«كما طرحها هوبز، الرياضيات توحّد البشر، أما العلوم الاجتماعية فتقسمهم. إن «العلم الاقتصادي» هو معترك وجائزة المعارك السياسية الكبرى في التاريخ»

لوي التوسير


مثل الفساد والهدر، يأتي التهرّب الضريبي ليحتلّ سلّم الأولويات لفترة ثمّ يختفي. والسبب في ذلك ليس غريباً، إذ أنه، مثله مثل سابقاته، يُطرح ليس لإيجاد حلّ له بل لرمي قنابل دخانية للتعمية على ما هو مطلوب فعلياً ألا وهو «تغيير السياسات» وتغيير البنية الاقتصادية في لبنان. فاكتشاف، أو لحظة أوريكا «التهرّب الضريبي»، لاقى رواجاً فجأة في 2017 عندما بدأ الحديث آنذاك عن الحاجة إلى وضع ضرائب جديدة، أو رفع معدّلات الضريبة على الأرباح والفوائد. اليوم وخلال النقاش حول الموازنة الحالية، عاد الموضوع إلى الواجهة، وهنا أتى دور المدافعين عن الأرباح الريعية في الترويج وإطلاق المزايدات حول مقدار التهرّب الضريبي وحول الأرقام الخيالية التي يمكن جمعها من وقف التهريب في المرفأ وضبط الحدود ووقف تهريب الدخان وعدم دفع الكهرباء إلخ... فيتولّد انطباع لدى الناس أن ما نحن بحاجة إليه هو وقف كلّ تلك التعدّيات فقط وليس أيّ أمر آخر. عندها أزمة مالية الدولة، ومعها أزمات الاقتصاد، تصبح موضوعاً «قانونياً» (التهريب) أو «سياسياً» (قوى الأمر الواقع...)، بدلاً من أن تكون «اقتصادية سياسية» تؤدّي عبر ميكانيزمات قانونية إلى تراكم الدَّيْن العام وعجورات الخزينة، وفي المقابل تراكم الثروة لدى القلّة وتراجع الإنتاجية والأجور والتصدير والاقتصاد المنتج واختفاء الطبقة الوسطى والبطالة وهجرة الشباب.

ما بعد التهرّب الضريبي
طبعاً، التهرّب الضريبي، مهمّ، ويجب الحديث عنه ولكن يجب الذهاب أبعد مما يُطرح الآن والاستفادة منه في اتجاهات عديدة.
أوّلاً، التهرّب الضريبي لا يقتصر على ما يُحكى عنه اليوم، بل قد يتضمّن سبلاً أوسع من ذلك، وأهمّها كيفية استعمال الخارج أو تهريب الأموال إلى «الجنّات الضريبية» من قِبَل الأثرياء والشركات كما بيّنت «أوراق بنما». هذا النوع من التهرّب الضريبي الذي له علاقة مباشرة بالثروة، يجب أن يستحوذ على نفس الاهتمام الذي يستحوذ عليه التهريب المُفترض في المرفأ مثلاً، على الرغم من أن إغراءات الأخير «السياسية» كثيرة، وبالتالي يبدو أكثر إثارة في بلد يزداد غرقاً في صراعات الهويّة بينما الاقتصاد ينهار.
ثانياً، إن طرح أية معضلة عامّة وخصوصاً إذا كانت بهذا الحجم، وبهذه الحساسية، يتطلّب إجراءات لحلّها. وفق أبحاث «بنك عودة»، يصل التهرّب الضريبي إلى 5 مليارات دولار سنوياً، وهو يشكّل نحو 9% من الناتج المحلّي، أي ما يساوي عجز الخزينة. إذا كان ذلك صحيحاً، والدولة لا تفعل شيئاً، فهذا بحدّ ذاته معضلة أكبر. إذ أن الدولة تملك مفتاح وقف تراكم الدَّيْن العام ولكنها لا تستعمله. طبعاً، الذريعة هي أن الدولة ليس لديها القدرة الإدارية ولا البشرية لذلك. والسؤال عندها يطرح نفسه: لماذا لا تُبنى هذه القدرة بدلاً من تقليص حجم الدولة ووقف التوظيف؟ وهنا يبدو أننا نواجه مرّة أخرى معضلة «البيضة والدجاجة» التي تفتك بلبنان على صعد عدّة (الطائفية: النفوس vs النصوص، الضرائب: تقديمات الدولة vs الضرائب). طبعاً، لكلّ من هذه المعضلات حل ولكنّها توضع وكأنها «معضلة مستحيلة» لا حلّ لها. وهنا اقتراح في هذا الإطار: أن تُستعمل أموال «سيدر» في بناء مقدرة الدولة على التحصيل الضريبي. بالتأكيد العائد سيكون أعلى من استعمالها في المشاريع المختلفة والعشوائية «المُخطّط» لها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ثالثاً، السؤال الذي يطرح نفسه أيضاً: هل تدنّي الضريبة أو عدم شمولها الجزء الأكبر من الدخل والثروة هو نوع من «التهرّب الضريبي» القانوني؟ فقبل خفض الضرائب في 1993 كانت الضرائب على الأرباح تصل إلى 50%، وخفِّضت إلى 10%. لنفترض حالة قصوى، وهي أنها خفِّضت آنذاك إلى الصفر، فهذا يعني أن طبقة بأكملها، ليس كأفراد ذوي مداخيل معيّنة بل كطبقة، كانت ستُعفى قانونياً من الضرائب. إذاً، النظام الضريبي ليس فقط مجالاً «قانونياً» بحتاً، بل هو مجال اقتصادي سياسي، وبالتالي لا يمكن تحويل النقاش حوله إلى الزاوية القانونية فقط.
رابعاً، يأخذنا الموضوع إلى طرح موضوع المعطيات وتوفّرها في لبنان. فمن الواضح أن لا أحد يعرف بالتحديد، أو حتّى تقريبياً، مدى التهرّب الضريبي وهذا ينسحب على الكثير من الأمور الاقتصادية مثل، على سبيل المثال لا الحصر، البطالة، والناتح المحلّي فصلياً، وحصّة الأجور. وهنا الدولة مذنبة أيضاً. فإدارة الإحصاء المركزي بدلاً من أن تكون مصدراً لكلّ الإحصاءات والمعطيات بتمويل كامل من الدولة، تبقى مصدراً غير كافٍ، وفي كثير من الأحيان عشوائي، وتخضع الكثير من مسوحاتها لمعوّق التمويل الخارجي. كما أن مصرف لبنان الذي يعتبر «أرستقراطي» مؤسّسات الدولة لديه دائرة أبحاث وإحصاء لا تنتج الدراسات والأبحاث كغيرها في المصارف المركزية حول العالم. ومثال على ذلك، الأسبوع الماضي أصدر الاحتياطي الفدرالي الأميركي تقريره حول «الحسابات المالية التوزيعية»، وهي قاعدة إحصاءات يصدرها الاحتياطي حول تَوَزّع الأصول والثروة في الولايات المتّحدة. وقد أسمى البعض هذه الإحصاءات على أنها «إدانة للرأسمالية الأميركية» لأنها تبيّن أنه منذ 1989 ازدادت ثروة طبقة الواحد بالمئة بمقدار 21 تريليون دولار بينما انخفضت حصّة الخمسين بالمئة الأدنى في تراتبية الثروة بمقدار 900 مليار دولار.
هنا يكمن التحدّي، فالدولة التي دخلها إلى الفرد أصبح نحو 14 ألف دولار سنوياً، وفي الوقت نفسه تقع في المرتبة الثالثة في الدَّيْن العام في العالم، وتخضع كلّ فترة لعملية إنقاذ مالي (باريس 2، 3، 4)، لا يمكن أن تتذرّع بنقص الموارد في هذا الموضوع. وكمثال على ذلك أيضاً، مصرف لبنان، الذي خلال الحرب الأهلية وبموارد قليلة وتحت الخطر الدائم، كان يصدر الأبحاث والدراسات وينشر للاقتصاديين من خارجه، أكثر بكثير مما يفعله اليوم بكل جيش موظّفيه وبكل المقدرات المالية الهائلة لديه. وهنا، بانتظار أن تفعل الدولة العكس، فالنظرية ذات الأرجحية الأعلى، هي أن الدولة لا تريد أن يعرف الناس المعطيات الحقيقية حول الاقتصاد.
في الأمر الأخير، سأعطي سريعاً مثالين كيف أن أفراداً اقتصاديين، بموارد قليلة، يمكنهم أن يعطونا معطيات حول أمور مهمّة جدّاً.

توزيع الدخل والثروة في لبنان
اليوم نمتلك حسابات وتقديرات للباحثة في مدرسة باريس للاقتصاد ليديا أسود حول توزّع الدخل والثروة. وهي لم تعتمد على أية إحصاءات رسمية نهائية منشورة لاحتساب توزّع الثروة والدخل، وإنّما عبر الاعتماد على مجموعة من الإحصاءات المنشورة من مصادر مختلفة وعلى معطيات ضريبية مايكروية غير منشورة من وزارة المالية. كما اعتمدت على منهجيات مُبتكرة حديثة لجمعها واستخراج معطيات تقديرية حول توزّع الدخل والثروة في الفترة ما بين 2005 و2014. وتبيّن من هذه المنهجية المعيارية، أي أنه يمكن مقارنة نتائجها لتلك حول العالم، إن لبنان يتمتّع بتركّز شديد للثروة والدخل. ومن اللافت، في هذا الإطار، درجة التكتّم حول المعطيات الأساسية (raw data) لمسوحات الأحوال المعيشية من قبل إدارة الإحصاء المركزي التي تقول أسود «إن إدارة الإحصاء المركزي لا تفصح عن المعلومات المنهجية ولا عن المعطيات الأساسية التي استعملت لإصدار الجداول (في المسوحات)». وأن هذا التكتّم والمنع يجب أن ينتهي.

من لبنان... إلى أميركا
طبعاً، إن دور الباحثين في استخراج الاستنتاجات من المعطيات، إن كانت تلك المنشورة (مثل الحسابات التوزيعية المالية للاحتياطي الفدرالي) أو غير المنشورة (مثل المعطيات المالية المايكروية في وزارة المالية اللبنانية)، هو أساسي، خصوصاً في ما يختصّ بالثروة المالية التي يمكن تهريبها وتخزينها في أصقاع العالم ولا سيّما في الملاذات الضريبية. في عدد أخير لمجلّة «بلومبرغ-بزنس ويك»، عنونت «ما اكتشفه عن عدم المساواة يهزّ السياسة والرأسمالية» عن الاقتصادي غابرييل زوكمان وهو «الخبير الأوّل في العالم عن أين يُخبِّئ الأثرياء أموالهم». وقد بَيَّنَ زوكمان، أن أغنياء العالم يُخبئون 7.6 تريليون دولار في حسابات الأوفشور، و80% من تلك الأصول مُخبّئة عن الحكومات ما يؤدّي إلى خسارة 200 مليار دولار سنوياً من الواردات الحكومية.
العائد من استعمال أموال «سيدر» في بناء مقدرة الدولة على التحصيل الضريبي سيكون أعلى من استعمالها في المشاريع العشوائية


قيل مرة لجون ماينارد كينز لماذا غيّرت رأيك؟ فأجاب «عندما تتغيّر الحقائق، أغيّر رأيي. وأنت ماذا تفعل يا سيدي؟». في الاقتصاد، لهذه الحقائق وتغيّرها تأثير على السياسات، التي بدورها لديها تأثير على الحقائق نفسها. الآن في الولايات المتّحدة، وبعد أن تبيّن مدى استفحال عدم المساواة، تتزايد الدعوات إلى تغيير شامل ينعكس في البرامج الانتخابية للمرشّحين الديموقراطيين. بالطبع نحن لا نبحث عن حقائق قد لا يَختلف عليها أحد، لأن بعض هذه الحقائق مثلاً يُبيّن إلى أين تذهب الثروة وكيف يتحوّل الاستحواذ عليها من قِبَل القلّة إلى سيطرة اقتصادية وسياسية، وبالتالي فإنها سُتواجه بشراسة من المدافعين عن الوضع القائم. إذاً لكلّ معطى اقتصادي، بُعْدٌ اجتماعي وسياسي، وهذا يطرح تحدّي العصر على المستوى العالمي بالنسبة إلى الأكثرية ليقرِّروا مستقبلهم كما مستقبل الرأسمالية. وهذا التحدّي أصبح مطروحاً في كلّ مكان، وهنا أستشهد من خطاب لويجي زنغالز في حفل تخرّج جامعة شيكاغو، حيث دعا الخرّيجين إلى أن يكونوا ناشطين اقتصادياً، وأعطى مثالاً على ذلك موقف موظّفي «غوغل»، الذين وقفوا ضدّ استعمال التكنولوجيا في شنّ الحروب. كما دعاهم إلى أن يكونوا ناشطين سياسياً من أجل التغيير مُركِّزاً على الاحتكارات، وكيف أن الاقتصاد الحرّ لا يقدم حلاً لها، بل يأتي الحلّ عبر تدخّل الدولة في تغيير أهدافها من تعظيم أرباح حملة الأسهم إلى «تعظيم الرفاه الاجتماعي» لكلّ المجتمع. وهذا في جامعة كانت معقل «صبية شيكاغو» الذين حوّلوا أميركا اللاتينية إلى اليمين ووضعوا «تعظيم الربح» فوق كلّ اعتبار، ومن ضمنها الديموقراطية. وقال للشباب أيضاً: «العديد منكم يشعر بعدم القوّة فخياراتكم مُحدّدة من عالم بَنَته الأجيال السابقة وهو عالم لا يعجبكم، ولكن تشعرون أنكم غير قادرين على تغييره. لحسن الحظ هذا غير صحيح فلديكم الكثير من القوّة». اليوم، هذه القوّة بدأت تظهر حول العالم، وأمام أجيالنا الشابّة في لبنان تحدٍّ هو نفسه كما في شيكاغو، واليوم هو يوم الانخراط فيه.