«كل الأشياء سامّة، لا يوجد شيء لا يحتوي على سمّ. ولكن مقدار الجرعة هو الذي يجعل الأشياء سامّة أو غير سامّة»
(باراسيلسوس)


تعرّضت النظرية النقدية المعاصرة في الأسابيع الأخيرة لانتقادات شديدة، قادها خبراء الاقتصاد الكلّي بول كروغمان وكينيث روغوف ولاري سمرز. وكانت ردّة الفعل مفاجئة، لأن جوهر النظرية النقدية المعاصرة يمكنه أن يتقاطع بسهولة مع المبادئ القياسية للاقتصاد الكلّي.
تقليدياً، موّلت الحكومات عجزها عبر إصدار سندات بيعت في سوق رأس المال. ولكن إذا ركّزنا على الجانب الخاص بالاقتصاد الكلّي في النظرية النقدية الحديثة - واضعين جانباً الاقتراح المرتبط به والخاص بضمان التوظيف الشامل - نجد أن فكرتها الأساسية تقوم على إمكانية تمويل العجوزات الحكومية مباشرة من البنك المركزي.
يمكن تفسير الالتباس بأنه حتى الآن لم يتمّ تقديم آليات النظرية النقدية الحديثة ضمن نموذج بسيط للاقتصاد الكلّي. علماً بأن إطار العمل الذي يتيح وصف الآلية الأساسية للنظرية وارد في دليل ما يُعرف بنموذج «IS/LM» (أي العلاقة بين الاستثمار والادخار/ العلاقة بين تفضيل السيولة والمعروض النقدي).
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يتشكّل هذا النموذج من سوقين: سوق كلّية للسلع (العلاقة بين الاستثمار والادخار أو منحنى IS) وسوق مالية كلّية (العلاقة بين تفضيل السيولة والمعروض النقدي أو منحنى LM). وتُحدّد نقطة التوازن بينهما عند عائد كلّي معيّن (محور أفقي) ومعدّل فائدة معيّن (محور عمودي).
إذا افترضنا أن العجز سببه الإنفاق الحكومي الإضافي، فإن ارتفاع الطلب على السلع سيدفع منحنى IS إلى اليمين (الرسمان 1 و2). وهذا التأثير مستقلّ عن مسألة تمويل العجز. فإذا تمّ تمويل الأخير بشكل تقليدي، من خلال إصدار سندات، فإن المعروض النقدي يبقى ثابتاً وكذلك منحنى LM. وبالتالي، بالتوازي مع التحوّل التصاعدي في منحنى IS، يرتفع معدل الفائدة (الرسم 1) وتُزاحم النفقات العامّة المرتفعة الاستثمارات الخاصّة.
في حالة النظرية النقدية الحديثة - حيث الإنفاق يموّل مباشرة من البنوك المركزية - يتغيّر منحنى LM أيضاً. لنفترض أن الحكومة تريد دفع فاتورة لشركة بناء. عندها تقوم بتحويل المال من حسابها في البنك المركزي إلى حساب الشركة في بنك تجاري. هذا التحويل يزيد احتياطات ذلك البنك وكذلك ودائع شركة البناء. وهكذا، ترتفع القاعدة النقدية (احتياطات البنوك التجارية في البنك المركزي) والمخزون النقدي M1 (ودائع الأسر أو الشركات في البنوك التجارية). في نموذج IS/LM، تسبّب الزيادة في المخزون النقدي انحداراً إلى الأسفل في منحنى LM.
بشكل عام، يزيد التمويل المباشر للبنك المركزي من الآثار التوسّعية للإنفاق الحكومي الإضافي (الرسم 2). فهو يجنّب، على الأقل جزئياً، ارتفاع أسعار الفائدة الناجم عن تمويل سوق رأس المال (منحنى LM ثابت) في هذا النموذج يمكن جزئياً على الأقل تجنّب المزاحمة المالية مع المستثمرين من القطاع الخاص التي يخشاها كروغمان (LM1). واعتماداً على مدى التحوّلات في منحنى IS وLM، يمكن تجنّب المزاحمة بالكامل (LM2) ما ينتج عنه حتى انخفاض سعر الفائدة (LM3)، وبالتالي المزيد من الاستثمار الخاص. وتناول آبا ليرنر مبتكر «التمويل الوظيفي» في عام 1943 بشكل صريح احتمال حصول «مزاحمة».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وإذا فسّرناه بهذه الطريقة، فإن التمويل بناءً على النظرية النقدية الحديثة لا يختلف جذرياً عن السياسة النقدية المُتّبعة في اليابان منذ سنوات عديدة. فهناك، موّلت الحكومة العجوزات الهائلة بشكل تقليدي، حيث أصدرت سندات سيادية في سوق رأس المال. ومن خلال شراء البنك المركزي هذه السندات من جهات غير مصرفية - شركات تأمين مثلاً - في إطار برامجه الكبيرة للتسهيل الكمّي، ولّد زيادة في المعروض النقدي (ودائع مصرفية أعلى لجهات غير مصرفية) وفي القاعدة النقدية (احتياطات أعلى للمصارف التجارية في البنك المركزي كنتيجة طبيعية لالتزاماته المتزايدة مع الجهات غير المصرفية).
هذا المزيج من التمويل التقليدي للعجز من سوق رأس المال مع عمليات الشراء التي يجريها البنك المركزي في إطار التيسير الكمّي، يقود إلى النتيجة نفسها، كما تمويل العجز مباشرة من البنك المركزي والذي يؤيّده داعمو النظرية النقدية الحديثة. أي انحدار إلى الأسفل في منحنى LM.
نتيجة شراء السندات من جهات غير مصرفية، حقّقت البنوك المركزية توسّعاً في المخزون النقدي أبقى أسعار الفائدة منخفضة


بالطبع، يمكن طرح التمويل بناء على النظرية النقدية الحديثة في سياق منحنى LM أفقي، والذي يعني أن يستهدف البنك المركزي معدّل الفائدة. في هذه الحالة، يكون على البنك المركزي تجنّب تأثير زيادة التمويل بناء على النظرية النقدية الحديثة على القاعدة النقدية والمعروض النقدي. ويتطلّب ذلك من البنك المركزي بيع سندات لجهات غير مصرفية وهو ما يمكن اعتباره تيسيراً كمّياً عكسياً. ومع هذه السياسة، يمكن تجنّب المزاحمة المالية مع الاستثمار الخاص.
وكما في إطار أي علاج كذلك في نظرية النقد الحديثة، فإن مقدار الجرعة يحدّد السمّ. ويوضح المثال الياباني كيف يمكن تنفيذ مثل هذه السياسة حتى بجرعة عالية إلى حدّ ما من دون التسبّب بالتضخّم. فالواقع، أن اليابان لا تزال تعيش حالة انكماش. وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن هناك مطلقاً أي دليل على أن الارتفاع القياسي للدَّيْن الحكومي كان له تأثير ضارّ على ثقة المستثمرين الدوليين في العملة اليابانية. بل على العكس، كان سعر الصرف قوياً جدّاً معظم الوقت بدلاً من أن يكون ضعيفاً للغاية.
تختلف النظرية النقدية الحديثة في جوهرها عن سياسة الاقتصاد الكلّي التي تعتمدها اليابان منذ سنوات فقط، لجهة أنها تنصّ على اقتران السياسة النقدية التوسّعية بسياسة مالية توسّعية. ولكن في اليابان، تُنفّذ السياستان بشكل منفصل وإن بطريقة منسّقة بعض الشيء.

عدائية مفاجئة
إذا ما أخذنا هذه النظرة الرصينة إلى التمويل بناءً على النظرية النقدية الحديثة، من المفاجئ أن اقتصاديين كبار ردّوا بعدائية على هذا المفهوم. فوصفها روغوف بـ«الهراء»، ونقل عن رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول قوله إنه «من الخاطئ باعتقادي اعتبار أن العجز غير مهمّ بالنسبة إلى الدول التي يمكنها الاقتراض بعملتها الخاصّة»، وأضاف أن الفكرة عن العجز «سخيفة».
ولكن المسألة دائماً ترتبط بالجرعة المناسبة. ففي فترة 2009 - 2012 عانت اليابان والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة من عجز كبير للغاية، كان واضحاً أنه لم يكن مهمّاً بالنسبة إليها. ومع عمليّات شراء ضخمة للسندات من جهات غير مصرفية، حقّقت البنوك المركزية في هذه البلدان توسّعاً موازياً للمخزون النقدي أبقى أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة للغاية.


مع النموذج البسيط المطروح هنا، يمكننا أيضاً أن نجيب على السؤال الذي طرحه كروغمان: كيف ستؤدّي السياسة المالية التوسّعية إلى خفض أسعار الفائدة وليس رفعها؟ فالتحوّل في منحنى LM هو المهمّ. كما أن النموذج يوضح أن لا ضرورة للمفاضلة بين السياسة النقدية والسياسة المالية، إذ يمكن تحويل المنحنيين بشكل مستقلّ.
من جانبه يعتبر سمرز النظرية النقدية الحديثة «وصفة لكارثة». ويشير إلى التجارب القاتمة لاقتصادات السوق الناشئة، فـ«كما توضح تجربة عدد من الأسواق الناشئة، فإنه بعد نقطة معيّنة، يؤدّي هذا النهج إلى تضخّم مفرط»، وكذلك يشير إلى تجربة فرنسا في النظام النقدي الأوروبي في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. ولكن الأكيد أنّ مفهوم الإنفاق على العجز في النظرية النقدية الحديثة لا ينطبق إلّا على الاقتصادات الكبيرة للغاية التي تملك نظاماً مرناً لسعر الصرف.
ويذكر أيضاً مشاكل إيطاليا والمملكة المتّحدة في السبعينيات. فقد زاد عجز هذه البلدان في وقت كانت فيه معدّلات التضخّم مرتفعة للغاية (11% في إيطاليا، و9% في المملكة المتّحدة في عام 1973). إذاً لا ينبغي تطبيق النظرية النقدية الحديثة سوى في بيئة منخفضة التضخّم.
اليوم، بالإضافة إلى اليابان، فإن أفضل مثال على الإنفاق الفعّال للغاية على العجز وفقاً للنظرية النقدية الحديثة، هو الصين. إذا أخذنا العجز الذي يشمل اقتراض الحكومات المحلّية وليس العجز المالي الرسمي، فقد حافظ هذا البلد لسنوات على عجز يزيد عن 10%. وحتى الآن، لا توجد علامات على أن الصين يجب أن تقلق بشأن ذلك.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

على الرغم من هذا السجال حول النظرية النقدية الحديثة، على المنتقدين والمؤيّدين أن يتفقوا على نقطتين:
أولاً أن الإجماع ممكن حول الفكرة الأساسية للتمويل الوظيفي كما طرحه ليرنر، إذ تقوم الفكرة الأساسية على أنّ السياسة المالية للحكومة وإنفاقها وضرائبها واقتراضها وإعادة سدادها للقروض، وإصدارها أموالاً جديدة وسحبها للأموال، يجب أن تتمّ مع مراعاة نتائج هذه الإجراءات على الاقتصاد وليس وفقاً لعقيدة ثابتة لما هو سليم وما هو غير سليم. تمّ تطبيق مبدأ الحكم فقط بناءً على التأثيرات، في العديد من المجالات الأخرى للنشاط البشري، حيث يُعرف بالأسلوب العلمي بدلاً من الأسلوب الكلامي.
ثانياً، يجب أن يكون الجانبان قادرَين على الاتفاق على أن الجمع بين السياسة المالية التوسّعية والسياسة النقدية التوسّعية هو أداة قويّة للغاية ينبغي استخدامها إذا لزم الأمر والتعامل معها بعناية فائقة. ومجدّداً: إنّ مقدار الجرعة هو الذي يحدّد السمّ.

Social Europe
ترجمة لمياء الساحلي

بيتر بوفينغر: أستاذ في الاقتصاد في جامعة وورزبورغ وعضو سابق في المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين.