تواجه أكثرية الناس صعوبة جدّية في قراءة المؤشّرات الاقتصادية، التي تُنشر حالياً عبر وسائل الإعلام أو ترد في التقارير الصادرة عن جهات رسمية وخاصّة، محلّية وخارجية. ماذا تعني؟ يجري استخدام هذه المؤشّرات السلبية جدّاً بكثافة غير مسبوقة، لإخبارنا أننا نمرّ في ظروف حرجة جدّاً وعلينا أن نتحرّك سريعاً. فقد بلغنا مرحلة لم نعد نستطيع فيها مواصلة تمويل استهلاكنا وإنفاقنا وتسديد ديوننا بالطريقة التي اعتدناها على مدى ربع القرن الماضي. لقد حلّت ساعة الحقيقة، وما كان يبدو حالةً لبنانية فريدة أو «عجيبة» يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية، تبيّن أن لها حدوداً استنفدت وشروطاً لم تعد متوافرة، وبات علينا جميعنا الآن أن نسدِّد الثمن، ونرضى بمستوى عيش أدنى من المستوى الذي نعيش فيه. وإذا لم نقبل بذلك، ستنهار الليرة وتتوقّف الدولة عن السداد ونعلن الإفلاس ونذهب جميعنا إلى الهلاك.
في هذا السياق، يأتي البيان الختامي الأخير لبعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، الذي سبقه تقرير وكالة التصنيف الدولية «موديز»، والكثير من التقارير والتصريحات التي تشدِّد جميعها على أن الاقتصاد اللبناني يتعرّض لأزمة كبيرة، يعكسها تنامي العجز المتراكم في ميزان المدفوعات والمخاطر المتزايدة في النظام المصرفي ودرجة التصنيف الائتماني المتدنية كثيراً. فلم تعد الآليات المتّبعة لتمويل «النظام السياسي» ونموذجه الاقتصادي قادرة على استقطاب كمّية الدولارات التي يحتاجها لمواصلة سياسة تثبيت سعر صرف الليرة. وبالتالي باتت «النخبة» الحاكمة مُضطرة إلى الاختيار: إمّا السماح بتخفيض سعر الصرف الاسمي مباشرة، وإمّا إجراء عملية جراحية واسعة لتخفيض القدرة الشرائية لليرة، عبر «تعديل مالي» كبير يشمل تخفيض الإنفاق العام والأجور النقدية والاجتماعية ورفع الضرائب على الاستهلاك ورسوم الاستيراد، أو ما يعرف بالسياسات الانكماشية والتقشّفية. وفي الخيارين، يجري التصميم على تحميل فئات الدخل الأدنى الخسائر لحماية مكاسب فئات الدخل الأعلى.
تفيد المؤشّرات حتى أيار/ مايو من هذا العام، بأن ميزان المدفوعات سجّل عجوزات شهرية متتالية، لاول مرّة في تاريخه، بلغت قيمتها 10.4 مليارات دولار على أساس سنوي (12 شهراً)، وهذا أدّى إلى انخفاض الأصول الأجنبية (موجودات الدولار لدى مصرف لبنان) بقيمة 8.7 مليارات دولار في الفترة نفسها. وقد شهدت الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام مرحلة انخفاض ميزانية القطاع المصرفي بالقيمة المُطلقة، ولا سيّما انخفاض ودائع الزبائن بنحو 3.5 مليارات دولار في أيار/ مايو الماضي عمّا كانت عليه في نهاية عام 2018.
تُقدَّم هذه المؤشّرات الخطيرة كشأن يخصّ الأسواق، لا الناس، وتُعرَّف بلغة غير مفهومة تزعم الصفة العلمية، وتظهر كأنها طلاسم في اللغة المتداولة بين الناس العاديين. فالصحيح أنه لا يمكن أيّ مجتمع أن يعيش لفترة طويلة بمستوى أعلى من دخله ويستهلك أكثر بكثير مما ينتج ويراكم الديون والودائع بلا سقف. ولكن هذه «الحقائق» لا يمكن ان تكون "موضوعية" وتتجاهل كلّياً الاسباب البنيوية، ولا سيما على صعيد سلّم الدخل والثروة، وتسعى إلى تكريس انطباع خادع أنها مؤشّرات ظرفية نجمت عن عوامل وأحداث وتطوّرات ومؤامرات وفساد، عكّرت صفونا وخرّبت عيشنا ووضعتنا أمام الأوضاع الحرجة والخطيرة.
يقولون لنا إن حالتنا البائسة على الصعد كلّها: البنية التحتية والخدمات الأساسية والبيئة والصحّة والتعليم والسكن والنقل والوظائف والأعمال... كلّها نتجت من «طبقة سياسية» فاسدة وفاشلة وغير كفوءة، تسيطر على الدولة ومؤسّساتها واقتصادها وتتحاصص ريوعها، وتقصي القطاع الخاصّ وتحدّ من استثماراته المُنتجة ومبادراته الخلّاقة. ويقولون ايضا إن الإفراط في الإنفاق العام ودعم الكهرباء والصراعات السياسية والنزاعات المسلّحة وتدفّق اللاجئين... كلّها اسباب طارئة أدّت إلى تنامي العجز المالي للدولة وتراكم المديونية وضمور الاستثمارات. ويقولون كذلك إن زيادة الأجور ومعاشات التقاعد وعدد العمّال الأجانب، كانت السبب في زيادة الاستهلاك وبالتالي الاستيراد وانخفاض صافي التحويلات، ما أدّى إلى نقصٍ في كمّية الدولارات التي نحتاجها لتسديد مدفوعاتنا إلى الخارج وشراء السلع والخدمات التي نستهلكها، في ظلّ ضعف الإنتاج المحلّي. ويقولون إن القروض المدعومة، السكنية وغير السكنية، التي كانت تقدَّم كحلّ لمعضلة النموّ المنخفض، تحوّلت إلى مشكلة، وباتت مصدراً إضافياً للطلب على الدولارات، نتيجة عمليات تحويل قيمتها من الليرة إلى العملات الأجنبية من قِبَل المستوردين والتجّار وأصحاب المشاريع وتجّار البناء وملّاك الأراضي... في الحصيلة، تقول لنا المؤشّرات المتداولة إن الضغوط النقدية تزداد باطراد وتهرب الودائع والرساميل من لبنان إلى الخارج وتستنزف الأصول الأجنبية التي يحتفظ بها البنك المركزي كسلاح رئيس لتثبيت سعر صرف الليرة. ولذلك، علينا ان نشدّ الأحزمة لننقذ الاسواق والارباح، وعلينا ان نستعد في سبيل ذلك للانزلاق العنيف نحو هاوية جديدة أو مستوى جديد من الحضيض.
تخبرنا هذه المؤشّرات أننا في أزمة حقيقية، ولكن بلغة غير مفهومة، تزعم الصفة العلمية، وتظهر كأنها طلاسم في اللغة المتداولة بين الناس، وهذا ما يجعلهم عاجزين عن استخدامها في بناء تصوّراتهم وردود أفعالهم واتخاذ مواقفهم وقراراتهم. وهذا ليس مستغرباً أو مستجدّاً، ولا هو يخصّ اللبنانيين وحدهم دون سائر البشر، ولا يخصّ الاقتصاد حصراً دون غيره، بل هو نتيجة تاريخ طويل من «الأدلجة»، سواء كانت لخدمة القسر الذي يُمارس عبر الدولة، أو لخدمة الاستغلال الذي يمارسه رأس المال. وفي الظروف اللبنانية يجد التقاطع بين مصالح القسر ومصالح رأس المال أحد أكثر الأشكال رجعية في النظام الرأسمالي الذي نعيش فيه، حيث تعلو الانقسامات الطائفية فوق ما عداها من انقسامات في المجتمع، وتطمس الجوانب الطبقية والجندرية والبيئية والثقافية في الصراعات الجارية على السلطة والثروة.
بعد الأزمة العالمية في عام 2008، ازدهرت الأدبيات التي تعدّد ما سمّته «الأفكار الزومبي»، أي الأفكار التي ماتت في التجربة الواقعية، لكنها لا تزال حيّة في النظريات (وغالباً تهيمن وتسيّر شؤوننا). لعلّ أبرز هذه الأفكار هي التي تقول: «إن السياسات التي تفيد الأثرياء ستساعد الجميع في النهاية»، و«إن كل وظيفة تقريباً تؤدّيها الدولة حالياً يمكن أن تؤدّيها شركات القطاع الخاص بشكل أفضل»، و«إن تنامي التجارة في السلع والخدمات والأصول المالية والعقارية يمكن أن يستمرّ إلى الأبد»، و«إن هجرة البشر وعوائد العمل في الخارج يمكن أن تقدّم هدايا دائمة لا تنضب». في الواقع، ما تخبرنا به المؤشّرات الاقتصادية الحالية أننا في مواجهة هذا النوع من «الأفكار الزومبي»، التي يصبح كل تعارض معها بمثابة عمل تخريبي من تدبير «البقايا الشيوعية» وصنع «المؤامرات الخارجية»، كما يردّد حاكم مصرف لبنان أو الخطاب اليميني الشعبوي أو ممثّلو أصحاب رأس المال على اختلاف مشاربهم.
ما نشهده اليوم، ويشعرنا بالقلق الشديد، ولا سيّما على صعيد تهديدنا بانهيار الليرة وإفلاس الدولة وتركنا فريسة العجز والتقشّف والانكماش، ليس إلّا الطور الجديد من أزمة الاقتصاد اللبناني البنيوية الأصلية، التي يبدو أنها تطوّرت وصارت أخطر مما كانت عليه في أيّ وقت مضى.