بمرور الأيام، يزداد مشهد الأزمة الاقتصادية - المالية اللبنانية تعقيداً. ففي الفترة الماضية أُضيف إلى المشهد قانون العقوبات الأميركية على سوريا «قيصر» بتداعياته الثقيلة على الحياة السياسية المحلّية وعلى النقاشات المتّصلة بالخروج من الأزمة. لكن انطلاقة أيّ نقاش في هذا القانون وأثره على مسارات حلّ الأزمة اللبنانية وإدارتها، يستوجب تمرير الحلّ عبر دراسة الجغرافيا السياسية الاقتصادية للبنان. أيّ خطوة بعيداً عن هذا الاعتبار هي هدر لوقت ثمين لا نملك ترفه. بناء أيّ نقاش على سرديّة البلد المعزول عن محيطه تاريخياً لن يكون علمياً؛ فالتاريخ حتى في الزمن الذي يتصوّره بعض اللبنانيين بداية تشكّل الكيان (أي ما يسمّونه بإمارة جبل لبنان) لا يدعم فرضيات كهذه.
اقتصاد جبل لبنان
كان اقتصاد جبل لبنان يعتمد على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى هي زراعة شجر التوت وتربية دود القزّ، والثانية هي بعض الحرف والصناعات التقليدية التي كانت تلبّي الكثير من حاجات السوق المحليّة. في كتابه «ثقافة الطائفيّة»، يشير أسامة مقدسي إلى أن بلدة دير القمر كانت أهم المراكز الحرفيّة في جبل لبنان. ففيها صانعو شالات الصوف والمنسوجات الحريرية والقطنية والحدادون والخياطون ومصنّعو الصابون والدبّاغون والخبّازون بالإضافة إلى آلات وزن الحرير. وقبل عام 1860 كان في البلدة 300 نول لتكسي مشايخ جبل لبنان. إلّا أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الجبل كان ذا اكتفاء ذاتي. بل كانت أسواق بلداته مليئة بالسلع من حلب وصيدا ودمشق التي مدّت مشايخ الجبل وملّاك الأراضي فيه من الموارنة والدروز، برأس المال على شكل قروض.
أمّا القطاع الذي يُعتبر مصدر الأموال الأساسي، فقد كان قطاع إنتاج الحرير أو تربية دود القزّ. زراعة شجر التوت وتربية دود القزّ لم تكن حكراً على الجبل فقط، بل كانت زراعة رائجة على امتداد الساحل السوري كلّه. فالإمبراطور البيزنطي «جستينيان الأول» كان أول من أدخل هذا القطاع إلى المشرق في القرن السادس، وشجّع زراعة شجر التوت وقدّم دود القز، بالأخص في الساحل السوريّ، نقلاً عن قيس فِرّو في كتابه «الحرير والتغيير الزراعي في لبنان 1860-1914».
إنتاج جبل لبنان من الحرير كان يُصدّر إلى مدن الداخل السوري الكبرى، خصوصاً إلى دمشق وحلب اللتين كان فيهما أعداد هائلة من مشاغل غزل الحرير ونسجه. وبحسب مقدسي، فإن هذه العلاقة التكاملية كانت تسمح لجبل لبنان باستيراد حاجاته من الأساسيات كالقمح وبعض المواد الغذائية الأخرى من سهول سوريا (حوران والبقاع) وشمال فلسطين. إذ أن جبل لبنان لم يكن قادراً على إنتاج ما يكفي من المواد الغذائيّة لسكّانه بسبب ضيق المساحات الزراعيّة، وما تمكّن المزارعون من استصلاحه كان يُخصّص لزراعة شجر التوت لإنتاج الحرير، لأنه كان مصدر أرباح كبيرة تبرّر الاستثمار الكبير في الاستصلاح. واستصلاح الأراضي كان يتم عبر تحويل المنحدرات إلى مدرّجات، في عملية مكلفة تتطلّب أعداداً كبيرة من اليد العاملة لتنفيذها وصيانتها.

تشابك عضوي
يمكن وصف البنية الاقتصادية في جبل لبنان بأنها كانت مترابطة بشكل عضويّ وطبيعي مع باقي محيطها السوريّ. تقدّم له محاصيل ذات ربحية عاليّة مقابل إمدادها بالحاجات الأساسيّة. هذه البنية تغيّرت تدريجاً بترابط جدليّ مع ازدياد ضعف الإمبراطوريّة العثمانيّة. فمنذ العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر وحتى الثورة الفرنسية، كانت فرنسا تدخل السوق السوريّة لاستيراد الحرير عبر محطّات تجارية موزّعة في المدن السوريّة. هذا الطلب الفرنسي المطّرد شجّع إقطاعيي الساحل السوري وأهاليه على زيادة الاستثمار في شجر التوت وإنتاج الحرير، حتّى تحوّل قطاع إنتاج الحرير إلى القطاع الإنتاجي الأول على امتداد الساحل، كما يقول فرّو.
وبعد اجتياح نابوليون لمصر وقطع العلاقات الفرنسية العثمانيّة، عقدت الإمبراطورية العثمانية اتفاقاً يسمح لبريطانيا بدخول الأسواق السوريّة. وبعد احتلال مصر لسوريا، فتح محمد علي باشا الأسواق السورية للأوروبيين أكثر، بهدف نيل رضا الأوروبيين عن احتلاله. تعريض الأسواق السورية للتجارة الأوروبيّة بهذا الشكل دمّر الصناعات المحليّة سريعاً، خصوصاً صناعات النسيج التي لم تتمكّن من منافسة أسعار السلع المنتجة في مصانع حديثة في أوروبا. فعلى سبيل المثال، تقول ليلى ترزي فواز في كتابها «مناسبة للحرب: الصراع الأهلي في لبنان ودمشق عام 1860»، إن عدد الأنوال في دمشق قبل عام 1840 كان يبلغ 4000 مخصّصة لنسج الحرير والقطن. غير أن هذا الرقم انخفض إلى أقل من 1000 بحلول نهاية العقد، أي في أقل من عشر سنوات.
لا يمكن فصل علاقات الإنتاج بين لبنان وسوريا إذا أراد اللبنانيون إعادة بناء قطاعاتهم الإنتاجية


وضعف القدرة التنافسية لم يكن السبب الوحيد في انهيار صناعات النسيج، بل ثمة عامل آخر هو: فتح الباب أمام التجارة الأوروبيّة. فقد سُمح للمحطّات التجارية الأوروبيّة باستيراد كلّ ما يمكنها من محاصيل الحرير والقطن، ما حرَم الصناعات المحليّة في دمشق وحلب وحماة وحمص من المواد الأولية المطلوبة للاستمرار في الإنتاج. هكذا شرح الأمر عبد الكريم رافق في دراسة بعنوان «تنظيم الحرف وأخلاقيات العمل وضغوطات التغيير في سوريا العثمانية». فأصحاب المشاغل في هذه المدن لم يكونوا قادرين على دفع أثمان محاصيل القطن والحرير التي تصدّر إلى أوروبا. هكذا، أصبح الشرق هو الرافد الأساسي للمواد الأولية للمشاغل الدمشقية والحلبيّة (ذات نوعية منخفضة)، وفي بعض الأحيان عبر إعادة شراء الحرير من مصانع الغزل الفرنسية. إضافة إلى ذلك، كانت الضريبة الجمركية على البضائع المستوردة 5% فقط، بينما كانت الضرائب العثمانية على التجارة الداخلية أعلى بكثير. وبحسب فرّو، فإن هذا السياق ربط الأسواق السورية بالأسواق الأوروبيّة، وخصوصاً الفرنسية التي استعادت هيمنتها تدريجاً اعتباراً من عام 1831. وانفكّت، شكلاً، العلاقة العضوية بين أسواق جبل لبنان والساحل السوري وأسواق الداخل السوري، إلا أنها بقيت مرتبطة ببعضها البعض كونها تشكّل سوقاً واحدة للتجارة مع الأسواق الفرنسية. فقد أصبحت الأسواق السورية مندمجة بشكل كليّ مع الأسواق الفرنسية، حتى أن رأس المال الفرنسي تدفق بغزارة وأعاد تشكيل البناء الاجتماعي- الاقتصادي للمدن السورية والأرياف المحيطة لها في العقود التالية.
ووفق فرّو، فقد نشأت في جبل لبنان طبقة أثرياء جدد من خارج العائلات الإقطاعية التقليدية. طبقة تشكّلت من خلال وكالات التصدير والاستيراد التي كانت تمنحها المحطّات التجارية. وفي جبل لبنان خصّت المحطّات الفرنسية في بيروت المسيحيين بشكل أساسي بهذه الوكالات. فتشكّلت طبقة تجّار احتكرت تصدير الحرير إلى المصانع الفرنسية في ليون ومرسيليا. وهؤلاء التجار استخدموا بدورهم سماسرة لشراء الحرير من إقطاعيي الجبل. وكان السماسرة يشترون الحرير عبر إقراض المزارعين المال برهن محاصيلهم بقيمة منخفضة. تمويل هذه العملية تم عبر قروض منحتها المصارف والمصانع الفرنسية إلى التجار المحليّين بفائدة 6%، وهؤلاء بدورهم أعادوا إقراضها للمزارعين والإقطاعيين (عبر سماسرتهم) بفوائد تتراوح بين 20% و100%. هكذا، كانت تتحوّل أي قيمة مضافة من عملية إنتاج الحرير إلى تراكم في جيوب طبقتي التجار والسماسرة حديثتي التشكّل، بينما بقي المزارعون على حالهم. أما الإقطاعيون فوجدوا أنفسهم يخسرون نفوذهم وثرواتهم بشكل تدريجيّ، حيث فرض عليهم النمط الجديد في التجارة أن يستدينوا بفوائد فاحشة وأن يرهنوا أراضيهم مقابل القروض. وينطبق الحال أيضا على طبقة تجّار دمشق وحلب، التي وجدت نفسها المستفيد الأكبر من تدفّق رأس المال والبضائع الأوروبية (بالأخص الفرنسية منها)، كما يشرح رافق.

السياق واحد
وهذا السياق في الاختلال التجاري وتحطيم الصناعات السورية والاندماج بالسوق الفرنسي لم يكن من دون ثمن. فالارتباط بين جبل لبنان والداخل السوري، لم يكن أكثر وضوحاً من الثمن المشترك الذي دُفع عام 1860. يقول مقدسي إن من ضمن الأسباب التي أدّت إلى حرب عام 1860 في جبل لبنان كان الركود الاقتصادي الأوروبي بين عامي 1857 و1858، والذي أدّى إلى تضرّر صناعة الحرير السورية، سواء الإنتاج أو التصنيع. وكذلك تلفت فواز إلى أن السبب الرئيسي للاقتتال الطائفي في دمشق بعد شهر من انفجار المعارك في جبل لبنان، كان الركود الأوروبيّ الذي ضرب طبقة التجار بشكل رئيسي، معطوفاً على الدمار الذي حلّ بصناعة النسيج الدمشقيّة. فالاختلالات في البنى الاجتماعية الاقتصادية للمجتمعات السورية المحليّة (من ضمنها مجتمعات جبل لبنان) أدّت إلى توترات تراكمت على مدى ثلاثة عقود منذ بداية الاحتلال المصري وحتى تفجّر الاقتتال الطائفي عام 1860. طبقات التجار الجديدة التي تشكّلت في المدن السورية كانت مرتبطة بشكل عضوي بالمحطّات التجارية الأوروبيّة وقنصليات دولها. وتوزيع الوكالات على التجار كان يتم بحسب تقدير كل قنصلية في كل مدينة، وكذلك الامتيازات الإضافية التي تُعطى لبعض التجار. ومع حلول الركود الاقتصادي الأوروبيّ بدأت المحطّات التجارية الأوروبيّة والقنصليات بتقديم ضمانات وامتيازات لبعض التّجار من حملة الوكالات دون آخرين، فحموا استثمارات ورؤوس أموال التجار المحظيين. وكان معظم التجار المحظيين من المسيحيين، سواء في بيروت أو في دمشق.
في المقلب الآخر كان آل الخازن يظهرون ضعفاً شديداً واقتتالاً بين فروع العائلة في كسروان. وفي عام 1858 ثار أهل المنطقة من الفلاحين عليهم بقيادة طانيوس شاهين، الذي كان يحظى بتعاطف رهبانية اللعازريين التي كانت قد أمّنت له التسهيلات القنصليّة الفرنسية، كما يشرح مقدسي في «إفساد السلطنة السامية». نجاح شاهين في كسروان أثار الرعب داخل الطائفة المارونية، فاستعجل بعض قادة الكنيسة انتقاله من كسروان إلى المتن والشوف لتصدير عنفه واستغلاله في الصراع المتفجر مع الدروز منذ سقوط الشهابيين. وبذلك انتقل الصراع من نزاع بين فلاّحين موارنة فقراء وإقطاعيي كسروان، إلى نزاع بين الموارنة والدروز بعنوان «تحرير وحماية الفلاحين الموارنة في كل جبل لبنان».
ويجزم مقدسي بأن العنف الطائفي الذي تفجّر عام 1860 لم يكن خارج السياق التاريخي للأحداث ولم يكن بسبب هويات طائفية متجذّرة كما يدّعي المستشرقون. فالكثير من الهويات الطائفية كانت لا تزال قيد التشكيل أو ناقصة. والأحداث التاريخيّة تتضمّن الاحتلال المصري وسياسات النخب وتنافسها والإصلاحات العثمانية «التنظيمات»، بالإضافة إلى السيطرة الفرنسية المطّردة على تجارة الحرير. والعنف الطائفي كان مجرّد «رد فعل» على هذه الأحداث التاريخية على شكل انفجار فوضوي مفاجئ لعلاقات الطبقات الدمشقية الدنيا والفلاحين اللبنانيين الفقراء بمحيطهم.

الأسباب الأنانية
اليوم، من الإجرام محاولة خداع اللبنانيين عبر الترويج بأن ما سيحصل في سوريا لن يطالنا إذا اخترنا الانخراط في المسار الغربي أو النأي بالنفس والوقوف على الحياد. فالسياقات التاريخيّة بين لبنان وسوريا تظهر جليّاً أن الارتباط حتميّ، ولا يمكن فصل علاقات الإنتاج بين السوقين، بالأخص إن أراد اللبنانيون إعادة بناء قطاعتهم الإنتاجية. وما سيجري على عمليات الإنتاج السورية سينعكس على الاقتصاد اللبناني بشكل عام والقطاعات الإنتاجية اللبنانية بشكل خاص. كما أثبت نهج العقود الثلاثة الماضية من تدمير للبنية الإنتاجية في لبنان، أنّه لم يفكّ ارتباط لبنان بمحيطه ويحقّق له «استقلالاً» عن البوابة السوريّة، بل دمّر الاقتصاد وفتحه على تدفّق رؤوس أموال سبّبت التضخّم وهجرة اليد العاملة اللبنانية. التاريخ والجغرافيا يوضحان أنّ لبنان لا يمكن أن يُعزل عن السياق التاريخي لسوريا، ولبنان ليس بمنأى عن الضرر الذي سيحلّ بالاقتصاد السوري ولا يمكنه ألّا ينخرط في الجهود لتخفيف تأثير العقوبات على سوريا، ليس من باب السياسات الإقليمية الكبرى بل من باب المصلحة الضرورية الآنية والمستقبلية للبنان.