هناك ثورة في لبنان من غير أيديولوجيا ثورية. إنها عفوية. ولو رجعنا إلى الذاكرة، فإن «الثورات العفوية» تنتهي بشكلٍ سيّئ بالنسبة إلى اليسار. مع أن اليسار في ألمانيا كان في عزّ قوّته خلال الانتفاضة (الأقلّ عفوية) التي جرت عامي 1918-1919، فقد دافعت الميليشيات اليمينية عن الدولة، وانتصرت، وقتلت روزا لوكسمبورغ.هناك فعلياً القليل جدّاً من اليسار لم يزل موجوداً، وشعارات الثورة اللبنانية العفوية سطحية ومؤذية كشعارات أي من سابقاتها في الربيع العربي. لن توصل المطالبة بـ«إلغاء النظام الطائفي» من غير إلغاء رأس المال المرتبط به إلّا إلى إعادة تدوير الطبقة ذاتها في الحكم برفقة شكلٍ جديدٍ من الطائفية.
الطائفية هي نمطٌ من أنماط التمايزات التي تنشأ بين أفراد الطبقة العاملة، أي أنها الحجر الأساس لرأس المال. هي علاقة اجتماعية متجذّرة في التاريخ وتتمثّل في غالبية الطبقة العاملة. إن إساءة فهم خطر العفوية في الانتفاضة سيكون انتحاريّاً بالنسبة إلى بقايا القوى الاشتراكية. الناس يريدون «خبزاً وديموقراطية»، ولكنهم يريدون خبزاً ينتج عن «ريوعٍ جيوستراتيجية»، وليس خبزاً ينتج في البلد، ويريدون ديموقراطية على الطريقة الغربية، أي حكم رأس المال الأميركي الذي يتمّ توكيله إلى ممثلين محليّين. «الكلمة قد تعني الكثير من الأمور المختلفة»، وهناك نقصُ فادح في المفاهيم الثورية البديلة. من طيف الخيارات الديموقراطية الممكنة، لا يتمّ سوى طرح تنويعاتٍ تنتمي إلى الديموقراطية الانتقائية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

هذه «ديموقراطية» تتسبّب بتغريب الجماهير. هي ترتكز على النموذج الديموقراطي في دول المركز الغربي، حيث تصوّت الغالبية لصالح حكوماتٍ تقصف وتحتلّ بلداً نامياً، لأنها تتشارك مع الحكومة مصلحةً في الريع الإمبريالي. في الديموقراطية الانتقائية توجد فئات موقعها الطبيعي هو «تحت»، والطبقة العاملة تسمح لرأس المال بفعل ما هو جيّدُ لرأس المال. هنا، فإن أيديولوجيا رأس المال التي تتجسّد في الطبقة العاملة، التي أصبحت بدورها مكوّنة من أناسٍ مشيّئين يستنسخون رأسماليين مشيّئين، تستعرض قصر النظر الذي يعتري عملية تحقيق الأرباح. في لبنان، تمّ الاستثمار بكثافة في فكرة أن «ما هو جيّدٌ للسوق هو جيّدٌ لي». باختصار، توجد أزمة في الوعي الثوري وفي البدائل، كما في أي مكانٍ آخر.
غير أن الأزمة في لبنان حادّة للغاية. على مدى ثلاثين سنة، قامت المصارف اللبنانية التي تملكها الطبقة الكمبرادورية الحاكمة بفرض ما يعادل خمسة إلى عشرة أضعاف معدّل الفوائد العالمي على سندات الحكومة اللبنانية. اليوم بلغ دين الدولة للقطاع المصرفي ما يقارب ضعف الناتج الإجمالي للبلد. بعد ثلاثين عاماً من الاقتراض من أجل اعادة الإعمار، يفتقر لبنان إلى مياه الشرب النظيفة، النقل العام، الكهرباء، ولا يمكنه حتى إزالة نفاياته. إن عاصمته والبحيرة العذبة الوحيدة فيه قد تكونان من الأشدّ تلوّثاً في العالم. الوظائف نادرة والهجرة مرتفعة. أدّت السياسة النيوليبرالية التي تقوم على محاربة التضخّم في ظلّ نظام نقدي مفتوح إلى دولرة الاقتصاد واغتصبت قدراً كبيراً من الثروة الوطنية؛ كما أنها خفّضت حصّة الأجور من الدخل الوطني من نحو 50% في أواخر التسعينيات إلى 25% عام 2015. بسبب هذا التقتير في توفير الاعتمادات والقروض للنشاط الإنتاجي وقيام الضرائب غير المباشرة بكبح الطلب الداخلي، فإن أكثر القروض التي يدين بها القطاع الخاص للمصارف تواجه مشاكل في السداد أو من غير المرجّح أن يتمّ تسديدها. لا يمكن للدولة أن تدفع خدمة الدَّيْن من غير ضرائب ساحقة وإجراءات تخصيص. النتيجة هي أنه، بعد سنواتٍ من التقشّف لدفع فوائد هائلة على دينٍ يقوم بتغذية نفسه بنفسه، فإن القطاعين العام والخاص والعائلات في لبنان هي كلّها فعلياً في حالة إفلاس. إن قرّرت الولايات المتّحدة أن تؤخّر الدفعات اللازمة لتمويل الإنفاق المستقبلي عبر المزيد من الديون، فإن بيت الورق هذا قد ينهار بأكمله.
لا تقوم النيوليبرالية، الأيديولوجيا المهيمنة، باختيار أشخاصٍ فاسدين ولا يهمّهم غير مصالحهم الذاتية، بل هي تخلق السياق التاريخي الذي يسمح بنموّ الفساد. الفساد – إن عرّفناه بعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية الفردية – هو جزءٌ لا يتجزّأ من اقتصاد السوق ومن الممكن قياسه عبر وتيرة تحويل الثروة العامّة إلى ثروة خاصّة. تشكّل أمورٌ مثل الحساب الرأسمالي المفتوح وتثبيت العملة مقابل سعر الدولار والضرائب على الفقراء وتخصيص الأملاك العامّة أمثلةً على سياق الفساد. إن المفاهيم السائدة التي تتمّ عبرها معالجة الأزمة في لبنان هي ذاتها التي طالما استخدمت كأسلحةٍ ضدّ الشعب في الماضي: افرض ضرائب على العمّال وخصخص الملكية العامّة. غنيّ عن القول بأن مثل هذه السياسات، أو المطالبة بمحاكمة الفاسدين من دون إلغاء سياق الفساد، هي ليست ثورية حقّاً. من المؤكّد أنه لا تكون هناك ثورات من دون تثوير المفاهيم التي يخاض عبرها الإصلاح. بسبب النكبة الأيديولوجية التي حلّت بالاشتراكيّة، فإن المفاهيم الوحيدة المتوافرة للاستهلاك العام تتمثّل في المزاعم النيوليبرالية. تسأل الطبقة العاملة: كيف ندفع الدَّيْن؟ وهو أصبح عبارةً عن ثروة الطبقة الكومبرادورية في لبنان، بدلاً من أن تسأل: كيف نتخلّص من الكومبرادور ومن سياساته النيوليبرالية؟ الكومبرادور هو عبارة عن طبقة، علاقة قوّة تاريخية-اجتماعية تتمّ إعادة إنتاجها عبر الأيديولوجيا، وعبر فكرة أن ليس خبزنا فقط هو ما نستورده، بل مناظيرنا المفهومية أيضاً. إلى الآن، تقوم كلّ «البدائل» التي يتمّ تصورها وطرحها على زيادة دخل الدولة عبر ضرائب على الأساسيات، من أجل خدمة دَيْنٍ ربويّ. في حالة لبنان، فإن التصدّعات كبيرة إلى درجة أنه مهما كانت العائدات من الخصخصة، فإنّ هذا الحلّ لن ينفع إلّا إلى المدى القصير. لا أحد يتكلّم عن إلغاء الدَّيْن، أو حتّى عن إصلاحات أقل جديّة، من نمط اتفاقاتٍ لتجميد التحصيل، حيث تهبط فائدة المصرف إلى الصفر لحدّ انتعاش الاقتصاد.
لا أحد يتكلّم عن إلغاء الدَّيْن، أو حتّى عن إصلاحات أقل جديّة، من نمط اتفاقاتٍ لتجميد التحصيل، حيث تهبط فائدة المصرف إلى الصفر لحدّ انتعاش الاقتصاد


من جهةٍ أخرى، فإن كيمياء الطائفية، العملية السياسية التي تسمح لرأس المال بتصنيع اختلافاته وتمايزاته للحصول على المزيد من الريع من الدولة، هي معقّدة للغاية. هي تشبه إلى حدّ ما قيام شركتي بويك وشيفروليه بالتنافس بينهما، مع أن الاثنتين مملوكتان لجنرال موتورز.
الشرق الأوسط هو منطقة حرب ونفط. وثّقت منظّمة «أطباء من أجل مسؤولية اجتماعية» أن «الحرب الكونية على الإرهاب» قد أدّت إلى مقتل أربعة ملايين إنسان أو أكثر.
لبنان هو في قلب هذه المنطقة وقد كان تقريباً في حالة حربٍ دائمة إمّا مع أميركا وإسرائيل أو مع وكلائها اللبنانيين. الحرب الطائفية بالوكالة، التي استكانت في السنوات الماضية، قد تستيقظ مجدّداً. يمكن للطبقة المالية العالمية أن تكسب الكثير عبر التضحية بالكومبرادور اللبناني وتوليد البؤس في لبنان حتى يتمّ تدمير الأساس الاجتماعي الذي يسمح للبنان بخوض حربٍ شعبية للدفاع عن نفسه. قد يقوم التآلف الحاكم دولياً بين السوق المالي والعسكرة على إشعال لبنان مرّةً جديدة.
لو كنّا في أزمانٍ ثورية، أو في حقبةٍ تسود فيها المفاهيم الجذرية، لوجدنا أن الحلول المطروحة لا تقلّ عن مصادرة أملاك طبقة السرّاق، تأميم القطاع المصرفي، ووضع ضوابط على الحسابات المالية. إن ثورةً تقوم في أزمنة ثورية، وفي هذه المنطقة الدامية من العالم، من المحتمل أن تشهد عنفاً فورياً ضدّ الطبقة الحاكمة. غير أننا لم نشهد، طوال القرنين الماضيين، زمناً كانت البدائل الاشتراكية فيه غائبة إلى هذه الدرجة.
تشتعل الانتفاضات في أرجاء الكوكب اليوم، ولكن الناس الذين نراهم في الشوارع هم ليسوا «الجماهير». هم ليسوا مسلحين بأيديولوجيا تقدّمية، مع أنماط حديدية للتنظيم، واستعداد لخوض الحرب الشعبية. رأس المال هو العنف بشكله الصافي. حين لا يتمكّن الشعب أو الطبقات العاملة من الحيازة على فكر ثوري والقدرة على ممارسة العنف للدفاع عن النفس فهم لا يعودون شعباً ولا بروليتاريا. بل يصبحون ملحقاتٍ برأس المال، أناساً مشيّئين.

حين لا يتمكّن الشعب من الحيازة على فكر ثوري والقدرة على ممارسة العنف للدفاع عن النفس فهو لا يعود شعباً ولا بروليتاريا، بل ملحقاً برأس المال


إنّ مصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط هي أكبر بكثير من مصالح المصارف اللبنانية. السياسة الداخلية في لبنان تكاد لا تتعلّق بالبلد نفسه. إن تطور الأحداث والسياسة في لبنان هو أساساً مرتبط بالطموح الأميركي بالسيطرة على المنطقة، وخصوصاً الحفاظ على الهيمنة الأميركية في منطقة الخليج. السيطرة على الخليج هي العامل الذي يرفد الدولرة على مستوى العالم، والريع الإمبريالي الذي يتأتّى عنها. في الواقع، فإن أميركا هي أصلاً في حالة حرب منخفضة الحدّة مع إيران، وهي حربٌ تتصل بالجهد الأميركي لاحتواء الصين.
في ظلّ حكم رأس المال، ليس من المستهجن أن يكون لبنان بلداً طائفياً بالمعنى الاجتماعي والدستوري وقائماً على تحصيل الريع. التقسيمات والتمايزات ضمن الطبقة العاملة، أو الطائفية، هي الحالة الطبيعية لإنتاج العمل في ظلّ رأس المال. من دون هذه الفُريقات بين العمّال فإنّ رأس المال، العلاقة الاجتماعية الحاكمة، سوف يظهر على حقيقته كوهم. قام الفرنسيون ومن خلفهم بالاستثمار بقوّة في الطائفية اللبنانية. لبنان يمثّل بمعنى ما حالة متقدّمة أو مبكرة للطائفية، العملية التي تمّ تطبيقها بأشكالٍ متميّزة في العراق في ما بعد. باعتبار أنه أصبح مجتمعاً تشظّيه الانقسامات الطائفية، وبلدٌ دمّرت قدرته الإنتاجية عبر الحرب، فإن لبنان يستمرّ بفضل «الريع الجيوستراتيجي». لبنان يستورد سنوياً بما يقارب العشرين مليار دولار ولا يصدّر أكثر من ثلاثة مليارات. هذه الواردات تجبر البلد على رفع معدّلات الفائدة وعلى الحفاظ على ما يقارب دخله الوطني كاحتياطٍ نقدي من أجل تمويل الاستيراد. ومع أن ميزانية الحكومة لديها في الغالب فائض أولي، بعد أن قلّصت الإنفاق على التعليم والصحّة لصالح خدمة الدَّيْن، فإن الفائض يتحوّل إلى عجزٍ هائل بسبب الكلفة العالية لخدمة الدَّيْن الداخلي. يتمّ الإبقاء على معدّلات الفائدة مرتفعة كمقابل للمخاطر ومن أجل جذب المزيد من الدولارات لتعويض العجز في ميزان المدفوعات.
معظم الدّين هو داخلي، بنسبة 80% أو 90%. وهذه حالة مستغربة للغاية في بلدٍ صغير في العالم الثالث يتعافى من آثار سنواتٍ من الحرب. يقال بأن نسبة الدَّيْن إلى الناتج الوطني تبلغ نحو 150%، ولكنها في الحقيقة أعلى من ذلك. لا يمكن إلّا للدول التي تعيش تحت المظلّة المالية التي يؤمّنها سوق التمويل العالمي (بقيادة أميركا) من تحمّل اقتراضٍ داخلي بهذا الحجم مترافقاً مع تثبيتٍ للعملة مقابل الدولار ونسب تضخّم منخفضة.

* مختارات من نصّ أطول تمّ نشره في: www.globalresearch.ca

* علي القادري: مفكّر، وأستاذ في الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلّفاته «تفكيك الاشتراكية العربية»، و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي»، و«التنمية الممنوعة».