نحن نعيش في أوقات تشهد تغييراً سريعاً ومربكاً. فالرأسمالية في القرن الواحد والعشرين تختلف إلى حدّ كبير عن سابقتها ما بعد الحرب، وكُثُر يعتقدون أنها غيّرت المجتمعات الغربية بطرق سبّبت تزايد عدم الرضا عن الديموقراطية، وتراجع اليسار التقليدي وصعود اليمين الشعبوي. صحيح أن ثمّة صحّة في هذه الحجّة، إلّا أنّ الصحيح أيضاً أنّ حججاً كهذه ليست جديدة اليوم ولطالما كانت غير كاملة وتشوبها علل.
كانت الحتمية الاقتصادية الكامنة في صميم هذه الحجج، هي أساس تفكير اليسار واليمين منذ ولادة الرأسمالية. ولكن اليوم كما في الماضي، لا تحدّد القوى الاقتصادية والتطوّرات الاقتصادية (القاعدة) وحدها طبيعة السياسة (البنية الفوقية). وبشكل أكثر تحديداً، لا يمكن قراءة هويّات الناخبين ومصالحهم بعيداً عن مواقعهم في الاقتصاد (علاقتهم بوسائل الإنتاج). ولكن قد تكون دراسة الرأسمالية في أفضل الأحوال، بداية لتفسير النتائج السياسية، وليس نهايته. كما ذكّرنا أنطونيو غرامشي قبل قرن من الزمن، فإن «فرز الأصوات هو الحفلة الأخيرة في عملية طويلة».

هوية جماعية
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، افترض الكثيرون أن تطوّر الرأسمالية والتغييرات في البنية الاجتماعية الناتجة عن ذلك، من شأنه أن يسفر عن نتائج سياسية معيّنة. وعلى وجه الخصوص، ساد اعتقاد على نطاق واسع أنّه بسبب موقعهم في الاقتصاد، سوف يطوّر العمّال هوية جماعية قويّة ومصلحة مشتركة في انتصار الأحزاب الاشتراكية والإطاحة بالرأسمالية، وهو أمر رحّب به اليسار وخشي منه الليبراليون والمحافظون.
بالطبع لم يحصل ذلك. فالموقع الاقتصادي لم يترجم تلقائياً إلى وضع طبقي اجتماعي: فمن يعملون من أجل أجر كانوا أكثر من الذين ينتمون إلى الطبقة العاملة، التي تعرّف نفسها بأنها مجموعة أشخاص يتشاركون الاهتمامات والهوية نفسها. وبالتالي لم يطالب جميع العمّال بوضع حدّ للرأسمالية أو يصوّتوا للاشتراكيين. وتبيّن أنّ عدد العمّال هو مؤشّر ضعيف على نجاح الأحزاب الاشتراكية: في بعض البلدان كان الرابط ضعيفاً بين نجاح الأحزاب الاشتراكية ونسبة العمّال من الشريحة السكّانية، وكذلك النجاح النسبي للأحزاب الاشتراكية على مستوى الدول.
يعود ذلك، وفق المؤرّخ البريطاني إي بي تومبسون، إلى أن الهويات والاهتمامات لا تمنح بل تُصنع.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

من الواضح أن الهويّات والاهتمامات لا تبرز إلّا عند تعبئتها. وكما هو الحال اليوم، كذلك في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تنافس الدين واللغة والعرق والأمّة مع الطبقة الاقتصادية لتحديد هويّات العمّال والأولويات السياسية وعادات التصويت. وتبعاً لذلك، تحدّدت الهويات والانقسامات والقضايا التي هيمنت على ساحة المنافسة السياسية بشكل حاسم من خلال السياسات والنداءات التي اعتمدها السياسيون والأحزاب. وبشكل خاص، حدّدت أحزاب في معسكر اليسار، مدى اعتبار العمّال هويّاتهم ومصالحهم الاقتصادية أساسية. ووفق ما طرحه آدم برزورسكي وجون سبراغ في دراستهم الكلاسيكية Paper Stones فإن «الأسباب التي تدفع الأفراد إلى التصويت بطريقة معيّنة خلال كل انتخابات هي نتائج تراكمية للمنافسة بين الأحزاب السياسية وبينها وبين المنظّمات الأخرى التي تعبّئ وتنظّم الالتزامات الجماعية. وتحدّد استراتيجيات هذه المنظّمات، وكذلك تأثيرها التراكمي، الأهمّية النسبية للانقسامات الاجتماعية (المختلفة) في سلوك الأفراد أثناء التصويت. فالتضامن بين العمّال ليس نتيجة تلقائية لتشابههم. ولا يمكن تجاوز المنافسة بين العمّال إلّا إذا كان لدى بعض المنظّمات وسائل لفرض الانضباط الجماعي».
سواء كانت الأحزاب اليسارية، على سبيل المثال، قد أقامت علاقات قويّة مع النقابات ومنظّمات المجتمع المدني الأخرى، ودافعت عن دول الرفاه، وتوجّهت إلى العمّال تحديداً بدلاً من «المواطنين الصغار» – إلى جميع المواطنين الذين يُحتمل أن يتعرّضوا للخطر نتيجة الأوضاع السلبية في الأسواق غير الخاضعة للتنظيم - فقد أثّرت بشكل حاسم على تماسك الطبقة العاملة وأنماط التصويت، فضلاً عن درجة الدعم الذي تحظى به الأحزاب الاشتراكية من العمّال وغير العمّال على حدّ سواء. كما أنّه سواء كان اليمين قادراً على احتكار المشاعر القومية، وبالتالي إثارة توترات بين الهويّات القومية والطبقية، أو وضع سياسات اجتماعية تقسم الطبقة العاملة على نفسها أو تضعها في تعارض مع غيرها من المجموعات الاجتماعية، فقد أثّر بشكل حاسم على تشكيل أنماط الهويّة والتصويت في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

تغيّر دراماتيكي
مع دخول الرأسمالية مرحلة التغيير الدراماتيكي في نهاية القرن العشرين، حيث بدأت على ما يبدو مرّة أخرى بجعل «كلّ ما هو صلب يتحوّل إلى هواء»، عاد التفكير القائم على الحتمية الاقتصادية لينتقم. وكانت أبرز مظاهر ذلك: الليبرالية الجديدة التي أعلنت أولوية الأسواق وعدم كفاءة محاولات الدولة في كبح جماحها، لا بل عدم الرغبة بأن تقوم الدولة بذلك. وروّجت أيضاً لنوع معيّن من «الهوية»: الفردية بدلاً من الهوية القائمة على الطبقة أو البلد. وقد أعطت الأولوية لأهداف معيّنة أبرزها «الكفاءة» الاقتصادية بدلاً من المساواة أو الاستقرار الاجتماعي اللذين تعزّزا في ظل النظام الاجتماعي الديموقراطي ما بعد الحرب.
ولكن حتى خارج دائرة دعاة الليبرالية الجديدة، عاد التفكير القائم على الحتمية الاقتصادية إلى الواجهة على شكل حجج تعرّف تطوّر الرأسمالية والتغيرات في البنية الاجتماعية الناتجة عنها كسبب للمشاكل السياسية الأكثر إلحاحاً في عصرنا. ومن هذه الحجج التالي: مثلما تراجع الإنتاج الفوردي وسيطرت القطاعات القائمة على المعرفة أكثر فأكثر على الاقتصادات الغربية، تغيّر حجم المجموعات الاجتماعية والاقتصادية واهتماماتها وهويّاتها. وقد تسبّب تراجع الطبقة العاملة نتيجة التجارة والأتمتة في تراجع اليسار. وغذّت معاناة العمّال وأجزاء من الطبقة الوسطى، التي عانت أيضاً من ركود الأجور والانعدام المتزايد للأمن، صعود الشعوبية. ومن ناحية أخرى، استحوذ حملة الشهادات التعليمية العليا في الطبقة الوسطى والطبقات الأعلى، على حصص متزايدة من الثروة والدخل الوطنيين وانعزلوا أكثر فأكثر عن «الخاسرين» من الرأسمالية، ما أدّى إلى تزايد الانقسامات الاجتماعية والاستياء وكذلك عدم الرضا عن الديموقراطية.
قد تكون دراسة الرأسمالية في أفضل الأحوال، بداية لتفسير النتائج السياسية وليس نهايته، كما ذكّرنا أنطونيو غرامشي قبل قرن من الزمن، فإن «فرز الأصوات هو الحفلة الأخيرة في عملية طويلة


والآن كما في الماضي، هناك بعض الحقيقة في مثل هذه الحجج: فالظروف الاقتصادية والاجتماعية المتغيّرة تقوم بدور مهمّ. ولكن كما في الماضي، لا تعتبر هذه التغييرات حاسمة. وضمن المعوّقات، لدى السياسيين والأحزاب خيارات، وهذه الخيارات مهمّة. ولا يمكن الوصول إلى فهم كامل لعصرنا من خلال اعتبار المشاكل التي نواجهها كأنها منزلة علينا بل أن نبحث في كيفية حصولها، وكيف ساعد السياسيون والأحزاب في تحديد الهويّات والاهتمامات التي تسيطر على السياسة المعاصرة.

خيبة أمل
لماذا جاء التفسير الأهمّ والحلّ لمشاكل الرأسمالية في أواخر القرن العشرين من اليمين النيوليبرالي؟ لماذا؟ حتّى بعد الأزمة المالية في القرن الحادي والعشرين، بعد أن بلغت خيبة الأمل في الأسواق «الحرّة» والليبرالية الجديدة ذروتها - كما قال نيكولا ساركوزي، زعيم يمين الوسط في فرنسا آنذاك، أدرك الجميع أن «فكرة السوق القويّة، التي يجب ألّا تقيّدها أي قواعد تنظيمية وأي تدخّل سياسي، مجنونة» – هل كان اليسار غير قادر على تقديم بديل مميّز ومقنع للناخبين؟
لماذا لم يتمكّن اليسار من بناء تضامن وائتلافات جديدة بين العدد الكبير والمتزايد من المواطنين الذين يعانون من سلبيات الرأسمالية المعاصرة؟ فالعمّال والعديد من أعضاء الطبقة الوسطى يجدون أنفسهم في مواقع اقتصادية متقلّبة وهم مستاؤون من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة. لماذا لم يؤدِ ذلك إلى تكوين هوية طبقية جديدة بين غير الآمنين اقتصادياً والمعرّضين للخطر؟
كشفت دراسة استقصائية أجريت مؤخراً في ألمانيا، على سبيل المثال - حيث كان أداء الاقتصاد جيّداً والبطالة متدنّية - أن غالبية المواطنين قلقون بشأن مستقبلهم ومستقبل بلدهم الاقتصادي، ويعتبرون الوضع الاجتماعي - الاقتصادي أهم خط فاصل في المجتمع الألماني المعاصر. لماذا المستفيد الرئيسي من هذه الاتجاهات والهواجس هو اليمين الشعبوي وليس اليسار التقليدي؟
تتطلّب الإجابة على هذه الأسئلة أكثر من مجرّد تحليل للاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية. إذا أردنا أن نفهم تماماً المشاكل التي يواجهها الغرب اليوم وأن نبتكر حلولاً فعّالة لها، فيجب علينا أن نتجاوز الحتمية الاقتصادية ونفحص بدلاً من ذلك الخيارات التي اعتمدتها الأحزاب وخصوصاً اليسارية.

* شيري بيرمان: أستاذة في العلوم السياسية في كلية برنارد، ومؤلّفة كتاب «الديموقراطية والديكتاتورية في أوروبا. منذ النظام القديم إلى يومنا هذا» Democracy and Dictatorship in Europe. From the Ancient Régime to the Present Day، الصادر عن دار نشر جامعة أوكسفورد.

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي