يقف لبنان اليوم على حافة الهاوية. الأزمة التي يمرّ بها راهناً هي الأكبر على الإطلاق. لا يختلف اثنان على أن الوضع متأزّم والحالة الاقتصادية متفجّرة، وعلى الرغم من ذلك لا يوجد ما يوحي أن هناك بوادر حلّ، خصوصاً أن المعالجة لا يمكن أن تكون تقنية، بل هي سياسية بامتياز، أي باتخاذ القرارات الحاسمة والجذرية وتطبيق القوانين، ولكن لا يوجد من يريد تحمّل المسؤولية.لم يمرّ لبنان يوماً بأزمة مماثلة لما نعيشه حالياً. ففي خلال الأزمات السابقة، سواء خلال الحرب اللبنانية أو قبلها، كان حساب الدولة لدى مصرف لبنان يسجّل فوائض دائمة، لم نكن نواجه أي مشكلة في تسديد الدَّيْن، على الرغم من الانهيارات المتتالية في سعر صرف العملة المحلّية، ولم يكن يوجد أي عقبة في تمويل الاقتصاد متى واجهنا أزمة. أذكر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أننا وصلنا إلى مرحلة لم يعد لدينا احتياطيات في مصرف لبنان لدفع رواتب الموظّفين، فتوجّهت ورئيس جمعية مصارف لبنان، في حينه، عبدالله الزاخم إلى السعودية، بطلب من حاكم مصرف لبنان إدمون نعيم. هناك اجتمعت بوزير المال السعودي محمد بن علي أبا الخيل، منفرداً، لأنه رفض لقاء رئيس جمعية المصارف، ومن ثمّ توجّهت إلى الولايات المتحدة واجتمعت بالمسؤولين في واشنطن، واستطعنا في أقل من عشرة أيام تأمين 700 مليون دولار ناتجة من طرح سندات خزينة في السوق. لقد كان هناك ثقة دولية بقدرة الدولة اللبنانية على الوفاء بالتزاماتها حتى في أحلك فترات الحرب، ذلك أن اقتصادنا كان سليماً، على الرغم من الظروف الأمنية والسياسية الصعبة.
لقد خرجنا من حرب طويلة دامت لنحو 15 عاماً بدَيْن خارجي لا يتجاوز 200 مليون دولار، أمّا اليوم فيصل العجز في حساب الدولة لدى مصرف لبنان إلى نحو 120 مليار دولار، بعد احتساب مستحقّات الضمان الاجتماعي والمقاولين والمستشفيات التي هي أموال بذمّة الدولة لمصلحة الناس. وللمفارقة، إن قيمة الدَّيْن اللبناني تتجاوز الدَّيْن العام في مصر المنكوبة التي تفوقنا بالمساحة وبعدد السكّان، والذي يصل إلى 90 مليار دولار.
قد يسأل البعض: ما الذي جرّ الأمور إلى هذ الحدّ؟ ألم يكن من الممكن تدارك الأزمة قبل وقوعها؟ أم أن الحلول التي اتخذت لم تكن ناجعة؟ في الواقع، نحن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم لأن المسؤولين في هذه الدولة هم المسؤولون عن هذه الأزمة. بعد الحرب اللبنانية، وتحديداً منذ عام 1992، دخلنا في بداية انهيار الاقتصاد، نتيجة إمعان السلطة بسياسة الاستدانة لتمويل مشاريعها الإعمارية، وتُضاف إليها سياسات نقدية تقوم على رفع أسعار الفائدة باستمرار مع سعر صرف ثابت، وهو ما أدّى إلى مراكمة الدَّيْن الخارجي والداخلي من جهة، وسمح بإمكانية التحويل من عملة إلى عملة من دون تحمّل أي مخاطر من جهة أخرى، وأكثر من ذلك، ضُرب الإنتاج ورُفعَت مستويات البطالة. لقد أسهمت هذه الديون المتراكمة بتحويل الثروة من فئة إلى أخرى، بدليل أن 1% من المقيمين يستحوذون اليوم على نصف الثروة الوطنية.
طوال هذه الفترة أيضاً، قامت هيكلية الدولة على تقاسم الحصص وفق المنطق المذهبي والطائفي. وقد أوصلنا هذا النظام وهذا الطقم السياسي إلى ما نحن عليه. إنها مسؤولية الكبار التي يحاولون اليوم تحميل نتائجها للناس من خلال التقشّف. وهو ما يعدّ تهرّباً صريحاً من المسؤولية، وإخفاءً متعمّداً للحقائق عن الرأي العام.
قد لا يكون المخرج سهلاً، أو حتّى متاحاً، ما دام الطقم السياسي الحالي مستمرّاً في الحكم. قد يكون هناك قرار بعدم تفجير الوضع المحلّي، إلّا أن الوضع الاقتصادي متفجّر بحدّ ذاته. وبالتالي، المخرج الحقيقي يحتاج إلى مركزية قرار، وهو ما يتطلّب وجود عمل سياسي وتخطيط للتنمية والإنماء، بدلاً من ترك هذه العملية لسعر الفائدة وتقلّباته. وهو يحتاج إلى دولة تخطّط على صعيد علاقاتها الخارجية وسياساتها الاقتصادية وخططها الإنمائية. إلّا أن وجود هذه الدولة يشكّل نقيض النظام السياسي الحالي القائم على المحاصصة الطائفية، وعلى نموذج عمل غير عملاني وغير مُنتج لا يفرز أي قرار قد يصطدم بمصالح أعضائه وزعمائه.
الحلول للخروج من الأزمة تتطلّب ــ على سبيل المثال ــ عصر النفقات لتخفيف العجز، وتتطلّب سياسات اقتصادية إنتاجية بدلاً من سياسة الاستدانة ومراكمة الديون التي تفيد فئة مُحدّدة على حساب كلّ المجتمع، وأيضاً تتطلّب محاسبة المسؤولين عن كلّ الفترة السابقة. ما يعني بصراحة تسليم الأمانة لنزهاء وشرفاء يضعون خططاً إنمائية واقتصادية وسياسية. هذا هو الحلّ الوحيد، وكلّ ما بقي مجرّد كلام بالتقنيات.