«أظنّ أنني أسطر الآن كتاباً عن نظرية اقتصادية من شأنها أن تُحدِث ثورة ــ ليس على الفور فيما أظن ولكن في غضون السنوات العشر المقبلة ــ في الطريقة التي يفكر بها العالم في مشاكله الاقتصادية»
جون مينارد كينز، 1935


تصاعدت مؤخّراً وتيرة استخدام اسم «صندوق النقد الدولي» في أوساط الإعلام اللبناني. يأتي ذلك في أعقاب مسلسل الخفوضات المتواصلة لتصنيف لبنان الائتمانيّ وآخره تعديل وكالة «ستاندرد آند بورز» (S&P) للتّصنيف الائتماني لأكبر ثلاثة مصارف تجارية في لبنان لجهة الأصول من خانة «درجة مخاطر مرتفعة جداً» (CCC) إلى خانة «التعثّر الانتقائي» (SD) عن سداد الديون. وكما جرت العادة في مناطق مختلفة من العالم، وبعد كلّ خفض للتّصنيف الائتماني، يبدأ الحديث عن ضرورة استقدام دعم ماليّ وفنّي من صندوق النّقد الدولي من أجل استعادة ثقة المستثمرين نظراً إلى تأثيره الإيجابي على التصنيف الائتماني وتقليل خطر تفاقم الاضطرابات في الاقتصاد الكلّي.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


في هذا السياق، أعربت فئة واسعة من اللبنانيّين واللبنانيات عن مخاوفهم من أيّ شراكة محتملة مع الصندوق، مقابل ترحيب فئات أخرى بهذه الشراكة. تعود هذه المخاوف إلى اعتقاد شريحة كبيرة من شعوب الدول النامية بأنّ الصندوق هو بمثابة مؤسّسة سياسيّة يطغى عليها طابع التبشير بالسلامة الماليّة، بينما تنطوي سياساتها على مسار التقشّف الاقتصادي الذي غالباً ما يُثقل كاهل الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود. وبين هذا الرأي وذاك، كثيراً ما يُساء فهم الدور، أو الوظيفة المنوطة بهذا الصندوق من جهة، والآثار الاقتصاديّة والاجتماعية المُترتّبة على الشراكة معه، من جهة أخرى.
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: هل الشراكة المرتقبة بين الحكومة اللبنانية العتيدة وصندوق النقد هي مدعاة للقلق كما يرى كثيرون؟ وهل هذه المخاوف تستند إلى أُسُس تجريبيّة تضفي عليها شيئاً من المصداقية؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من إلقاء الضوء على ماهيّة صندوق النقد الدولي ونشأته، وكذلك الوظائف المنوطة به.

ما هو صندوق النّقد الدولي؟
طبقاً للموقع الرسمي للصّندوق، فإنّ صندوق النقد الدولي هو وكالة متخصّصة من وكالات منظومة الأمم المتّحدة، أنشئ عام 1944 في مؤتمر بريتون وودز (Bretton Woods) في ولاية نيوهامبشير الأميركية جرّاء اتّفاق حصل بين ممثّلي 45 حكومة على إطار للتعاون الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، حيث يمكن من خلاله تجنّب تكرار كارثة الكساد الكبير (Great Depression) التي وقعت في ثلاثينيّات القرن الماضي. ويهدف صندوق النقد إلى تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي من خلال تيسير النموّ في التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسعار الصرف، بالإضافة إلى تصحيح اختلالات موازين المدفوعات التي تتعرّض لها البلدان. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف يقوم الصّندوق بجملة من المهامّ التي تندرج في سياق مسارات ثلاثة:
أوّلاً: تقديم المشورة للدول الأعضاء بشأن السياسات الاقتصاديّة، الماليّة والنقديّة، والتي غالباً ما تأتي على شكل توصيات رئيسيّة في تقارير قطرية سنويّة يعدّها موظفو الصندوق، والتي عادةً ما تُعرف باسم تقارير مشاورات المادّة الرابعة (Article IV Consultation).
ثانياً: توفير المساعدة الفنّية والتدريب لحكومات الدول الأعضاء ومصارفها المركزيّة، وذلك في شتّى المجالات التي تقع ضمن خبرته، بما في ذلك السياسات الماليّة والنقديّة، وسياسات أسعار الصرف، بالإضافة إلى السياسات الضريبيّة، والإحصاءات الرسميّة، وغيرها.
ثالثاً: لعلّ هذا المسار هو أكثر ما اشتهر به صندوق النقد الدولي، وهو تقديم قروض بالعملات الأجنبيّة إلى الدول الأعضاء التي تواجه عجزاً كبيراً في موازين مدفوعاتها، ونقصاً حادّاً في احتياطاتها من العملة الأجنبيّة الضروريّة للوفاء بقيمة ما تستورده من الخارج، والتي في الوقت نفسه ترغب في الحصول على تمويل* مؤقّت من أجل تجنّب الوقوع في أزمات اقتصاديّة وماليّة أكثر خطورة.
المسار الثالث هو بيت القصيد. فالمخاوف التي يردّدها غالباً الاختصاصيّون والأفراد العاديون بشأن التمويل الذي يقدّمه الصندوق ترتبط بهذا المسار تحديداً، إذ أنّ القروض التي تحصل عليها الدول الأعضاء تأتي مشروطةً بحزمة من سياسات إصلاحيّة للاقتصاد الكلّي، والمعروفة باسم برامج التثبيت والإصلاح الهيكلي (Stabilisation and Structural Adjustment Programmes).

السياق التاريخي لتطوّر المشروطيّة (Conditionality)
خلال العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب العالميّة الثانية – أي في إطار نظام بريتون وودز الأصلي – عمل صندوق النقد الدولي من خلال نموذج اقتصاديّ كينيزيّ، فاشترط لمنح قروضه إصلاحات محدودة ركّزت حصرياً على التخفيف من عجز الميزانيّة، وتحقيق استقرار سعر الصرف من دون اللجوء إلى خفض قيمة العملة لِتحقيق ميزة تنافسيّة غير عادلة، وهو يهدف بذلك إلى الحفاظ على الطلب الكلّي. وبمعنىً آخر؛ حافظ الصندوق في مرحلة ما بعد الحرب على درجة معيّنة من «الحياد الاقتصادي»**، وكانت شروط الإقراض تُبنى على اعتبارات اقتصاديّة صرف من دون السعي لتغيير الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلدان المُقترِضة.
واستند قرار الحياد الاقتصادي في تلك المرحلة إلى المادّة الأولى من اتّفاقية إنشاء صندوق النقد الدولي، والتي تنصّ على أنّ الغرض من قروض الصندوق «توفير الثقة بين البلدان الأعضاء عن طريق إتاحة موارد الصندوق العامّة لها بصفة مؤقّتة... وبالتالي إتاحة الفرصة لها لتصحيح عدم التوازن في ميزان مدفوعاتها من دون اللجوء إلى تدابير مدمّرة للازدهار الوطني أو الدولي»***. ففي حين أنّ الصندوق حدّد شروط الإقراض لناحية إصلاح الاقتصاد الكلّي فإنّه ظلّ بعيداً عن أيّ محاولةٍ لتوجيه البلد المُقترض إلى «كيفيّة» خفض العجز؛ أي أنّه كان يُبقي لهذه البلدان حرّية التصرّف في ما خصّ اختيار السياسة الاقتصاديّة الملائمة لغرض الإصلاح، وبخاصّةٍ السياسة الماليّة والأدوات ذات الصلة - سواء من خلال الأدوات الضريبيّة أو الإنفاق العامّ.
على أنّ دور الصندوق «الحيادي» انقلب رأساً على عقب بعد انهيار نظام بريتون وودز في أوائل سبعينيات القرن الماضي، بعدما أوقفت حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة إمكانية تحويل الدولار (واحتياطات الحكومات الأخرى بالدولار) إلى ذهب، وتمّ تعويم أسعار الصرف من قِبل معظم الاقتصادات الكبرى في العالم. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، أخذ الصندوق بتوسيع نطاق مشروطيّته مُتجاوزاً بذلك التفويض الأصلي له وفقاً للمادّة الأولى من اتّفاقية إنشائه. وباتت المشروطيّة تلك تشتمل على طيف واسع من المجالات السياسيّة، ينطوي بعضها على تحرير سوق العمل، وتحرير التجارة والقطاع الماليّ، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، بالإضافة إلى إعادة هيكلة النّظم الضرائبيّة، وكذلك التشريع لاستقلاليّة البنك المركزي.
واللّافت في التوسّع الملحوظ لمشروطيّة صندوق النقد الدولي، أنّه بات يحمل في طيّاته بُعداً سياسيّاً واجتماعيّاً، يترتّب عليه تقييدٌ لمساحة السياسة (Policy Space) والسيادة الوطنيّة (Sovereignty) لدى الدول المُقترضة. وفي هذا السياق، يَشرح كورنيل بان وكيفِن غالاغِر، في ورقتهما البحثيّة «إعادة تقويم الأرثوذكسية السياسية: صندوق النقد الدولي منذ الانكماش العظيم» أنّ دور الصندوق بات يتّسم بالإهمال لتنوّع الظروف المحلّية، وبالالتزام العنيد بنظريّة عقائدية ليبرالية جديدة للتنمية الاقتصادية.

التجربة العربيّة مع مشروطيّة صندوق النّقد الدولي
تشير بيسان كساب في ورقتها «رسم خرائط تدخّل صندوق النقد الدولي في العالم العربي» إلى أنّ مجموع القروض الماليّة وحزم الائتمان والمساعدة المُقدّمة من قبل صندوق النقد الدولي إلى البلدان العربية منذ اندلاع الانتفاضات الشعبيّة مطلع العقد الحالي وحتى عام 2016 قد بلغت 57.43 مليار دولار، منها 42 ملياراً في عام 2016 وحده.
ومنذ عام 2011 لوحظ اتّساع نطاق مشروطيّة الصندوق في المنطقة العربيّة ليبلغ عدد الشروط المرتبطة بتمويل الصندوق للدول العربيّة بين عامي 2011 و2014 نحو 331 شرطاً (انظر الرّسم البياني الرقم (1))، في حين بلغت قيمة القروض لهذه البلدان 15.43 مليار دولار خلال الفترة الزمنيّة نفسها. ومن المُؤكّد أنّ عدد الشروط قد ارتفع أضعافاً في المرحلة التي تلت عام 2014، لأنّ دولاً عدّة في المنطقة، ولا سيّما المغرب ومصر والعراق والأردن وتونس، قد حصلت على قروض من الصندوق في عام 2016.
وعلى غرار ما حصل للدول النامية الأخرى، كأميركا اللاتينيّة وأفريقيا جنوب الصحراء، اقترن هذا التمويل بمشروطيّة سياسيّة تستند إلى مبادئ «إجماع واشنطن» الذي يُمثّل مسودّة طرحها الاقتصادي الإنكليزي جون وليامسون في عام 1989، وملخصها يبيّن قائمة الأوامر والنواهي التي يتعيّن على صنّاع القرار في الدول النامية الالتزام بها. اشتملت هذه الشروط على «إصلاحات» إلزاميّة في مجالات عدّة، فاتّخذت شكل تدابير مختلفة في جملتها: خفوضاتٌ هائلة في النفقات الحكومية، وتوسيع القاعدة الضريبيّة مع فرض ضرائب جديدة - ولا سيّما غير المباشرة منها- وتحقيق الاستقرار في سعر الصرف مع تبنّي معدّلات فائدة أعلى، وتحرير التجارة من خلال إزالة الحواجز غير الجمركية (NTB)، وتحرير قوانين الملكيّة، وإلغاء قيود سوق العمل كما القيود الماليّة، بالإضافة إلى خصخصة الشركات المملوكة للدولة (SOE).
في النتيجة، إن نطاق السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الواسع الذي تطاله مشروطيّة صندوق النقد الدولي يعني في الواقع أنّ الصندوق قد عمل على أن يُصبح لاعباً أساسياً في عمليّة صنع السياسات في البلدان المُقترضة، وبالتالي يشكّل بلا شكّ عاملاً مؤثّراً في طبيعة النمط الاقتصادي فيها.
وسّع الصندوق نطاق مشروطيّته مُتجاوزاً التفويض الأصلي له لتشتمل على تحرير سوق العمل وتحرير التجارة والقطاع الماليّ وخصخصة الشركات المملوكة للدولة


بالنسبة إلى لبنان، إن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل معالجة تداعيات الأزمة الاقتصاديّة والماليّة غير المسبوقة، إنّما هو ضرب من المغامرة غير المعلومة النتائج ما لم يقترن التمويل بسياسات تندرج في إطار نموذج تنمويّ ذاتِيّ المنشأ، وواضح المَعالم والأهداف، ويَنحاز بشكل أساسي إلى حماية الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمواطنين والمواطنات.
ولا مناص من أن يقترن هذا التوجّه باستثناء القطاعات الأساسيّة كالصحّة والتعليم والحماية الاجتماعيّة من مقتضيات خفض الإنفاق في إطار سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي. لذلك، فإنّ أيّ شراكة مرتقبة بين لبنان وصندوق النقد الدولي لا تُراعي الأولويات التنمويّة المذكورة ستترتّب عليها في الغالب إشكاليّةٌ تتعلّق بتجريد السلطات الوطنيّة من الحيّز السياسي الضروري لتبنّي سياسة ماليّة ونقدية قائمة على مواجهة الاتّجاه الانكماشي الحالي الذي طال أمدُه.

* تلجأ الدول الأعضاء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي بعدما تكون قد فشلت - على الأغلب - في الحصول على قروض جديدة من الدائنين التجاريّين.

** يشرح ريشارد سويدبرغ في ورقته «مذهب الحياد الاقتصادي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي» أنّه يُمكن فهم مبدأ الحياد الاقتصادي في ضوء تفويضات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، والتي تنصّ على أنّ المنظّمتين يجب أن تعتنيا بالدرجة الأولى بالشقّ «الاقتصادي» بدلاً من الشقّ «السياسي» في العالم بعد الحرب. لذلك ينبغي أن يكون الصندوق والبنك محايديْن من الناحية السياسيّة، وأن يستندا في قراراتهما إلى اعتبارات اقتصاديّة فقط عملاً بنظامهما.

*** مرجع الاقتباس: IMF, 2016. Articles of Agreement. Washington DC. International Monetary Fund. p. 2. Available at: http://www.imf.org/ external/pubs/ft/aa/pdf/aa.pdf