي أمضى الكثير من الزمن في المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، ومنسّق الحملة الوطنية للحفاظ على مرج بسري رولان نصّور الذي ناضل كثيراً ضدّ هذا السدّ
أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

*
حتى لا تعطش بيروت وضواحيها
يوم شاركت في دراساته الأولية عام 1975، أطلقت عليه آنذاك: خزان مائي كبير على سطح بيروت، إذ يبعد عنها، فقط، 45 كيلومتراً، وتُنقل مياهه إليها بالجاذبية، متجاوزة بذلك أكلاف الضخّ الباهظة التي يفرضها سحب المياه الجوفية المتوفرة في الموقع. اختارت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني الموقع نفسه في إطار دراستها للموارد المائية في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وفي عام 1975، نُفّذت دراسته الأولية وضمنها تحديد موقع السدّ، وكميّات المياه المتوافرة فيه.
في عام 1980، وقّعت المصلحة اتفاقاً مع شركة p.r.c ودار الهندسة (نزيه طالب) لإجراء دراسة الجدوى الاقتصادية للسدّ، وتقدير أكلاف بنائه. وفي مرحلة ثانية، وُضعت الدراسات التفصيلية والتصاميم النهائية التي استمرت ثلاث سنوات، ويتم خلالها حفر 36 بئراً استكشافية. وتبين من الدراسات الجيولوجية التي نفذتها شركة scopia اليوغوسلافية وجود مشكلتين:
الأولى: وجود طبقة من الكلس الكارستي calcaire karstique.
الثانية: وجود فوالق تخترق الموقع faille seismique.
وللحدّ من تسريب المياه عبر الطبقة الكلسية الكارستية، تقررت إقامة جدار عازل تحت نقطة ارتكاز السد بتغطية طبقة من الصلصال argil بسماكة متر واحد. أما بشأن الفوالق، فهي تبقى أقل تأثيراً وخطورة من الفوالق التي تخترق بحيرة القرعون، وبحيرة السد العالي.
وخلصت الدراسة إلى إقامة سدّ بسعة 100 مليون متر مكعب.
وفي عام 1986 كُلّف مكتب دراسات أميركي بإعادة الدراسات التفصيلية، واستمر ذلك حتى عام 1990. وأُرفقت الدراسة بملحق يحدد الأثر البيئي للسد، وانعكاساته على كلّ مكونات البيئة الطبيعية والمحيط الجغرافي.
وعلى أساس هذه الدراسات، وافق البنك الدولي على تقديم قرض قيمته 400 مليون دولار. ونشير إلى أن البنك الدولي يشترط في تقديم قروضه لبناء السدود، أن تشتمل دراساتها على الأثر البيئي الناتج عن إقامتها، وأن لا تلحق هذه السدود أضراراً بالبيئة المتاخمة والمحيط الجغرافي.


ونذكّر المعترضين على بناء السد، بأن سكان لبنان، بشكل عام، وسكان بيروت بشكل خاص، يعانون من نقص حادّ في حاجاتهم إلى مياه الشرب، وأن استهلاكهم يعتمد بنسبة 62% على المياه المعبأة في قنانٍ وعبوات بلاستيكية وعلى الصهاريج المتجوّلة التي تنقل المياه إلى خزاناتهم. بيروت لم تُرفد بمياه إضافية منذ عام 1875 يوم نفّذت شركة بريطانية نقل مياه نهر الكلب إلى محطة ضبية، ومنها إلى خزان تلة الخياط. لذا عمد سكان بيروت العطاشى إلى حفر آلاف الآبار بمحاذاة بناياتهم على مدار تلك الفترة، ونُصبت أمام كل منها لافتة تقول: «البناية مجهزة ببئر ارتوازية». وبنتيجة حاجتهم المتزايدة إلى المياه، عمدوا إلى سحب جائر لمياه الخزان الجوفي، وبشكل عشوائي، ما سبّب انخفاضاً في مستوى المياه في هذا الخزان، وتسرّب مياه البحر المالحة إليه.
إن كارثة تملّح الخزان الجوفي في بيروت، الناتجة عن السحب الجائر والمتمادي للمياه، هي أخطر بكثير مما يلحقه سدّ بسري من اقتلاع مئات الأشجار، وغمر أراض زراعية لا تزيد مساحتها الإجمالية على مساحة مرفأ بيروت المنكوب. بيروت التي تطوّقها مياه نهر الدامور، ونهر بيروت، ونهر الكلب وهي التي تربض على بحيرة مائية ضخمة تكاد تلامس أساسات المباني في الطيونة وشاتيلا. أبناء المدينة عاشوا على آبار رأس النبع، وباب إدريس، لكن مدينتهم عطشى اليوم في معظم أشهر الشحائح، وبات يصحّ فيها قول الشاعر: «كالعيس في البيداء يقتلها الظما / والماء فوق ظهورها محمول».
سدّ بسري المطل على مباني مدينة بيروت عند تخوم صخرة الروشة ويوفر لها حاجاتها المائية بقوة الجاذبية لغاية عام 2050، يواجه كل هذه الاعتراضات. أنا أدعو المعترضين إلى قراءة أمثلة صارخة في محيطهم العربي عن مشاريع مائية كبرى شبه انتحارية نفّذتها أنظمة هدفها الأساسي مدّ المدن والتجمعات السكانية بمياه الشرب؛
- المثل الأول : النهر الصناعي العظيم الذي ينقل المياه الجوفية من خزان السرير في الصحراء الليبية إلى المدن القائمة على الساحل الغربي والشرقي عبر منظومة أنابيب يزيد طولها على ألف كيلومتر على خطين متوازيين ينقل كل منهما 2 مليون متر مكعب في اليوم. بلغت كلفة هذا المشروع الانتحاري نحو 36 مليون دولار.
المثل الثاني: إمداد مدينة عمان بمياه الشفة. يتضمن هذا المشروع ضخّ المياه الجوفية من خزان «الجيسة» القريب من الحدود السعودية إلى مدينة عمان التي تبعد أكثر من 600 كيلومتر مع ما يترتب على ذلك من أكلاف ضخّ باهظة.
- المثل الثالث: تأمين المياه لمدينة دمشق. عبر أحد المشروعين التاليين:
* جلب المياه إلى دمشق من الساحل السوري الذي يبعد عنها نحو 250 كيلومتراً عن طريق ضخ المياه السطحية إلى المدينة التي تعلو عن سطح البحر نحو 640 متراً.
*توفير المياه من سدّ الفرات إلى مدينة دمشق عبر أنابيب بطول 600 كيلومتر على الأقل، وضخّها من منسوب 240 متراً ( السدّ) إلى منسوب 640 متراً (دمشق).
هذه النماذج من المشاريع المائية العالية الكلفة تدلّ على أنه لا يجوز لعاقل أن يقف في وجه مشروع يروي غليل بيروت من خزان بسري القريب من سطوحها. أما الحديث عن تلوّث المياه، فمن الأكيد أن مياه سدّ بسري نظيفة وبعيدة عن مصادر التلوث.
في المقابل، يمكن دعوة المعترضين على سدّ بسري إلى الوقوف في وجه المشروع الذي يُنفّذ حالياً لنقل المياه المعنفة «L'eaux turbinee» في معمل الأولي (معمل بولس أرقش) لتوليد الطاقة. فالمياه الآتية من بحيرة القرعون عبر نفق مركبا - جزين ملوّثة بمجملها، فضلاً عن أن هذا المشروع ينطوي على خطرين كبيرين:
- الخطر الأول: نقل مياه ملوّثة إلى العاصمة بيروت.
- الخطر الثاني: توقف إمداده بالمياه كلياً عند الانتهاء من تنفيذ مشروع ريّ الجنوب، ومشروع ريّ البقاع الجنوبي. فلقد آن الأوان لأن تتوقف هذه المعامل عن العمل لأن تشغيلها يحتاج إلى تبديد نصف طاقة تصريف النهر خارج حوضه لإنتاج كمية من الطاقة الكهربائية تقل عن 7% من حاجة لبنان إلى الطاقة.
أما بالنسبة إلى الاعتراضات المتعلقة بما يحمله موقع سدّ بسري من تراث تاريخي وأثري ومحمية طبيعية بما تحمله من أشجار معمرة ومنظر طبيعي ساحر، فهناك الكثير من الأمثلة عن سدود غمرت عشرات المدن، ومئات القرى الآهلة، واقتلعت الملايين من البشر، كما غمرت أراضيَ زراعية خصبة تفوق مساحتها مساحة لبنان، في مقابل مساهمتها الوطنية بمنافع كبرى تمثّلت في ريّ أراض واسعة وإنتاج كميات هائلة من الطاقة الكهربائية كما حققت الأمن المائي لسكان تلك البلاد. سأكتفي بثلاثة أمثلة تثبت بشكل واضح أهمية بناء السدود المائية:
- سد الصين العظيم le barrage des trois gorges الذي غمرت مياه بحيرته نحو 600 كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية الخصبة وأزالت من الوجود 15 مدينة و116 قرية آهلة بالسكان، وغمرت كذلك نحو 1300 معلم أثري وتاريخي. لكن أول منجزاته توليد طاقة كهربائية نظيفة تساوي 22500 ميغاوات وتغطي 10% من حاجات الصين إلى الطاقة ناهيك بمنافع أخرى في مجال الريّ ومياه الشفة.
بيروت لم تُرفد بمياه إضافية منذ 1875 حين نفّذت شركة بريطانية نقل مياه نهر الكلب إلى محطة ضبية، ومنها إلى خزان تلة الخياط، فعمد سكانها العطاشى إلى حفر آلاف الآبار وسحب المياه بشكل جائر وعشوائي من الخزان الجوفي


- السد العالي الذي غمرت مياه بحيرته سهلاً واسعاً بطول 550 كيلومتراً (300 كيلومتر في مصر و250 كيلومتراً في السودان) كما أزالت من الوجود مئات القرى وهجّرت نحو 3 ملايين من سكان النوبة وكادت تغمر كل آثارات النوبة التي كلّف إنقاذها نحو 3 مليارات دولار جُمعت من دول العالم المتقدّم. وفي المقابل، فإن المياه المجمّة في بحيرة ناصر والتي تبلغ كمياتها نحو 125 مليار متر مكعب، أنقذت مصر من الآثر المدمر الناتج عن سنوات الجفاف التي ضربت بلاد الحوض في أواخر القرن الماضي. كما أن مخزون البحيرة يولّد نحو 2600 ميغاوات كانت تغطّي حاجات مصر من الكهرباء في السنوات الأولى لإنشاء السد ناهيك بمنافع أخرى على مستوى تنظيم وريّ الأراضي في وادي النيل.
- سد الفرات أو سد الثورة في سوريا. بحيرة الأسد غمرت مساحة زراعية بطول 90 كيلومتراً وبعرض من 16 إلى 20 كيلومتراً وهجّرت نحو مليون شخص وتبلغ كمية المياه المجمّعة نحو 14 مليار متر مكعب. هذه البحيرة روت مساحة تزيد على 650 ألف هكتار، وبُني حولها نحو 30 قرية نموذجية وهي تولّد طاقة كهربائية تفوق 800 ميغاوات وتزوّد أيضاً مدينة حلب بالمياه عبر قناة طولها نحو 160 كيلومتراً، وينتظر تنفيذ مشروع مائي كبير ينقل مياه الشرب إلى دمشق. لولا إقامة هذا السدّ الذي أوقع أضراراً جانبية، لكانت سوريا تعرّضت لأضرار مادية ضخمة بعد إقامة تركيا نحو 22 سداً على الفرات في أواسط تسعينيات القرن الماضي.
قدّمت هذه النماذج المعبّرة علّها تُقنع المرابطين فوق أرض السدّ في مرج بسري بضرورة إخلاء المكان. فالأضرار الزراعية الناجمة عن إقامته محدودة وهزيلة قياساً بما ألحقته السدود الثلاثة الواردة أعلاه من أضرار. ولا أضرار تُذكر ستلحق بالبيئة وبالمحيط الجغرافي بدليل أن البنك الدولي وافق على تمويل السد. والقنطرة اليتيمة التي ستغمرها مياه السد لا تساوي شيئاً أمام ألف وثلاثمئة معلم أثري غمرها سدّ الصين. يكفي أن هذا السدّ لن يغمر زريبة واحدة أو قن دجاج في الوادي الخالي تماماً من المجمّعات السكنية الواسعة.
ختاماً أقول لهؤلاء المعتصمين إن عاصمتهم عطشى والماء يحيط بها من كل جانب، فمن فوّضهم بقطع المياه الآتية إليها من خزان كبير يقع فوق سطوحها؟

* مهندس زراعي



رولان نصّور*
البدائل موجودة
بعد سقوط تمويل مشروع سد بسري، صرّح النائب جبران باسيل محذّراً من عطش بيروت وجزّين وصيدا والشوف وبعبدا وعاليه، متهماً المعارضين بالنكد السياسي. هذا التصريح انطوى على مغالطتين أساسيتين: الأولى، هي أن غالبية المناطق التي ذكرها باسيل لا علاقة لها بتغذية المياه من سدّ بسري. فلا صيدا ولا جزّين ولا عاليه كانت ستصل إليها المياه بحسب خرائط المشروع. أمّا تغذية ضواحي بيروت من السد فهي شبه مستحيلة بسبب عدم توفّر كمّيات المياه المطلوبة. مبالغات باسيل ليست جديدة، فقد سبق له أن اقترح تغذية قبرص والأردن بالمياه من سدود لبنان. أمّا المغالطة الثانية فهي التلميح إلى عدم وجود حلول بديلة للسد، الأمر الذي تنقضه الدراسات العلميّة. فالبدائل متنوّعة وهي أكثر فعّاليّة وأقلّ كلفة وأكثر استدامة، وقد سبق أن تقدّم بها فريق حملة الحفاظ على مرج بسري إلى الجهات المعنيّة خلال السنوات الماضية. واليوم في خضمّ النقاشات التي أثارها إسقاط التمويل، أصبح ضرورياً التذكير ببعض الأسباب الموجبة لإلغاء المشروع، وخصوصاً تلك المرتبطة بعدم جدوى السد وبتوافر البدائل.

سدّ بسري لن يجمع المياه المطلوبة
لطالما تبنّى البنك الدولي، مموّل مشروع سد بسري، ادّعاءات مجلس الإنماء والإعمار حول قدرة السد على تأمين 100 مليون م3 /سنة من المياه لبيروت الكبرى. غير أنّ القياسات الحديثة للمياه في نهر بسري أظهرت عدم إمكانية تأمين هذه الكميات. فقد اعتمد التقرير الهيدرولوجي لمشروع السد على معدّلات بيانات تدفّق النهر بين عامَي 1952 و 2012. هذه البيانات تعاني من فجواتٍ ضخمة. فخلال سنوات الحرب الأهلية وما تلاها، لم يجرِ قياس تدفّق النهر، بل تم ملء الفجوات البيانية لاحقاً، أي عام 2012، بشكل افتراضي. وبناءً على هذه الأرقام غير الدقيقة، خلص التقرير الهيدرولوجي إلى أن معدّل ​​التدفق السنوي لنهر بسري هو 129.5 مليون م3 /سنة، وعلى هذا الأساس تمّ تحديد سعة الخزّان بـ 125 مليون م3 /سنة. غير أنّ المشكلة الكبرى لا تكمن في عدم دقّة قياسات تدفّق النهر فقط، بل أيضاً في تهرّب مجلس الإنماء والإعمار من تحديث البيانات بين عامَي 2012 و2020 رغم توافرها لدى المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. فما الذي حاول مجلس الإنماء والإعمار ومعه البنك الدولي إخفاءه خلال السنوات الماضية؟


تشير الدراسات إلى اتّجاه هبوطي حاد في معدّلات تدفّق الأنهار اللبنانيّة عامّة بسبب عوامل عدّة، منها التغيّر المناخي. وأظهرت قياسات مصلحة الليطاني أنه خلال السنوات العشر الأخيرة بلغ معدّل ​​التدفق السنوي لنهر بسري 80 مليون م3 /سنة فقط، مسجّلاً أدنى مستوى له وهو 25 مليون م3 /سنة عام 2014. وإذا أخذنا في الاعتبار معدّلات التبخّر والتسرّب والتدفّق البيئي وغيرها من العوامل، لن يبقى من المياه لتغذية بيروت الكبرى سوى نحو 45 مليون م3 /سنة فقط، ما يعدّ رقماً ضئيلاً مقارنة بالبدائل المتاحة لتأمين المياه.
اللافت هو أنه بعد الكشف عن البيانات الهيدرومترية الجديدة لنهر بسري وعرضها على فريق البنك الدولي من قبل الحملة الوطنية للحفاظ على مرج بسري، اعترف البنك بطريقة غير مباشرة بعدم القدرة على تأمين الكميات المزعومة من سدّ بسري. وأتى هذا الاعتراف في رسالة جوابية إلى الحملة في نيسان الماضي، جاء فيها أنّ السد "قد يكون قادراً على توفير 60 مليون م3 في السنة"، ما يُعدّ تراجعاً عن الادعاءات السابقة بتأمين 100 مليون م3 /سنة. هذا التبدّل في الموقف يفضح زيف مزاعم تأمين مياه الشرب إلى مليون و600 ألف لبناني، ويؤشّر إلى تواطؤ موظفي البنك الدولي على مدى السنوات الماضية في طمس حقيقة فشل السد.

مشكلة المياه: فساد وسوء إدارة
السائلون عن بدائل سد بسري غالباً ما يبحثون عن مشاريع جاهزة تؤمّن كميات كبيرة من المياه. غير أنّ المشكلة الأساسية في قطاع المياه ليست في الحاجة إلى مصادر جديدة، بل في سوء الإدارة وغياب التخطيط الاستراتيجي الشامل والهادف. فمنذ ستينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب لم تقم وزارة الطاقة والمياه برصد المتساقطات والثلوج وقياس الينابيع ودراسة أحواض المياه الجوفية وإحصاء الآبار ومراقبة العرض والطلب، فاعتمدت على مشاريع عشوائية تتجاهل واقع الموارد المائية والمعطيات العلمية. وراحت الدولة تبني السدود الباهظة التكاليف، تاركةً مياه الصرف الصحي من دون معالجة، فيما الآبار غير المنظّمة تنهك الثروة المائية الجوفية، والشبكة المهترئة تهدر 48% من المياه، ناهيك بالتعدّيات والسرقة وتحكّم الشركات الخاصّة ببعض مصادر المياه الأساسيّة.
وفي عام 2012، أقرّت الحكومة اللبنانيّة "الاستراتيجيّة الوطنية لقطاع المياه" التي أعدّتها وزارة الطاقة في عام 2010 من دون الاستناد إلى الدراسات العلمية الضروريّة، فاعتمدت مجدّداً على بناء السدود ذات المخاطر الكبيرة. وأخيراً بدأت تتكشّف عيوب المشاريع المبنيّة حديثاً أو تلك التي قيد الإنشاء. فقد فشلت سدود بريصا والقيسماني والمسيلحة في تجميع المياه بسبب طبيعة الأرض الكارستية غير المناسبة، فيما المشاكل التقنيّة لا تزال تعترض أعمال بناء سدود بلعا وجنّة وبقعاتة، ما يؤشّر إلى احتمال فشلها جميعاً.
بسبب الهدر في شبكة نبعَي جعيتا والقشقوش، تعاني بيروت الكبرى من نقص يبلغ 60.000 متر م3 /يوم، لذا اقترح المعهد الألماني إعادة تأهيل خطوط الجرّ لزيادة الكمية المتاحة سنوياً إلى 105 ملايين م3 /سنة


وكان تقرير "واقع البيئة" الذي أعدّته ECODIT عام 2010 قد أكّد أنّ الميزان المائي الذي تعتمده وزارة الطاقة والمياه لتبرير مشاريعها يستند إلى أرقام غير دقيقة ولا يمكن الركون إليها. كذلك، أكّد المعهد الفدرالي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعية (BGR) عام 2012 أنّ الميزان المائي لدى وزارة الطاقة والمياه يعاني من فجوات هائلة في البيانات، ما أدّى إلى أخطاء فادحة في تخطيط البنى التحتية للمياه وأنتج استثمارات فاشلة. وصدرت في السنوات الماضية مجموعة من التقارير العلميّة المهمّة التي تساعد في قراءة واقع المياه وتطرح مجموعة كبيرة من الحلول المستدامة غير السدود، من ضمنها إعادة تأهيل منشآت نبعَي جعيتا والقشقوش.

الحلول البديلة: نبع جعيتا نموذجاً
إنّ تحليل البدائل الوارد في دراسة تقييم الأثر البيئي لمشروع سد بسري يتجاهل إمكانية زيادة تغذية المياه من الينابيع الكبيرة القريبة من بيروت الكبرى. فعلى سبيل المثال، يغذّي نبعا جعيتا والقشقوش اليوم نحو 70% من مياه بيروت الكبرى. وبهدف حماية هذين النبعين وتعزيز التغذية منهما، قدّم المعهد الفدرالي الألماني لعلوم الأرض والموارد الطبيعية مشروعاً لإعادة تأهيل منشآت نبعَي جعيتا والقشقوش وإمدادات المياه المرتبطة بهما. وقدّرت دراسات المعهد الألماني معدل تدفّق نبع جعيتا بـ 172 مليون متر م3 /سنة، ونبع القشقوش بـ 70 مليون متر م3 / سنة. ويبلغ إجمالي معدل تصريف هذه الينابيع 242 مليون متر م3 /سنة، بينما يُراوح معدل التدفّق اليومي بين 250.000 م3 /يوم و 1.540.000 متر م3 /يوم. لكن التقارير كشفت عدم قدرة منشآت نبعَي جعيتا والقشقوش بوضعهما الحالي على التقاط القسم الأكبر من المياه، إذ يصل الفائض المهدور من نبع جعيتا إلى 600,000 م3 /يوم، وتصل الخسائر في نبع القشقوش إلى 100,000 م3 /يوم. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قناة المياه التي تصل نبع جعيتا بمحطة ضبية قديمة جداً وتعاني من نسبة تسرب 30%. أمّا نفق جرّ المياه فصغير جداً وتبلغ قدرة استيعابه 3.1 م3 /ث فقط، هذا عدا كميات المياه التي يتمّ تحويلها من القناة لأغراض تجارية، والتي يلامس معدّلها 60,000 متر م3 /يوم.
في ظلّ هذا الهدر الفاضح في شبكة نبعَي جعيتا والقشقوش، تعاني منطقة بيروت الكبرى من نقص يصل إلى 60.000 متر م3 /يوم. وفي سبيل معالجة هذه المشكلة، اقترح المعهد الألماني إعادة تأهيل خطوط الجر وزيادة سعتها من 250.000 م3 /يوم إلى 400.000 م3 /يوم ما من شأنه أن يزيد الكمية السنوية من المياه المتاحة من 77 مليون م3 /سنة إلى 105 ملايين م3 /سنة. وقدّرت دراسة الجدوى للمشروع إجمالي أكلاف إعادة تأهيل إمدادات المياه بما في ذلك تكاليف التشغيل والصيانة بنحو 31 مليون دولار فقط. وأكّد المعهد الألماني أن باستطاعة منطقة تغذیة نبع جعیتا تأمین ما یكفي من میاه لبیروت الكبرى وهي تتمیز بنوعیة ممتازة من مصدرها، واعتبر أن الاستثمار يكون أكثر استدامة لو توجّه إلى تعزيز مصادر میاه نبع جعیتا بدلاً من جرّ المیاه من مصادر أخرى بعیدة عن بیروت وأكثر تلوّثاً كسدّ القرعون أو سدّ بسري.

فرصة تاريخية
إذاً، لا تنطلق معارضة مشروع سدّ بسري من أخطاره الكبيرة على البيئة والزراعة والإرث الثقافي والسلامة العامّة فحسب، إنّما أيضاً من عدم جدواه الاقتصادية ووجود حلول بديلة أقلّ كلفة وأكثر فعّالية على المدى البعيد. هذه الحلول تشمل إعادة تأهيل الشبكة المهترئة، زيادة التغذية من الينابيع القريبة من بيروت، وتنظيم استثمار المياه الجوفية. ويشكّل إلغاء قرض سدّ بسري، وهو أكبر مشروع في خطّة وزارة الطاقة، فرصة تاريخيّة لإعادة النظر في سياسات الدولة الإنمائية التي رهنت مواردنا الطبيعية لمصلحة المشاريع الكبرى وجيوب المتعهّدين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا