تعود أزمة الثقة في السياسة والسياسيين إلى تآكل الخدمات العامّة بفعل ذهنية تحقيق المكاسب الخاصّة.لا شكّ في أن العالم الغربي يمرّ بأزمة سياسية خطيرة، أفضل ما يمكن وصفها به، أنها أزمة ثقة في مؤسّساته السياسية وحكوماته.
ولكن غالباً ما يُتجاهَل أمران: أوّلاً، أن أزمة الثقة في المؤسّسات ليست حكراً على الغرب، بل هي أزمة عامّة. ولكن الأزمة في الغرب تحظى باهتمام أكبر، لأن الإعلام الغربي هو المُسيطر، ولأنه كان يفترض بالمجتمعات الليبرالية الأكثر تقدّماً من الناحية الاقتصادية، ألّا تعاني من مثل هذا الانفصال بين الحاكم والمحكوم.
ثانياً، أن الأزمة قديمة، فهي تعود إلى ما قبل الأزمة المالية في عام 2008 والضائقة التي خلقتها العولمة. يمكن القول إن مصدرها هو «النجاح» المثير للإعجاب وغير المتوقّع بعض الشيء في إدخال العلاقات الرأسمالية إلى جميع جوانب الحياة، بما في ذلك الحياة الخاصّة والأهمّ إلى السياسة.
حظيت الثورات النيوليبرالية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، المرتبطة بالرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، من دون أن ننسى الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ، بدعم من ثورات فكرية اقتصادية، مثل نظرية الخيار العام والليبرالية، بدأت بشكل صريح في التعامل مع السياسة على أنها امتداد للاقتصاد اليومي. وكان يُنظر إلى السياسيين على أنهم مجرّد مجموعة أخرى من روّاد الأعمال الذين انتقلوا إلى السياسة بدلاً من أخذ مهاراتهم وروح المجازفة لديهم إلى القطاع المصرفي أو تطوير البرمجيّات. وكان يعتقد أنّ من الطبيعي ألّا يقتصر السلوك العقلاني والذاتي الموجّه نحو تحقيق الأهداف، على المجال الاقتصادي، بل كان أكثر عمومية واعتنق السياسة أيضاً.

نظرة مبرّرة
وبشكل مثير للدهشة بُرِّرَت هذه النظرة إلى العالم. فلم يكتفِ السياسيون بخدمة مصالحهم الخاصة (الأمر الذي فعلوه في الماضي على الأرجح أيضاً)، بل أصبح ذلك متوقّعاً. ومتوقّعاً لا يعني بالضرورة مقبولاً، بل متوقّعاً بمعنى أنْ ليس غريباً أو غير اعتيادي أن يفكّر السياسيون أوّلاً وأخيراً بمصالحهم السياسية. فصار بإمكانهم الاستفادة من نفوذهم وعلاقاتهم التي كسبوها من موقعهم السياسي لإيجاد وظائف مربحة في القطاع الخاص (جوزيه مانويل باروسّو وتوني بلير وجيم كيم من البنك الدولي)، وأصبحوا يلقون خطابات بملايين الدولارات لمصلحة الشركات الكبرى (باراك أوباما وبيل كلينتون وهيلاري كلينتون). وأصبحوا أعضاء في مجالس إدارة عدد كبير من الشركات.

سيلفانو ميللو ــ البرازيل

والبعض الآخر الآتي من القطاع الخاص (سيلفيو برلسكوني وثاكسين شيناواترا) أصبح يروّج للانضمام إلى حزبه باعتباره منظّمة زبائنية: إن كان لديك مشكلة تريد حلّها، انضمّ إلى حزبنا. أذكر أنّي رأيت في شوارع ميلانو مثل تلك الإعلانات لحزب برلسكوني «إيطاليا إلى الأمام»، وهو تيّار يفتقر إلى الإيديولوجيا، عدا عن خدمة المصلحة الخاصّة الاقتصادية، وهو ما ينعكس في اسمه المبتذل المستوحى من مشجّعي كرة القدم الذين يدعمون فريق إيطاليا.
وتطول لائحة السياسيين الذين جعلوا جني الأرباح لهم (ولمناصريهم) الوظيفة الطبيعية للإنسان الاقتصادي بمجرّد تبوئهم منصباً سياسياً. ونعرف بعضاً من أشهر أعضائها - غالباً من طريق الخطأ - حين يبالغون في ممارساتهم إلى درجة يصعب عليهم إخفاؤها، فنعرفهم من خلال الفضائح المالية وأحكام السجن. ومن الأمثلة اثنان من آخر ثلاثة رؤساء برازيليين، سُجنا بتهمة الرشوة، وجميع رؤساء البيرو السابقين المسجونين بتهم الفساد، أو الذين يخضعون للتحقيق، أو فرّوا من وجه العدالة. وكذلك ابنة رئيس أوزباكستان الراحل التي سجنت بتهمة اختلاس مليارات الدولارات. ويحوم شبح المحاكمة على ابنة الرئيس الأنغولي السابق ورئيسة مجلس إدارة شركته النفطية الحكومية وأغنى سيّدة في إفريقيا في حال عودتها إلى البلاد.
في أوروبا، خضع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي للتحقيق في صلاته بفضائح مالية، أخطرها التي أشارت إليها تقارير عن حصوله على دعم مالي غير شرعي لحملته الانتخابية في عام 2007 من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وكان على المستشار الألماني هلمت كول أن يستقيل من منصبه رئيساً فخرياً للاتحاد الديموقراطي المسيحي في عام 2000 بعد الكشف عن وجود حسابات مصرفية حزبية أشرف عليها.
من جانب آخر، رفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الكشف عن عائدات ضرائبية لسنوات عدّة، وأخفق في وضع أعماله التجارية في صندوق ائتماني أعمى لإدارتها بالوكالة، وذلك بهدف عزله عن الإغراءات الخارجية. أما نظيره الروسي فلاديمير بوتين، فاستطاع أن يحوّل نفوذه السياسي إلى ثروة تفوق راتبه الأساسي كرئيس.

السياسة مجرّد مجال آخر من الأعمال
وبالفعل، ألصق السياسيون في الشرق والغرب والشمال والجنوب بـ«الإمبريالية الاقتصادية» النيوليبرالية فكرة أن جميع الأنشطة الإنسانية تحرّكها الرغبة في تحقيق النجاح المادي، وبأن النجاح في جني الأموال مؤشّر على قيمتنا الاجتماعية، وأن السياسة ليست سوى مجال آخر من الأعمال.
المشكلة في هذه المقاربة، المطبّقة على المجال السياسي، أنها مثار سخرية بين الناس، لأن الخطاب الرئيسي للسياسيين يجب أن يتمحور حول المصلحة العامة والخدمة العامة، ولكن الواقع والتبرير الأيديولوجي لهذا الواقع مختلفان كلياً. وهذا الاختلاف من السهل رصده. لذلك، يصبح كل مسؤول حكومي منافقاً بنظر الناس، إذ يخبرنا أنه هنا خدمة للمصلحة العامة، بينما من الواضح أنه دخل المضمار السياسي لملء جيوبه الآن أو في المستقبل - أو إن كان ثرياً من الأساس فلضمان ألّا تتخذ قرارات سياسية ضد «إمبراطوريته».
لذلك، هل سيكون غريباً ألّا يحظى السياسيون وكل ما يرتبط بهم بأي ثقة؟ هل غريب أن كل عمل يقومون به سيعتبر مدفوعاً بمصلحة شخصية أو تمليه اللوبيّات؟ في الواقع، تخبرنا ثورة السوق في ثمانينيات القرن العشرين والنموذج الاقتصادي المُهيمن أن هذه الأمور يجب أن تصنّف غريبة لأن هذه خطوة إلى الأفضل.

ما من حلّ سهل
يعود انعدام الثقة في النخب الحاكمة إلى الإسقاط الناجح للغاية للطريقة الرأسمالية في السلوك والعمليّات في جميع مجالات الأنشطة البشرية، بما في ذلك السياسة. فحين يحدث ذلك، لن يعود بمقدور المرء أن يتوقّع أن يؤمن الناس بأن السياسات تحرّكها فكرة خدمة المصلحة العام.
ولكن لا يوجد حلّ سهل لهذه المشكلة. فمن أجل استعادة الثقة، يجب سحب السياسة من المجالات التي تسود فيها القواعد الرأسمالية العادية. ولكن القيام بذلك يتطلّب أن يرفض السياسيون مجموعة القواعد المعيارية التي يتضمّنها النظام الرأسمالي، وأبرزها تعظيم الفائدة المالية. ولكن كيف وأين سنجد هؤلاء الناس؟ هل علينا، مثل سكان التبت، البحث عن قادة جدد في أماكن بعيدة غير ملوّثة بالتسويق المُفرط؟ وبما أن هذا الأمر لا يبدو بعيد المنال، أعتقد أننا بحاجة إلى التكيّف مع فكرة استمرار انعدام الثقة والفجوة الواسعة بين النخبة السياسية ومعظم السكّان. وهذا يمكنه أن يجعل السياسة طريقاً وعرة للغاية لفترة طويلة. فوصول الرأسمالية إلى ذروتها هو المسؤول عن هذه الوعورة وعن الاستياء السياسي الذي لا مفرّ منه.

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي

* برانكو ميلانوفيتش اقتصادي صربي أميركي، متخصّص في التنمية واللامساواة، يعمل أستاذاً زائراً في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، وهو كبير الباحثين في «دراسة الدخل في لوكسمبورغ». شغل في السابق موقع الاقتصادي الرئيسي في قسم الأبحاث في البنك الدولي.