في ظل تمادي الأزمة الاقتصادية وصعود الخطاب الشعبوي اليميني وما يثيرانه من قلق وقلاقل، يتساءل معظم الناس عمّا تفعله الحكومة: هل لديها «خطّة» ما للخروج من المأزق؟في جلسة مناقشة قانون موازنة عام 2019، ردّ رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري على النواب الذين انتقدوا غياب «الرؤية الحكومية»، وقال لهم: «الرؤية موجودة ومُعلنة (...) وهي تقوم على 4 ركائز». وشرح لهم أن الركيزة الأولى هي التقشّف، أي تخفيض الإنفاق وتقليص القطاع العام. أمّا الركيزة الثانية فهي تنفيذ برنامج «سيدر»، أي زيادة الدَّيْن الخارجي لتمويل الاستثمار وميزان المدفوعات. والركيزة الثالثة هي القيام بسلسلة من «الإصلاحات الهيكلية»، أي وضع المزيد من التشريعات والأنظمة المحابية للقطاع الخاص. والركيزة الرابعة هي تنفيذ توصيات شركة «ماكينزي»، أي توجيه الدعم لجذب رأس المال المحلّي والأجنبي إلى الأنشطة التي تساهم في صمود النموذج الاقتصادي اللبناني لفترة إضافية. وقال الحريري: «هذه الرؤية الاقتصادية لن نتخلّى عنها لأنها هي التي توصل بلدنا إلى شاطئ الأمان». معتبراً أن تحقيق أهدافها مرهون بمواصلة سياسة تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار، ومواصلة تسديد الفوائد على الديون، ومواصلة ضمان كل الودائع وكل البنوك، وبالتالي فهي مشروطة ببقاء الغطاء السياسي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة كي يواصل استخدام المال العام في عمليّاته لتعزيز رساميل المصارف ودعم أرباحها وتمكينها من دفع فوائد مرتفعة لتجديد الودائع الموجودة ومنع هروبها ومحاولة جذب المزيد منها، وكي يواصل امتثاله للمعايير الدولية والقوانين والعقوبات الأميركية، التي تستهدف حزب الله، وهو أقوى أطراف الحكومة الائتلافية، كما تستهدف النظام السوري وإيران، وهما الأكثر تأثيراً في الداخل اللبناني.
«الرؤية الحكومية»، كما فنّدها الحريري، تطرح تشخيصاً محدّداً للأزمة وتطبّق وصفة محدّدة من «كُتَيّب التعليمات». فالأزمة، وفق هذه الرؤية، ليست بنيوية ولا تخصّ الناس، بل هي أزمة تخصّ الأسواق أو المال المُكدّس في البنوك، ولها تاريخ قصير بدأ في عام 2011 مع انفجار الصراعات الإقليمية وتدفّق اللاجئين السوريين وإقفال الحدود البرية أمام حركة التجارة والسياحة وركود النشاط العقاري وانخفاض أسعار النفط وشحّ السيولة في مصادر التدفّقات المالية الخارجية إلى لبنان. بمعنى ما، لا تتعامل الحكومة مع الأزمة بوصفها خطأ أصليّاً في النموذج الاقتصادي القائم يرهن المجتمع ويعطّل تقدّمه ويقوّض إنتاجيته ويخفّض مستوى معيشته باطراد، بل بوصفها أعطال نتجت من عوامل خارجية لا يتحمّل مسؤوليتها مصنّعو هذا النموذج. فما حصل في السنوات التسع الماضية أن كمّية الدولارات التي تدخل إلى لبنان أصبحت، بسبب هذه العوامل، أقلّ بكثير من الدولارات التي تخرج منه ولم تعد تكفي لتسديد مدفوعات لبنان الخارجية لتمويل استيراد السلع والخدمات ومدفوعات الفائدة على الدَّيْن الخارجي وودائع غير المقيمين، لذلك تطرح الحكومة اتّباع «ريجيم» معيّن للتخلّص ممّا تسمّيه «وزن الدولة الزائد» وتقليل الحاجات التمويلية، أو بمعنى أكثر وضوحاً، اتّباع الوصفة النيوليبرالية المعهودة التي ترمي إلى نقل الأزمة من القطاع المصرفي إلى القطاع العام ونقل الخسائر من الأسواق إلى المجتمع.
تقوم هذه الوصفة على فكرة بسيطة جدّاً: فبدلاً من الاضطرار إلى تخفيض سعر الصرف الاسمي الثابت لتصحيح وضعية ميزان المدفوعات، علينا أن نقبل بتخفيض القدرة الشرائية لمداخيلنا بالليرة، سواء عبر تخفيض الإنفاق العام على الأجور ومعاشات التقاعد والدعم والخدمات الأساسية، أو عبر زيادة الضرائب على الاستهلاك. فمن ناحية، يؤدّي تخفيض الإنفاق إلى الحدّ من خلق النقد والطلب على العملات الأجنبية، ومن ناحية أخرى، تؤدّي زيادة الضرائب على الاستهلاك إلى الحدّ من الاستيراد ونزيف الدولارات.
لقد تحدّى وزير المال علي حسن خليل منتقديه في الجلسة النيابية نفسها بالقول: «كيف يمكننا أن نتحدّث عن رؤية اقتصادية ونحن نتوتّر عند طرح أيّ إصلاح؟ فماذا سنفعل بالأجور؟». لم يتردّد وزير المال في تعيين تخفيض الأجور كهدف أو مقياس لأيّ إصلاح، لأنها باتت تشكّل 36% من إنفاق الموازنة، وفق تصريحاته. ما عناه (مباشرة أو مواربة) أن تخفيض الأجور هو المحكّ، ولا «إصلاح» من دونه، وأن الحكومة تسعى إلى تهيئة الأجواء لتحقيقه، متوعِّداً باستكمال ما سمّاه «المسار المعاكس» لخفض الإنفاق في العام المقبل، والذي يشمل شطب ألف مليار ليرة إضافية من الدعم الموجّه لتثبيت أسعار الكهرباء.
هذه «الرؤية» موجودة بالفعل، والعمل جارٍ على تحقيقها، ولم تكن موازنة عام 2019 إلّا الانطلاقة المُتعثّرة لمسارها، وهي تحظى بتوافق شبه تامّ بين أطراف الحكومة الائتلافية، وهذا ما عكسه بوضوح الاجتماع الذي عُقد في قصر بعبدا في 9 آب/ أغسطس الجاري، وضمّ إلى رئيس الجمهورية ميشال عون كلّاً من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة وحاكم مصرف لبنان ورئيس جمعيّة المصارف، بالإضافة إلى بعض الوزراء المدعويين. فقد جدّد المجتمعون التزامهم باستمرار «الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة والاستقرار الائتماني». كما اتفقوا على «جملة من الخطوات الأساسية التي سيُعمل على تطبيقها في المرحلة المقبلة»، والتي تساهم في «تفعيل الاقتصاد وتعزيز وضع المالية العامّة»، وفق ما ورد في البيان، ولا سيّما لجهة استكمال الإجراءات التقشّفية في موازنة عام 2020 والبدء بتنفيذ برنامج «سيدر» ومناقشة المبادرات التي اقترحتها «ماكنزي»، أي الالتزام بـ«الرؤية» نفسها التي فنّدها الحريري وأشار إليها خليل، وهذا يعني أن البحث لا يزال محصوراً بالعمل على تخفيض الأجور وتجميدها لسنوات مقبلة وتعديل نظام التقاعد وتقليص عدد العاملين في القطاع العام وإلغاء دعم الكهرباء وبعض التحويلات التوزيعية... وفرض المزيد من الضرائب على الاستهلاك وخصخصة المرافق العامّة بالجملة والمفرق وتجيير وظائفها إلى الشركات والمستثمرين والحصول على المزيد من الديون الخارجية، وهذا تحديداً ما قصده رئيس الجمهورية عندما دعا اللبنانيين إلى التضحية مرحلياً، لأننا «إن لم نضحِّ اليوم جميعاً ونرضى بالتخلّي عن بعض مكتسباتنا فإننا نخاطر بفقدها كلّها».
اليوم، تتكامل السياسات المالية التقشّفية مع السياسات النقدية الانكماشية لتقوم مقام «الخطط القاسية»، فرؤية الحكومة هي الرؤية الوحيدة المطروحة، وهي تخيّر الناس بين أن تجلدهم هي أو أن تترك أمر جلدهم إلى المؤسّسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي قال الحريري إنه قدّم توصيات إلى الحكومة لخفض سعر صرف الليرة كوسيلة من وسائل تصحيح ميزان المدفوعات. لذلك إن أصحاب الدخل بالليرة، ولا سيّما من الطبقة العاملة، ليسوا مدعوّين فقط إلى القبول بمستوى معيشة أدنى ممّا هو حالياً للمحافظة على سعر الصرف الثابت، بل مدعوّين أيضاً إلى القبول بخسارة مدّخراتهم في حال سقوط خط الدفاع الأوّل تحت الضغوط النقدية، على غرار ما حصل بين عامي 1982 و1992، عندما ارتفع سعر الدولار من أقل من 4 ليرات إلى أكثر من 2800 ليرة، وانزلقت عشرات آلاف الأسر إلى الفقر، فيما حفنة من المضاربين جمعت ثروات طائلة.
ما يحصل في الأرجنتين الآن يُفترض أن يعطينا درساً مهمّاً، فالتقشّف ليس إلّا «وصفة» لشراء وقت مُكلف جدّاً. فالأرجنتين بعد 5 سنوات من تطبيق هذه الوصفة، تشهد انهياراً في سعر الصرف وتدهوراً في أسواقها المالية هو الأعلى منذ عام 1950، وتواجه احتمالات التوقّف عن سداد ديونها على غرار ما حصل بين عامي 2001 و2002. فوصفة التقشّف ليست مصمّمة أصلاً لحماية الناس، بل بالعكس، فهي تأخذهم رهائن في لعبة «الأسواق» ومصالح اللاعبين فيها.