وفق ما أعلنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في بيان لافت ومفاجئ في الأسبوع الماضي، سيصدر غداً الثلاثاء تعميمه المنتظر الذي «ينظِّم تمويل استيراد القمح والدواء والبنزين بالدولار الأميركي». يُعدّ مثل هذا الإجراء ضرورياً ومطلوباً لضمان إمداد السوق المحلّية بالسلع الحيوية، ولا سيّما في ظلّ تمادي حالة «نقص الدولار» وارتفاع مخاطر السيولة وسعر الصرف وتراكم عجوزات ميزان المدفوعات، والتأثيرات الجمّة لكلّ ذلك على النشاط الاقتصادي والاستهلاك، وحركة التجارة والاستيراد وعمليّات حساب رأس المال والتحويلات من لبنان إلى الخارج، والقدرة على مواصلة الدفع. إلّا أن جدوى هذا الإجراء، أو النتائج التي ستترتّب عليه، تتوقّف على الآلية التي سيضعها هذا التعميم. فهل ستكون الترتيبات فعّالة على المدى المنظور والأبعد؟ هل ستتمتّع بالكفاءة في إدارتها وتوجيهها واتصالها بالمسائل الحيوية الأخرى، كالأسعار والأجور والنقود والعَمالة، التي قد لا تقل أهمّية عن توفير السلع الضرورية؟ هل ستكون مُعلَنة وصريحة وخاضعة للمساءلة أم ستكون على غرار كل عمليّات البنك المركزي مُغفلة ومخفيّة وخارج أي رقابة؟ وهل سيكون هدفها الحقيقي حماية المجتمع من المصالح التجارية والمالية والمصرفية، أم حماية هذه المصالح وتحييدها في هذه المرحلة عمّا يحصل على صعيد إدارة السيولة المُتاحة بالدولار وفرض «القيود» بحكم الأمر الواقع وسياسات المكابرة والإنكار والتهرّب من المسؤولية، لا بحكم إدراك المخاطر وترتيب الأولويات والخسائر والضحايا؟حالة «نقص الدولار» التي وصلنا إليها، ليست حالة عَرضية، ولا تبدو أنها ستكون ظرفية بل إنها مرشّحة للتفاقم أكثر فأكثر في ظلّ تضافر عوامل كثيرة محلّية وخارجية، ذاتية وموضوعية، في مقدّمها تصاعد العقوبات الاقتصادية والمالية والحمائية والحروب التجارية والركود العالمي وتكييف السياسات النقدية في المراكز الرأسمالية الكبرى، والتوترات الإقليمية الجيوسياسية، وتفاقم الأزمة البنيوية الكامنة في الاقتصاد اللبناني تاريخياً، ولا سيّما في ربع القرن الأخير، حيث جرى ترسيخ نموذج تمويل مُرتَهن بدرجة مرتفعة جدّاً للتدفّقات الآتية من الخارج، وتحديداً من تحويلات اللبنانيين المهاجرين وودائع غير المقيمين والاستثمارات الأجنبية المباشرة في المُضاربات العقارية، وبنسبة قليلة في التجارة والسياحة والمصارف. وجميع هذه المصادر حسّاسة جدّاً إزاء التغيّرات الخارجية والصدمات الداخلية، والأهمّ أنها أدّت إلى إصابة الاقتصاد اللبناني بما يُسمّى «المرض الهولندي»، أي الحالة التي مرّ بها بين عامي 1993 و2010 عندما كان يتمّ جذب تدفّقات رأس المال إلى لبنان بكلفة عالية واستخدامها في تمويل الاستهلاك بما يفوق الإنتاج، ما ساهم في تضخّم فاتورة الاستيراد وإضعاف قطاعات إنتاج السلع القابلة للتبادل.
في تلك الفترة (1993-2010)، فاقت قيمة التدفّقات الخارجية الإجمالية إلى لبنان 162 مليار دولار، أي بتبسيط شديد، حصل لبنان على هذا القدر من العملات الصعبة، سواء أكانت على شكل ديون خارجية أم تحويلات أم استثمارات أجنبية، وهي كانت كافية لسدّ عجز الحساب الجاري، أي صافي مجمل تعاملات المقيمين مع غير المقيمين، ولا سيّما عجز الميزان التجاري (المستوردات ناقص الصادرات) الذي بلغت قيمته التراكمية نحو 135 مليار دولار. بهذا المعنى، لم يواجه الاقتصاد اللبناني حالة «نقص الدولار» طيلة 18 عاماً بعد انتهاء الحرب وإطلاق برنامج إعادة الاعمار، بل حقّق فائضاً في ميزان المدفوعات بقيمة تراكمية تتجاوز 27 مليار دولار، وهو ما سمح لهذا النموذج أن يصمد حتى الآن ويتجاوز مشكلاته البنيوية الكثيرة، كما سمح بتكوين موجودات بالعملات الصعبة لدى البنك المركزي تُمكّنه من ربط الليرة بالدولار وتثبيت سعر صرفها الاسمي عبر التدخّل الدائم في سوق القطع الأجنبي وضمان الودائع كلها.
ترك هذا النموذج التمويلي اقتصاداً هشّاً يعاني من إنتاجية ضعيفة، لا يخلق الدخل الكافي ولا فرص العمل ويشجّع على الهجرة وينغمس في تأدية وظائف هامشية في اقتصاد إقليمي ريعي واسع، يعاني بدوره من درجة حساسية عالية إزاء صدمات أسعار النفط والصراعات عليه. إلّا أن هذا النموذج نجح في تحقيق شكل من أشكال «الرأسمالية الصافية»، حيث يمكن أن يتراكم رأس المال باطّراد من دون أي عمل أو إنتاج أو أي مقابل مادي أو ذهني، ويمكن أن تتركّز الثروة والدخل بوتيرة سريعة لدى عدد قليل من الأسر الفاحشة الثراء، التي شكّلت «طبقة أوليغارشية» تستحوذ على الكثير من النفوذ والامتيازات وحرّية الحركة والتصرّف والخروج على القانون والنظام العام.
لقد كان أحد أهمّ شروط هذا النجاح هو ثبات سعر الصرف وتخفيض الضرائب على الدخل والملكيّة والتجارة وتجميد الأجور وقضم حصتها من مجمل الناتج المحلّي، التي تدهورت في هذه الفترة من نحو 35% إلى أقل من 25%، بعدما كانت تبلغ 55% في سبعينيات القرن الماضي. وكذلك كان من الشروط المهمّة عدم المسّ بحرّية حركة رأس المال عبر الحدود وحرّية تحويل العملات والإبقاء على أسعار فائدة سخيّة، لزيادة الودائع باستمرار وتعزيز الرساميل المصرفية وربحيتها وزيادة المديونية العامّة والخاصّة ودعم أسعار العقارات المرتفعة. في ظل هذه الشروط، لعبت الدولة دوراً توزيعياً عكسياً، أي من الأجور إلى الأرباح، ومن الأفقر إلى الأغنى، ومن العمل والإنتاج إلى الريع والفائدة. وُصف الاقتصاد السياسي في تلك الفترة بأنه «اقتصاد الكازينو»، يلعب فيه المُقامرون ويكسبون ربحاً وفيراً. تكفي الإشارة إلى أن البعض في تلك الفترة كان بمقدوره اقتراض الدولار بفائدة منخفضة جدّاً وإعادة توظيفه بالليرة بفائدة مرتفعة جدّاً ومضاعفته في أقل من 5 سنوات أو أربع سنوات وإعادة توظيفه مرّات ومرّات ومضاعفة الربح مرّات ومرّات أو إعادة تحويله إلى الدولار والخروج بسلام.
هذه الشروط تتعرّض إلى اختلالات منذ العام 2011، والتي يعبّر عنها العجز المتراكم في ميزان المدفوعات لتسع سنوات متتالية واستنزافه لنسبة كبيرة من الفوائض التي تحقّقت سابقاً، وهي حالة لم يشهد الاقتصاد اللبناني مثلها حتّى في ظروف الحرب والاحتلال والتضخّم، إذ كان ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً لسنة أو سنتين ثم يعود إلى تسجيل الفائض. ما يحصل منذ العام 2011 أن تدفّقات العملات الصعبة من الخارج لم تعد تكفي لسدّ عجز الحساب الجاري المُقدّر بأكثر من ربع الناتج المحلّي الإجمالي، بل لم تعد تكفي لسدّ العجز التجاري وحده، فكيف سيتمّ تسديد فاتورة الاستيراد ومدفوعات الفائدة وجميع الالتزامات بالعملات الصعبة؟ لا يبدو ذلك ممكناً من دون إعادة ترتيب الأولويات وتوزيع الخسائر: من يحصل على الدولار قبل غيره؟ ومن يستحقّ الضمانات وعلى حساب من؟ أي فئات اجتماعية ستوضع على خطّ الجبهة الأوّل وأي فئات ستُجهّز لها مراكب النجاة والهروب الآمن؟
ترسم تصريحات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الأخيرة ملامح التعديلات على هذه الشروط. فهو أعلن بصراحة أن سوق الدولار في لبنان باتت سوقين وأكثر، وأن الدولار نفسه بات دولارين وأكثر، دولار مُودَع في المصارف مضمون وآخر مُتداول في السوق غير مضمون وثالث مخصّص لاستيراد سلع بعينها. وأخيراً أعلن أنه سيلجأ إلى فرض «ضوابط على رأس المال والتجارة» من خلال التعميم الذي سيصدره غداً، والذي سبقته قيود غير مُعلنة وغير نظامية على معاملات الدولار في النظام المصرفي، حيث يتّخذ كلّ مصرف إجراءات تقييدية بناءً على تعليمات شفهية من البنك المركزي ويجري تمكين عملاء معينين من التعامل بالدولار فيما يُحرم آخرون.
لا شكّ أن الكثير من هذه الإجراءات التقييدية ضرورية لمواجهة حالة «نقص الدولار». هذه المَهمّة هي مسؤولية السلطة السياسية، أياً كانت ومهما كان توصيفها، وهي تتحمّل المسؤولية أوّلاً وأخيراً بمعزل عن درجة كلّ طرف على سلّمها.