تأثّر الاقتصاد اللبناني بشكل كبير بتحويلات المهاجرين اللبنانيين، ففي حين مثّلت طوق النجاة للكثير من الأسر المقيمة في لبنان ومكّنتها من الاستهلاك بمستوى أعلى مما يتيحه دخلها المُنتج محلّياً، لعبت السياسات المُعتمدة دوراً سلبياً في تحويل منفعتها الإجمالية إلى السلبية بدلاً من الإيجابية. فهذه التحويلات التي تشبه الهدايا في الاقتصاد، لم تُستثمر في الاقتصاد الحقيقي بل جرى توظيف الجزء الأكبر منها في استهلاك الأسر، أو في الودائع المصرفية، أو في سوق العقارات والمساكن.وفقاً لإحصاءات مصرف لبنان التي تستعرضها دراسة «ماكينزي»، استقطب لبنان بين عامي 2005 و2015 نحو 184 مليار دولار من التدفّقات الخارجية، شكّلت تحويلات المهاجرين اللبنانيين نحو 99 مليار دولار منها (54%)، في مقابل 85 مليار دولار (46%) تدفّقات مالية من الأجانب غير المقيمين في لبنان.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في هذا الوقت، أي بين عامي 2005 و2015، سجّل لبنان عجزاً في الميزان التجاري بقيمة 100 مليار دولار، ويعني هذا العجز أننا اشترينا من الخارج سلعاً أكثر بهذه القيمة ممّا بعناه، وبالتالي اضطررنا إلى دفع هذه القيمة بالعملة الصعبة إلى مصدّري هذه السلع في الخارج. وشهد لبنان أيضاً في هذه الفترة، تدفّقات معاكسة من المقيمين في لبنان نحو الخارج بقيمة 53 مليار دولار، ناتجة من ارتفاع تحويلات العمّال الأجانب من لبنان إلى أسرهم في الخارج، وتنامي مدفوعات الفائدة على ودائع غير المقيمين والقروض الخارجية. في الحصيلة، بلغ عجز الحساب الجاري مع الخارج نحو 153 مليار دولار في الفترة المذكورة، أي إن الاقتصاد اللبناني كان مُضطراً لتحمّل كلفة باهظة من أجل تأمين هذه الكمّية من الدولارات وتسديدها إلى الخارج.
في الواقع، يعبّر هذا العجز عن ضعف الاقتصاد اللبناني واختلالاته البنيوية، ولا سيّما لجهة ارتكازه في نموّه على محرّك الاستهلاك، والاتّكال على تحويلات المهاجرين لتمويل هذا الاستهلاك، وهو ما أدّى إلى تحفيز الاستيراد لتلبية تزايد الطلب الاستهلاكي.
في الفترة الماضية، كان يتمّ سدّ العجز مع الخارج من خلال استقطاب التدفّقات الخارجية. وقد بلغت التدفّقات المالية من غير المهاجرين اللبنانيين نحو 85 مليار دولار، في حين بلغت تحويلات المهاجرين اللبنانيين نحو 99 مليار دولار، ما أدّى إلى تمويل العجز التجاري وتسجيل فائض تراكمي في ميزان المدفوعات بقيمة 32 مليار دولار في الفترة نفسها بين عامي 2005 و2015.
استقطب لبنان بين عامَي 2005 و2015 نحو 184 مليار دولار من التدفّقات الخارجية


شكّلت تحويلات المهاجرين المالية المباشرة إلى أسرهم المقيمة في لبنان نحو 65% من مجمل تدفّقاتهم المالية إلى لبنان، وبلغت قيمتها 64 مليار دولار، تليها ودائعهم إلى القطاع المصرفي التي بلغت 22 مليار دولار، ومن ثمّ إنفاقهم على السوق العقارية التي استقطبت 8 مليارات دولار، وأخيراً إنفاق المهاجرين اللبنانيين على السياحة الذي استحوذ على 5 مليارات دولار من مجمل هذه التدفّقات في الفترة المذكورة.
هذا النموذج يتعرّض لأزمة جدّية، ظهرت معالمها بوضوح منذ عام 2011، إذ بدأ ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً تراكمياً لسنوات متتالية، وهي الحالة التي لم يشهدها لبنان حتّى في الحرب (1975-1990)، ويتراجع أيضاً صافي تحويلات المهاجرين (أي التحويلات الداخلة ناقص التحويلات الخارجة)، وكذلك ينخفض معدّل نموّ ودائع غير المقيمين في المصارف اللبنانية، وتتقلّص قيمة الخدمات المصدّرة كثيراً، ولا سيّما خدمات السياحة، ولا تزال أوضاع السوق العقارية متدهورة وتفقد جاذبيتها... بمعنى ما، لم نعد قادرين على تأمين الدولارات التي نحتاج لها لتمويل الاستيراد وتسديد الفوائد للمودعين غير المقيمين والدائنين الأجانب، فكمّية الدولارات التي تخرج من لبنان منذ عام 2011 هي أكبر بكثير من كمّية الدولارات التي تدخل إليه، ولم تنفع الهندسات المالية المُكلفة التي قام بها مصرف لبنان مع المصارف في جذب المزيد من الدولارات إلى لبنان، وكذلك لم ينفع رفع سعر الفائدة، في حين أن التوقّعات تشير إلى مرحلة تباطؤ في نموّ الاقتصاد العالمي طويلة الأمد، وظروف اقتصادية غير مؤاتية في الأماكن التي يهاجر إليها اللبنانيون بحثاً عن عمل.
لم تقارب الحكومة هذه المعضلة في مشروع موازنة عام 2019، بل قفزت فوق هذه المعطيات، وأمعنت في طرح التقشّف وتخفيض العجز المالي كأولوية مطلقة، على الرغم من أن معظم الاقتصاديين يتّفقون على أن هذه السياسات قد تعمّق الأزمة، كونها تكبح النموّ الاقتصادي وتزيد اللامساواة في توزيع الدخل، وفي الوقت نفسه تجرِّد المجتمع اللبناني من سلاحه الوحيد في مواجهة هذه المعضلة، والمتمثّل بتدخّل الدولة وإنفاقها العام ونظامها الضريبي.