في الجزء الخامس لسلسلة المقالات حول النيوليبرالية وجذورها الفكرية والسياسية نتناول إشكالية الدولة النيوليبرالية في الفكر والممارسة. محور التناقض الرئيسي بين الفكر والممارسة في الفكر النيوليبرالي هو دور الدولة. ما هو دور الدولة عند المفكّرين المؤسّسين للنيوليبرالية؟ قراءة النيوليبراليين للتاريخ المعاصر تفيد بأن فكرة استقلالية الاقتصاد فكرة خاطئة وأنها مصدر الانهيار الاقتصادي. فالسوق ليست نظاماً طبيعياً بل يجب خلقها ولكن من دون ضبطها لأنها تضبط نفسها! والدولة هي الإطار السياسي لتسهيل نشأة السوق العفوية كما قال فون هايك وغيره.دور الدولة النيوليبرالية، في النظرية، هو تأمين البيئة الملائمة للتنافس عبر إطلاق الحرّية بشكل عام مع التركيز على بعض جوانبها وإلغاء القيود كافة على النشاطات الاقتصادية. هذا يعني إصدار تشريعات تحفظ حرّية الملكية وحرّية التعاقد من دون قيد أو شرط. والدولة التي تُصدر تلك التشريعات يجب أن تكون «قويّة» على حدّ قول المفكّرين النيوليبراليين، أي إن الإصلاحات النيوليبرالية لا تطال المجال الاقتصادي حصراً بل السياسي والاجتماعي أيضاً، بما يؤدي إلى إعادة هندسة سياسية واجتماعية أيضاً. الدولة النيوليبرالية يجب أن تكون حريصة على منع العوائق للتنافس بما فيها الاحتكار (على الأقلّ نظرياً) وعدم استقرار الأسعار بسبب الممارسات الاحتكارية أو تقلّبات السوق. هنا تظهر معالم التناقض بين الفكر والممارسة التي سنقاربها في بحث منفصل حول حدود وتناقضات الدولة النيوليبرالية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

إذا كانت الدولة النيوليبرالية مسؤولة عن تأمين البيئة للتنافس والحرّية الفردية في السوق، فهذا يعني أن كلّ فرد أصبح مسؤولاً، وبالتالي خاضعاً للمساءلة والمحاسبة عن أعماله ورفاهيته. هذا يعني أن مجالات الرفاهية والتربية والعناية الصحية وحتى تعويضات نهاية الخدمة يجب أن تخضع لقوانين السوق عبر الخصخصة لأن «السوق» تحاسب. لذا يصبح النجاح أو الإخفاق من مسؤولية الفرد كعدم الاستثمار في تنمية رأس المال البشري عبر التربية. وهذا يختلف عن تحميل المسؤولية لنظام سياسي و/أو اقتصادي يؤدّي إلى إقصاء طبقي كالنظام الرأس المالي. لا نظام سياسياً يحلّ مكان الفرد وإن كان ذلك الادّعاء يؤدّي إلى نظام ما.
فحرّية تنقّل الرأس المال بين القطاعات والمناطق والدول أساسية للنهوض الاقتصادي، وبالتالي يجب إزالة العوائق كافة من تعرفات جمركية وضرائب تغريمية والتخطيط المركزي والضوابط البيئية. السيادة الوطنية تخضع للسوق، وهنا مظهر آخر من التناقض بين ضرورة الدولة القوية وإخضاع سيادة الدولة لمتطلّبات السوق في ما يتعلّق برأس المال. في هذا المجال، يُطلق النيوليبراليون مفهوماً جديداً للسيادة، وبدلاً من سيادة الدولة، هناك سيادة المستهلك، كما عبّر عن ذلك لودفيج فون ميزز في عشرينات القرن الماضي. المنظّرون للنيوليبرالية لديهم تحفّظات عميقة ومتجذّرة تجاه الديمقراطية ويعتبرون هذه الأخيرة مجرّد ترفٍ لا يُمكن تحقيقه إلّا في حالة الرخاء الاقتصادي وبوجود طبقة وسطى قويّة تؤمّن الاستقرار السياسي. لذلك في مفهومهم، يترتّب على النظام الاجتماعي ألّا يتقيّد بأيّ مرجعية سياسية أو دينية بل بمقتضيات السوق. ومن هنا ننتقل من سيادة الدولة إلى سيادة المستهلك وسيادة السوق.
النيوليبراليون يعتبرون الحكم عبر الأكثرية تهديداً محتملاً للحرّيات الفردية والدستورية. لذلك يفضّلون الحكم من قِبل نخب وخبراء واتّخاذ القرارات بأوامر تنفيذية أو أحكام قضائية بدلاً من تشريعات برلمانية. ويشدّدون على حماية بعض المؤسّسات من مفعول الديمقراطية؛ فالمصرف المركزي مستقلّ عن المؤسسات السياسية الحاكمة لأنه مصدر السياسة النقدية التي هي بدورها المحرّك الأساسي للاقتصاد وليس الإنفاق الحكومي. أما فضّ المشاكل بين الأفراد، فذلك من اختصاص المحاكم وليس بقرارات حكومية. والنيوليبراليون يعتبرون أن آلية السوق أفضل من آلية البرلمان إذ أن السوق تعطي حرّية الاختيار للمستهلك من دون أن يخضع لمشيئة الأكثرية. مفهوم الديمقراطية عندهم يختلف عن المفهوم السائد عند معظم الديمقراطيين الذين يعتبرون المشورة وقانون الأكثرية قاعدتَين للقرارات. السياسة عند النيوليبراليين ليست إلّا الاقتصاد، ولكن بوسائل مختلفة بينما نعتبر أن الاقتصاد ليس إلّا السياسة ولكن بلغة الأرقام. بناء على ذلك يمكن فهم لماذا النيوليبراليون يفضّلون الحكم التسلّطي أو السلطوي بدلاً من النظام الديمقراطي. الأولوية هي تحرير السوق من السياسة، بينما في رأينا الواقع هو أن الاقتصاد أو السوق خاضعة كلّياً للسياسة.
أما بالنسبة إلى العمل، ليس هناك رأي واحد بالنسبة إلى أولويته. المسألة غير محسومة في الفكر النيوليبرالي وإن كانت الممارسات على أرض الواقع لا تشير إلى أي تحفّظ أخلاقي وفكري لجعل العمل خاضعاً لمقتضيات رأس المال. يمكن استقراء يقين موقفهم النخبوي الذي لا يكترث للعمل والعمّال من خلال طرحهم أن البطالة ليست مشكلة أساسية ولا تشكّل أولوية، بينما الاستقرار النقدي وللأسعار هو الأولوية. لذا لم تمتنع الدول عن التعاون لخفض العوائق التجارية الدولية من تعرفات جمركية (حتى إلغائها) إلى إلغاء الكوتا عبر مؤسّسات متخصّصة كمنظمة التجارة الدولية، وإن أدّت إلى بطالة محليّة. التنسيق بين هيكليات الدول الرأس مالية قائم ويتجلّى في تجمّعات مجموعة الثمانية (الآن السبعة بعد إقصاء روسيا) ومجموعة العشرين. فالأولوية هي للتجارة الحرّة عبر فتح الحدود وإن كانت مؤدّية إلى بطالة محلّية.
الخوف من الناس إجمالاً وبالتالي من العمّال يجعل النيوليبراليين يكرهون تنظيم العمل عبر النقابات التي قد تشكّل قوّة معيقة لنمو رأس المال. من هنا نفهم سياسات مارغريت تاتشر ورونالد ريغان وحكومة أغسطو بنوشي في تشيلي ومحاربتهم النقابات العمّالية. بالمناسبة لمارغريت تاتشر قول شهير وهو أنه لا يوجد مجتمع بل مجموعة أفراد. ميل النيوليبراليين للحكم السلطوي يستند إلى ضرورة إنشاء نظام سوقي ثم مجتمع سوقي. السوق ليست ظاهرة طبيعية، بل يجب خلقها وبالتالي الإنسان النيوليبرالي يصبح نيوليبرالياً مكرهاً وليس بالفطرة. هنا أيضا يظهر التناقض في الفكر قبل أن يكون في الممارسة. مشكلة النيوليبراليين هي التوفيق بين شرعنة الحرّية في السوق ورفض التفاعل الديمقراطي بحجة أن حكم النخب هو الأفضل. والنيوليبراليون لا يجرؤون على نقض الديمقراطية لأنها هي حجتهم في ترويج حرّية الأسواق ولكنهم لا يريدون حكمها. والتناقض واضح بين الادّعاء بترويج الحرّية وضرورة «صنع الإنسان النيوليبرالي» أي رغم الفطرة أو الميل الطبيعي للإنسان. الحرّية هي نقيض الفطرة الطبيعية عندهم!
لذا لا يمكن أن نستغرب أن تتحوّل الحكومات التي تحمل لواء النيوليبرالية في التعاطي الاقتصادي إلى دول أمنية بامتياز. فالباحث الأميركي توم انجلهاردت أصدر مؤلّفاً منذ بضع سنوات حول صعود الدولة الأمنية بعنوان «حكومة الظلّ» (Shadow Government 2014). والمؤلّف صاحب موقع «توم ديسباتش» الإلكتروني الواسع الانتشار الذي ينشر دراسات معمّقة حول المجتمع الأميركي والتحوّلات التي تحدث فيه. كما أنه من المساهمين في موقع «كونتربنش» (Counterpunch) لباتريك كوكبرن الذي يقارب السياسات الخارجية للولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي من زاوية النقد والنقض ولمصلحة الشعوب التي تتلقّى الضربات الغربية. وكتاب انجلهاردت ليس الأوّل في كشف دور المؤسسات الأمنية في الولايات المتحدة. ففي عام 1964 أقدم الباحثان دافيد وايز وتوماس بوص على إصدار كتاب عنوانه «الحكومة الخفيّة» (The Invisible Government) يشرحان فيه دور وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في الشأن الداخلي الأميركي، علماً بأن القانون الأميركي يمنع منعاً باتاً الوكالة من العمل على التجسّس الداخلي. وهما أول من تكلّم عن حكومة داخل الحكومة أي حكومة الاستخبارات. مؤلّف انجلهاردت يحاكي صعود ونموّ تلك المؤسّسات وأعمالها التجسّسية على المواطن الأميركي كما فضحها كلّ من إدوارد سنودن وشلسي مانينغ وجوليان اسانج. سنودن في المنفى ومانينغ في السجن، وأسانج ينتظر تسليمه إلى الحكومة الأميركية ليخضع لمحاكمة صورية يُسجن من خلالها لفترة طويلة إن لم تكن مدى الحياة.
الدولة النيوليبرالية تنحاز تلقائياً ضد التجمّعات العمّالية إلى جانب النظام المالي وملاءة المؤسسات المالية


أمّا موقع «أونز ريفيو» فنشر مقابلة مع الاقتصادي الأميركي المميّز مايك هدسون يصف خلالها الدولة النيوليبرالية كمسرح لصراع بين الأوليغارشية المتحكّمة بمفاصل الحكم في الولايات المتحدة والديمقراطية. ويعتبر أن السياسات النيوليبرالية المتّبعة منذ عدّة عقود أدّت إلى المزيد من تمركز الثروة وزيادة الفجوة في الدخل. تمركز الثروة أدّى بدوره إلى الاستئثار بالحكم من قِبل النخب، حيث تمّ ترويض مؤسسة القضاء لصالح تلك الأوليغارشية. ففي عام 2010 صدر حكم عن المحكمة الدستورية العليا يعتبر فيه أن الإنفاق في المرحلة الانتخابية هو وسيلة من التعبير، وبما أن حرّية التعبير يصونها الدستور الأميركي فلا يجوز وضع القيود على الإنفاق خاصة في الحملات الانتخابية. بمعنى آخر أصبح المتموّلون فقط هم من يستطيعون خوض الحملات الانتخابية وتحمّل نفقاتها. كما أن اعتبار الشركات كأشخاص يعطيها الحق بالتدخّل الانتخابي. فالقضاء أصبح الغطاء الشرعي للنيوليبرالية وما تفرزه من قيادات وتشريعات لمصلحتها من دون المصالح الأخرى. والمفكّر نعوم تشومسكي يعتبر أن النيوليبرالية تعني موت الديمقراطية عبر حكم المال. هذه الوصفة تتطبّق بشكل كامل وواضح على الوضع في لبنان.
هذه الملاحظات تجعل من الصعب تحديد ملامح الدولة النيوليبرالية. التناقضات بين الفكر والممارسة سواء كانت داخلية أو خارجية تؤثّر على شكل ونمط الدولة. وهذه التناقضات التي تحدّد شكلاً معيّناً للدولة، أدّت بدورها إلى دينامية التكيّف مع الواقع الجديد وفقاً لدافيد هارفي وهو من الاقتصاديين الأكثر شهرة في نقد النيوليبرالية. إذاً، هناك صعوبة في استخراج صورة محدّدة للدولة النيوليبرالية بناء على التجربة التاريخية، لكن هذا لا يمنع من التركيز على مجالَين يمكن من خلالهما فهم كيف أن الدفع نحو استرجاع نفوذ الطبقة أو سلطتها، يؤدّي إلى نقض مبادئ النيوليبرالية.
فالمجال الأول ينبثق عن ضرورة خلق البيئة المناسبة للاستثمار عند الرأس الماليين. هذا يعني ترسيخ الاستقرار السياسي وحكم القانون والتوازن في التطبيق. وهذه الشروط مبدئياً غير منحازة لطبقة ما. لكن هناك تحيّز واضح ضدّ اليد العاملة عبر جعلها سلعة فقط. من هنا الدولة النيوليبرالية تنحاز بشكل تلقائي إلى كلّ ما هو متماهٍ مع البيئة الاستثمارية وبطبيعة الحال ضد التجمّعات العمّالية. وفي المجال الثاني تنحاز الدولة النيوليبرالية في حال وقوع أيّ صراع إلى جانب النظام المالي وملاءة المؤسسات المالية، وإن كان على حساب الشعب أو البيئة. الأزمة التي يمرّ بها لبنان خير دليل على ذلك وخاصة في ما يتعلّق بالجدل نحو تسديد سندات الخزينة للدائنين أي المصارف.

* كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

تابع صفحة «ملحق رأس المال» على فايسبوك