قبل فترة قصيرة، لم تكن الشابّة آلاء صالح معروفة على الإطلاق، إلّا أنها تحوّلت إلى أيقونة للانتفاضة السودانية. لقد أسهمت هذه الطالبة في إعادة الأضواء إلى الانتفاضة السودانية التي انطلقت أواخر العام 2018، والأهمّ إلى دور المرأة السودانية البارز فيها، والمدفوع من عداء نساء السودان للنظام الحاكم، لا بسبب ترابطه مع الأطر الاجتماعية والقبلية والثقافية السائدة فقط، أو علاقة المرأة كمواطنة بهوية النظام السوداني العسكرية والدينية والرأسمالية فحسب، بل لانعدام إمكانية فصله أيضاً عن الأزمة البنيوية للاقتصاد السوداني والتي تتمثّل في انهيارات مُتتالية عانت منها البلاد منذ تسعينيات القرن الماضي.يعيش السودان أزمات اقتصادية مُتتالية ومُستمرّة، منذ عقود، راكمت ظواهر عديدة من عوامل عدم الاستقرار، وأبرزها ارتفاع حدّة الفقر ومعدّلات البطالة والتضخّم في البلاد. فعلى الرغم من الموارد الكثيرة التي يتمتع بها السودان، لم يحل ذلك دون بروز معالم الفشل الاقتصادي، التي ألقت أعباءً إضافية على الشعب السوداني عموماً والنساء خصوصاً.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

حالياً، يصنّف السودان من البلدان المُدقعة الفقر، فهو يحتلّ المرتبة الـ165 ضمن 188 دولة على مؤشّر التنمية البشرية. وأكثر من 50% من السودانيين، أي نحو 15 مليون شخص، يعيشون تحت خطّ الفقر، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة الإنمائي. وتصل بطالة الشباب إلى 20.6% وفقاً لصندوق النقد الدولي. ويبلغ معدّل التضخّم نحو 63.86% وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء السوداني.

جذور أزمة بنيوية في الاقتصاد
ترتبط هذه المؤشّرات بعوامل بنيوية تعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي، ووصلت إلى حدودها القصوى في السنوات الأخيرة، وأنتجت الانتفاضة التي انطلقت أخيراً. ويمكن إيجازها بالتالي:
■ حروب الشمال والجنوب: تفاقمت الأزمة في ظلّ المعارك المُتكرّرة بين الشمال والجنوب قبل الانفصال في عام 2011، والنزاعات الأهلية المتقطّعة في الأقاليم السودانية منذ عام 1955 والمستمرّة حتّى اليوم، لا سيّما في إقليم دارفور... هذه الحروب أدّت إلى زيادة الإنفاق على التسلّح، وبالتالي استنزاف ميزانية السودان وضرب ركائز الاستقرار فيه، وفرض سياسات تقشّفية انعكست على قطاعات إنتاجية ومعيشية، فضلاً عن استنزاف الكثير من الطاقات الشابّة التي تخلّت عن العمل في مرافق اقتصادية أساسية وانخرطت في القتال.
■ العقوبات الاقتصادية: فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية مُتتالية على السودان انعكست على اقتصاده المحلّي. تقدّر الخسائر الناجمة عن العقوبات الأميركية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي بنحو 50 مليار دولار، إذ أعاقت التجارة الخارجية ووضعت قيوداً على التعاملات المالية ومنعت استيراد قطع الغيار الأساسية لقطاعي الصناعة والنقل، وشلّت خطوط سكّة الحديد والطائرات. وأدّت العقوبات الأوروبية وتجميد أصول السودان الخارجية إلى تراجع قيمة العملة وترتيب آثار بالغة على الاقتصاد السوداني الهشّ في الأساس. كذلك أضرّت العقوبات بالصناعات البترولية والبتروكيماوية نتيجة منع الشركات الأميركية والأوروبية من العمل في السودان وتقديم خدماتها.
يعيش السودان أزمات اقتصادية مُتتالية منذ عقود راكمت عوامل عدّة من انعدام الاستقرار


■ تفشّي المرض الهولندي: بين عامي 1999 و2011، بدأ السودان بعمليّات الاستكشاف والتنقيب عن النفط التي درّت نحو 70 مليار دولار. إلّا أن هذه العائدات شكّلت بداية الإصابة بالمرض الهولندي، عبر ضرب القطاعات الإنتاجية، ولا سيّما الزراعة، وتشكيل اقتصاد ريعي يعتمد في نموّه على صادرات البترول. في الواقع، تعدّ الزراعة القطاع الاقتصادي الرئيسي في السودان. ووفقاً للمنظّمة الدولية للغذاء والزراعة (FAO)، كانت تسهم في نحو 39% من الناتج المحلّي، وتشغّل أكثر من ثلث القوى العاملة، وتنتج 75% من الصادرات السودانية، إلّا أن حصّتها من الصادرات انخفضت إلى 30% في العام 2014 مع بدء تصدير النفط. لقد أدّت السياسات الحكومية إلى إهمال الزراعة وتراجعها وقتل فرص بناء قطاعات إنتاجية أخرى، إذ لم تخصّص جزءاً من عائدات النفط لتطويرها والاستثمار فيها، بل تركّز الإنفاق على التسلّح، وتنفيع المنظّمات والفئات المرتبطة بالنظام ليتمكّن من إحكام قبضته. في النتيجة، تبدّدت العائدات النفطية من دون بناء أسس اقتصاد مستدام. وعندما انفصل الجنوب عن الشمال، شهد السودان الطور الأبرز من الانهيار الاقتصادي، خصوصاً أن معظم آبار النفط موجودة في القسم الجنوبي، فخسر السودان نحو 55% من عائداته المالية، وثلثي عائدات النقد الأجنبي، وفقاً لصندوق النقد الدولي.

الاقتصاد الزراعي والمرأة السودانية
تزامن تراجع القطاع الزراعي وتربية المواشي والنقل مع موجات من الجفاف، فازدادت هجرة الرجال من الأرياف إلى المدن أو إلى الخارج بحثاً عن عمل. وفي الريف الجنوبي انخرط عدد كبير من الرجال في القتال، فمات العديد منهم أو أصيبوا بالإعاقات الجسدية. نتيجة ذلك، تبدّلت الأدوار الاجتماعية والاقتصادية، إذ اتجهت النساء للاهتمام بالأرض وزراعتها، ووصلت نسبة النساء المعيلات للأسر إلى 35% وفق منظّمة FAO، وبالتالي ازدادت مسؤوليّات المرأة داخل المنزل وخارجه، وتفاقمت الأعباء المُلقاة على عاتقهن بعد تدنّي الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية والبنيات المعيشية الأساسية في الريف.
حالياً، تعدّ النساء المُنتج الفعلي في المجال الزراعي في الريف السوداني، إذ يقمن بمعظم العمليات الزراعية، كالفلاحة وحصاد المحاصيل وجمع العائدات المالية من عملية البيع. وبالاستناد إلى دراسة نشرتها مجلّة «دراسات العلوم الزراعية والتكنولوجية» في العام 2012 حول دور النساء في القطاع الزراعي والأمن الغذائي في السودان، تبلغ مساهمة النساء نحو 74% من العائدات الشهرية للزراعة، ويعملن بمعدّل 14 ساعة يومياً وبمداخيل متدنية جدّاً، أو من دون أجر وأي ضمان اجتماعي لقاء عملهن ضمن الأسر الزراعية. وقد وصلت مشاركتهم في العمل ضمن المزارع التي تزيد مساحتها على 5 فدادين إلى 82% في العام 2015 وفق منظّمة العمل العربية، وبتن يسهمن بنسبة 35% في قطاع الصناعات الغذائية التي لا تستفيد من أي دعم حكومي لتطوير آلياتها الإنتاجية. ويضاف إلى ذلك، تعرّض النساء لمزيد من الاستغلال نتيجة محدودية ملكيّتهن للحيازات الزراعية وصولاً إلى انعدامها، في مقابل تركّز عددهن الأكبر، وبنسبة تصل إلى 80%، في العمل في الأراضي المطرية التقليدية المملوكة من البلديات المحلّية وفقاً لمنظّمة FAO.
وأيضاً تبرز مشكلة تمثيل النساء الضئيل في المؤسّسات التي تعنى بالإدارة الزراعية ورسم سياساتها، وهو ما يقصيها عن أي مشاركة في عمليّة صنع القرارات التي تتحكّم في نمط عيشها ومصدره. فنسبة مشاركة النساء في مكتب التخطيط الاقتصادي والاستثمارات تصل إلى 13%، ولا تتجاوز 5% في وزارة الزراعة، و1.6% في وزارة التخطيط والإحصاء، و10% في البنك الزراعي السوداني.

لماذا انخرطت النساء في الانتفاضة؟
في العام 2017، وضعت الحكومة السودانية موازنة فئوية لا تأخذ في الحسبان الوضع المتردّي الذي أنهك الشعب السوداني. وتبع ذلك تراجع كبير للجنيه السوداني مقابل الدولار. ومع نهاية العام 2018 باتت الدولة عاجزة عن توفير الخبز والوقود مع ارتفاع ملحوظ في الأسعار، فبدأت بتخفيض الدعم وتقليل حصص الخبز والوقود في العديد من الولايات، وفي العاصمة لاحقاً. وقد أدّت هذه الإجراءات إلى إطلاق شرارة الاحتجاجات التي عمّت المناطق كافة.
خلف هذا المشهد، تبرز أسباب أخرى أوصلت إلى الانفجار. فقد فشلت الدولة السودانية في إدارة مرافقها العامّة ومواردها، وشهدت البلاد توجّهاً نحو الاقتصاد الحرّ، وهو ما تمّت ترجمته بخصخصة المرافق العامّة الناجحة والمُنتجة، من دون أي مبرّر وبموجب عقود خلت من الشفافية. وقد أدّت هذه الخطوة إلى تسريح آلاف العمّال والموظّفين، وشلل هذه المؤسّسات وتراجعها عن أداء الخدمات العامّة المنوطة بها، لمصلحة انتفاع قلّة واغتنائها على حساب الغالبية التي راكمت مستويات حادّة من الفقر. ومن جملة ما أضعف الاقتصاد الرسمي، نشأة اقتصاد موازٍ أثناء العزلة المالية التي أنتجها الحصار، إذ لم تتمكّن وزارة المال السودانية من متابعة تحويلات المهاجرين وإدارتها بعلم وتواطؤ شخصيات نافذة في النظام.
وبعد رفع الحصار في العام 2017، لم يتحسّن الوضع النقدي، إذ بادرت الحكومة السودانية، من أجل الحدّ من تجارة العملة غير الرسمية، إلى الحدّ من المخزون/ المعروض النقدي في السوق، وهو ما انعكس على المواطنين وسهولة سحب رواتبهم وإيداعاتهم. وفي موازاة ذلك، ارتفع معدّل التضخّم نتيجة الإفراط في طبع العملة لتغطية الفجوة الحادّة في النقد. وللفساد الإداري والرسمي دور لا يستهان به في إيصال الحال إلى ما هو عليه، إذ يحلّ السودان في المرتبة الـ13 على مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية لعام 2018.
هذا الواقع المتردّي فرض نفسه بقوّة على النساء، خصوصاً مع تنامي حدّة عدم المساواة في الأرياف، والتي كان لها أثر بالغ عليهن، سواء في الجوانب المهنية أو الأسرية أو في الشأن العام. ومع تراجع قيمة الجنيه السوداني، وارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن المواد الأساسية، بِتنَ يعانين من ضغوط معيشية هائلة، خصوصاً أن الوظائف المُتاحة لهن هي في غالبيتها ذات أجور متدنيّة وفي القطاع غير النظامي. على ضوء ذلك، انضمّت النساء بزخم غير مسبوق إلى التظاهرات التي شهدتها البلاد، علماً بأنهن قبل ذلك قمن بتحرّكات من أجل حماية الحقوق الاقتصادية للأمّهات العاملات والحفاظ على وظائفهن، لا سيّما أن قانون العمل يميل لمصلحة العمّال الرجال لجهة التقديمات والامتيازات الوظيفية.
في الواقع، لقد أدّت السياسات التي انتهجها النظام إلى تقليص فرص النساء وإمكانية بناء اقتصاد مستدام وتعزيز التنمية، وهو ما خلق تحدّياً للنساء اللواتي يعانين من الوطأة المالية وتحمّل المسؤولية الاجتماعية خارج المنزل وداخله، وعمّق الهوة بينهن وبين النظام الذي ينتهج رؤى اقتصادية فئوية وعقيمة. في مطلع نيسان/ أبريل الماضي، تسلم العسكر الحكم، وهو ما لا يبعث بأي مؤشّر لأي تغيير محتمل، خصوصاً أن أول الإجراءات التي قام بها كان استخدام الرصاص الحيّ لقمع التظاهرات المستمرّة حتّى اليوم، ما أدّى إلى قتل متظاهرة شابّة تبلغ من العمر 17 عاماً في الخرطوم. وهو ما يفتح باب مشاركة النساء على كل الاحتمالات، ويبقي الأسئلة المنوطة بأفق التغيير الاقتصادي والاجتماعي في البلاد رهن سيناريو غير واضح.

باحثة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت