تتبع الباحثان الفرنسيان بيزاس وبيارّو (في مؤتمر عُقد عام 2009) مسار الاختصاصات الأكاديمية التي تُعنى بدور الدولة والإدارة العامّة في التنمية في الولايات المتّحدة وفرنسا، وهي العلوم السياسية والإدارة العامّة وتحليل السياسات العامّة. فما حصل بعد الحرب العالمية الثانية هو انفصال الإدارة العامّة كاختصاص عن العلوم السياسية. وقد انفردت كلّ من الاختصاصات الأكاديمية الثلاثة بتطوير مقاربة نظرية على حدة. الأمر الذي أضعف القيمة العلمية لهذه الاختصاصات، إن لم يكن قد انتزعها بالكامل. وقد أظهر الباحثان أن تيّار المؤسّساتية المقارنة منذ بيانه الشهير لعام 1985 تحت عنوان: «استعادة الدولة كموضوع للتحليل» وإسهاماته اللاحقة، مثّل أفضل ردّ على مسار فصل الاختصاصات وتسطيح وتسخيف الدراسات حول الدولة. وفي هذا المجال، أذكّر باختصار شديد بمساهمات تيدا سكوكبول وديتريش ريشماير وبيتر إيفانز، وأهمّ ما في مساهمة سكوكبول التأسيسية تعيينها ثلاثة محدّدات لقدرة الدولة على الفعل في ميدان التنمية والتحويل الصناعي هي استقلاليتها (autonomy) ومقدرتها الإدارية (capacity) وشكل انخراطها في العلاقات الدولية (transnational linkages).
الاستقلالية
قدّمت الباحثة سكوكبول مسحاً شاملاً للدراسات حول الدولة في الولايات المتّحدة والعالم الأنكلو-ساكسوني. أظهرت تركيز هذه الدراسات على دور المجتمع (society-centered) أو كيف يتحكّم المجتمع بالدولة، وإغفالها دراسة دور الدولة كإدارة عامّة. استعرضت كتابات التيار النيو-ماركسي الذي ركّز على المشترك بين البلدان التي تنتمي إلى «نمط إنتاج» بعينه، الأمر الذي جعله يعجز عن إظهار التمايز بين دولة وأخرى لجهة مساهمتها في التنمية والتحويل الصناعي ضمن «نمط الإنتاج الرأسمالي». وقد أظهرت أن «استقلالية الدولة النسبية» التي ركّز عليها النيو-ماركسيون مثل نيكوس بولانتزاس تحوّلت إلى تمرين نظري يفتقر إلى وقائع تعطيه مصداقية.
عرّفت الباحثة استقلالية الدولة بأنها مقدرتها على اعتماد سياسات يمكن أن تتعارض مع مصالح القوى النافذة في المجتمع وتشكّل نقيضاً لها. واستعرضت إسهامات ألفرد ستيبان وألن تريمبرجر التي رسمت صورة «استقلالية مفرطة» مورِست على يد الدولة في اليابان خلال حقبة الميجي، وفي تركيا الكمالية ومصر الناصرية والبيرو بعد انقلاب 1968 العسكري والبرازيل بعد انقلاب 1964 العسكري. كان ثمّة، في كلّ مرّة، نخبة إدارية مدنية وعسكرية موحّدة الأهداف ومتماسكة داخلياً تستخدم إمكانات الدولة لإجراء تغيير شامل للواقع القائم. أظهر ستيبان أن الإجراءات المعتمدة هدفت أحياناً لدمج القوى الاجتماعية المهمّشة كما في حالة البيرو، وكانت في حالات أخرى إقصائية تجاه هذه القوى كما في حالة البرازيل.
لم تكتفِ سكوكبول باستعراض الأدبيات التي تتناول تجارب غير دستورية، بل استعرضت تلك التي تظهر استقلالية الدولة في النظم السياسية الدستورية الغربية. أَظهرت هذه الأدبيات على سبيل المثال دور الدولة كبيروقراطية في وضع أسس السياسة الاجتماعية في دولتين كالسويد والولايات المتّحدة، ودور البيروقراطية في هذا البلد الأخير في ربط إنتاج المواد الأولية خارج الولايات المتّحدة بالمصالح الاستراتيجية لهذه الأخيرة كدولة «مسيطرة»، ولو تعارض ذلك مع مصالح الشركات الكبرى الأميركية.
أخذ بيتر إيفانز على عاتقه دراسة استقلالية الدولة وفعاليتها في تجربة الدول التنموية الآسيوية، ممثلة باليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، ورسم صورة استقلالية الدولة في هذه النماذج مختلفة عن تلك التي عيّنها ماكس فيبر في تعريفه للإدارة الحكومية الغربية. الفارق هو أنه في الحالة الآسيوية كان على الدولة أن تخلق نخباً استثمارية وتنشئ معها مشاريع مشتركة. أعطى فيبر صفة ملازمة للبيروقراطية هي عزلتها النسبية (insulation) التي تجعلها قادرة على التصدّي للضغوط التي تمارس عليها من طرف النخب الاستثمارية وقوى الضغط. وأطلق إيفانز صفة «الاستقلالية المنغرسة» (embedded autonomy) على الإدارة الحكومية الآسيوية التي كانت تتواصل يومياً مع النخب الاستثمارية للتشاور معها وتعيين الأهداف من دون أن يترتّب على ذلك خضوع من قِبلها للمصالح الخاصة، أو تخلّ من قبلها عن الأهداف العامة المرسومة، أو قبول من طرف أفرادها للرشوة لتمرير مصالح خاصّة.

المقدرة الإدارية
قال إيفانز وريشماير في مساهمتهما في كتاب 1985 أنه يكفي ما كُتب حتى ذلك التاريخ بشأن الدولة بوصفها منصّة صراع يتواجه عليها الأفرقاء الاجتماعيون، وأنه ينبغي تقديم شيء جديد مفيد، يتلخّص بدراسة البنية الإدارية للدولة، التي تفسر فعالية الدولة أو لا فعاليتها في التنمية. وهما بذلك استعاضا عن كتابات الماركسيين الجدد حول الدولة بكتابات ماكس فيبر.
رسم إيفانز صورة الإدارة العامّة الفعّالة في البلدان الآسيوية الثلاثة من خلال إظهار أنها تستوفي أولاً شروط الإدارة الفيبرية بالمعنى الغربي للكلمة. أي إنها إدارة تمّ تنسيب أفرادها على قاعدة الاستحقاق وبواسطة المباريات الوطنية، ومن دون أن تلعب التنفيعات السياسية والشخصية أي دور في ذلك. وتمّ تثبيت هؤلاء وتوفير إمكانية الترقّي الوظيفي لهم بواسطة المباريات داخل الإدارة. وأضاف إيفانز إلى هذه المواصفات العامّة ما وفّرته كل تجربة على حدة من تماسك إداري شديد للإدارة. وقد نجمت «العصبية الإدارية» (esprit de corps) في اليابان عن العلاقات الوطيدة بين العاملين المتخرّجين من الجامعات نفسها، ونجمت في تجربة كوريا عن الضغط الذي مارسه الجيش تحت قيادة الجنرال بارك لإعطاء فعالية إضافية للإدارة. ونجمت في تايوان عن دور حزب الكيومنتانغ الذي أمّن هذه الفعالية. وقد سمّى إيفانز عناصر الفعالية الإضافية هذه «العناصر غير البيروقراطية للأداء البيروقراطي». وهو ما جعله يضع التجربة برمّتها تحت عنوان «الفيبرية المُعزّزة».

شكل الانخراط في العلاقات الدولية كعائق لدور الإدارة العامّة في التنمية
مثّل شكل انخراط البلدان النامية في العلاقات الدولية خلال الحقبة النيو-ليبرالية عائقاً أمام مسؤولية الإدارة العامة في التحويل الصناعي. لأنه حصل في شروط جسّدها تجاهل المؤسّسات الدولية للدور الذي كان يُفترض أن تلعبه في مساعدة البلدان النامية في تحقيق التصنيع، وعملت هذه المؤسّسات على بلورة تشريعات دولية أعاقت قدرة هذه البلدان على التصنيع، وقوّضت كأطراف مانحة للمساعدات مقدرة الدولة المؤسّساتية. ما جعل هذه الأخيرة عاجزة عن «التعلّم في ميدان صوغ السياسات العامّة» لإنجاح التصنيع.

أ- امتناع المؤسّسات الدولية عن المساعدة
في قراءة هنري بريتون لعملية التأسيس لانطلاق «توافق واشنطن» كاستراتيجية نيو-ليبرالية للتنمية، أظهر أن التركيز على إلغاء «تشوّهات الأسعار» في التجربتين الكورية والتايوانية، أغفل عن عمد ما هو أهمّ من ذلك بكثير، ألا وهو اكتساب المقدرة التكنولوجية أو «التعلّم التكنولوجي» الذي انطوت عليه تجربتهما. أي شراؤهما ماكينات من السوق الدولية وتفكيكها وإعادة تركيبها بمواصفات تسمح باستخدامها في الإنتاج الوطني وببيعها في السوق الدولية. وقد نأت المؤسّسات الدولية عن أي دور في دعم البلدان النامية لاكتساب هذه المقدرة كشرط لبناء اقتصادات مُنتجة وتحقيق التحويل الصناعي فيها. بل دأبت على امتداد الحقبة النيو-ليبرالية على منع هذه البلدان من اعتماد سياسات صناعية انتقائية (selective) تتيح تحقيق «التصنيع المتأخّر». يصاب من يقرأ تقرير البنك الدولي الخاص ببلداننا العربية الصادر عام 2005 بالدهشة من وقاحة من كتبوه، إذ ينهى التقرير هذه البلدان عن الأخذ بالتجربة الآسيوية في اعتماد سياسات صناعية انتقائية تحقّق التصنيع.
ذكّرت الباحثة أليس أمسدن بالدور الذي لعبه الباحث في البنك الدولي إليوت برغ في إصراره على أن الإصلاح المطلوب للبلدان النامية هو إصلاح سياسات الاقتصاد الكلّي فيها، أي ضبط التضخّم من خلال ضبط الإنفاق العام وخفض عجز الموازنة، وليس مساعدتها على بناء اقتصادات مُنتجة. وهو التصوّر الذي وجد ترجمته في أجندة الإصلاح الاقتصادي النيو-ليبرالية لأفريقيا التي اعتمدها البنك الدولي عام 1981. ووضعت تحوّل البنك الدولي في ظل رئاسة وولفنسون (1995-2005) إلى هدف مكافحة الفقر، ضمن إطار سعيه للهرب من مسؤولية دعم البلدان النامية لتحقيق تصنيعها المتأخّر. أما اعتبار الفساد ومكافحته هدفاً ثانياً للبنك الدولي، فقد كان الهدف منه الاستمرار في «شيطنة» الدولة، باعتبار أنها وحدها معنية باستشراء الفساد، مع إغفال أن للشركات الخاصّة الكبرى دوراً رئيسياً في ذلك.
وأظهر الباحث جون توي التناغم خلال الثمانينيات بين دور البنك الدولي ودور صندوق النقد الدولي في فرض شروط تحرير كل الأسواق وخفض حجم الدولة على البلدان النامية للموافقة على منحها قروضاً ومساعدات («cross «conditionality). وهدفت تدخّلات «صندوق النقد الدولي» إلى تأمين «الاستمرارية المالية للدولة» (financial viability of the state) في البلدان النامية لضمان سدّ الديون، وذلك من خلال خفض الإنفاق العام وخفض القدرة الشرائية المخصّصة للاستيراد وزيادة الضرائب والرسوم. أي إن تأمين الاستمرارية المالية للدولة كان هو الأولوية، من دون تخصيص أي اهتمام لتحسين القدرة الإنتاجية لهذه البلدان.

ب- بلورة تشريعات تعيق القدرة على التصنيع
أشار ها-جون شانغ إلى ضمور استقلالية البلدان النامية في رسم سياساتها التنموية (policy space) على امتداد الحقبة النيو-ليبرالية. شبّه ما يجري خلال هذه الحقبة بما كان يجري أيام الاستعمار المباشر من فرض لحرية التبادل على البلدان المستّعمَرة ومنعها من خوض تجربة التصنيع. أخذ أمثلة على ذلك من النقاشات التي تجري منذ 1994 في أروقة منظّمة التجارة العالمية بين البلدان الصناعية والبلدان النامية، والتي تهدف تحت شتّى الحجج والذرائع إلى فرض تحرير التبادل على هذه الأخيرة ومنعها من اعتماد إجراءات حمائية لصون قطاعاتها الإنتاجية.
وأشار باحثون آخرون إلى التضييق الذي طال البلدان النامية في مجال متابعة سياساتها التنموية (development space)، بفعل التشريعات الجديدة التي تولّت منظّمة التجارة العالمية تطبيقها بعد اختتام مؤتمر الأوروغواي عام 1994. واستعاد سنجايا لال هذا النقاش مُظهراً الآثار التي يتركها تطبيق هذه الاتفاقيات ومنها «اتفاقية تحرير الاستثمار المرتبط بالتبادل» (TRIMs) التي نصّ عليها الغات الجديد. ويؤدّي تطبيقها إلى تخفيف الشروط المفروضة على المستثمرين الأجانب للسماح لهم بالاستثمار في البلدان النامية، والحدّ من قدرة حكومات هذه الدول على التحكّم بعملية منح إجازات الاستثمار للشركات الأجنبية وعلى فرض شروط عليها. ويؤدّي تطبيق «اتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية» (TRIPs) إلى رفع تكلفة عمليات النقل المشروعة للتكنولوجيا الجديدة، ويمنع عمليات النسخ (copying) لها، ويبيح لمنظّمة التجارة العالمية اتخاذ إجراءات عقابية بحق البلدان التي يتبيّن أنها لا تحمي هذه الحقوق. وقد رأى لال أن الاتجاه كان نحو إلغاء سلسلة من الاستثناءات التي كانت تستفيد منها البلدان النامية، ونحو تحرير مستمرّ للمبادلات كتطوّر عام يطال كل دول العالم.

ج- تقويض القدرة على صوغ السياسات العامّة للتصنيع
رصد الباحثون ثلاثة تحوّلات في تصوّر البنك الدولي لمسألة إصلاح الإدارة العامّة في البلدان النامية. لم يكن موقفه من الإدارة الحكومية سلبياً حتى أواخر السبعينيات، ثمّ سادت لديه فكرة «البيرقراطيات المتضخّمة» خلال الثمانينيات، ثم بدأ من منتصف التسعينيات بتسويق أفكار مفادها أن برامجه ترمي إلى استعادة البلدان النامية لملكية برامجها الوطنية لإصلاح الإدارة (ownership) وأنها تقوم على التشارك بين الطرفين في بلورة هذه البرامج وتنفيذها (partnership).
وفي نصّه لعام 1992، رسم إيفانز أيضاً صورة الدولة «النهّابة» (predatory) ممثّلة بدولة الكونغو البلجيكي أو زائير أيام الرئيس موبوتو (1963-1997). بدت الإدارة العامّة آنذاك وقد تحوّلت إلى سوق يكيّف فيها الموظّفون الحكوميون المشاريع وفق رغبة المستثمرين مقابل الرشوة. أي إن الإدارة العامّة بوصفها تجمّعاً لباحثين عن ريوع وجدت تجسيداً لها في دولة موبوتو. وتساءل إيفانز عن ما يجعل هذا النوع من الدول يستمر، وربط ذلك بالاستقلالية التي تمتّعت بها هذه الدولة، لكن هنا بمعنى عدم تعرّضها للمساءلة والمحاسبة. قدّم إيفانز سبباً آخر جوهرياً لاستمرار هذا النوع من الأنظمة هو التدخّل العسكري الخارجي، أي البلجيكي أو الفرنسي لتأمين استمرار النظام. أي إن النظام الدولي أخذ على عاتقه تأمين استمرارية دول فاشلة وإدارات عامّة عاجزة عن تحقيق التحويل الصناعي.
واستند الباحث الأميركي نيكولاس فان دو وال، في قراءته لأزمة أفريقيا السوداء الدائمة وعجزها عن الخروج من التخلّف، إلى ماكس فيبر في تعريف الدولة «النهّابة» كدولة نيو-باتريمونيالية وتعريف نخبة هذه البلدان كنخبة نيو-باتريمونيالية. والمقصود بذلك أن الدولة تقوم على الاستزلام السياسي (political clientelism)، وتكون الدولة كما النخبة معنيّتين حصراً بـ«تجيير الموارد العامّة لتوفير منافع خاصّة». وقد استفاض فان دو وال في شرح الأسباب التي تفسّر استقلالية هذا النوع من الدول، والتي تجعل «المجتمع المدني» غير قادر على المساءلة أو الاعتراض على السياسات الحكومية كائناً ما كانت. وهو وفّر في ذلك إضافة هامّة.
وقد أضاف فان دو وال إضافة هامّة أخرى تناولت تفسير انهيار الدولة المؤسّساتي. عزا ذلك إلى دور المساعدات الدولية أي قروض البنك الدولي وغيره في ذلك. وقد ألزمت المؤسّسات الدولية البلدان النامية باعتماد سياسات تمّت بلورتها خارج هذه البلدان. وهو ما انتزع من الدولة مقدرتها على بلورة السياسات العامّة بنفسها ومنع تطوّرها المؤسّساتي (state pacityinstitutional ca). وقد توقّفت سيرورة «التعلّم» لديها في ما يخصّ صوغ سياساتها العامّة (policy learning).
يأخذ فان دو وال مثالاً من كينيا حيث استقطب البنك الدولي موظّفي الإدارة الحكومية في قطاع الزراعة لتنفيذ مشاريعه لأنه كان يدفع بين 3 و6 آلاف دولار كرواتب وقت كانت رواتب الموظّفين من الرتبة الأعلى تساوي 250 دولاراً. وقد تفاقم هذا الوضع خلال الثمانينيات بسبب تراجع أوضاع العاملين في الإدارة العامّة مقابل توافر موارد كبيرة نسبياً لدى المؤسّسات الدولية.
ورأى الباحث داربون أن المؤسّسات الدولية أخطأت في حقّ البلدان النامية وخصوصاً بلدان أفريقيا حين خفّضت عديد الإدارات الحكومية فيها خلال الثمانينيات وحرمت هذه الإدارة من وجود إداريين أكفاء كانوا قد حلّوا محلّ الهواة الذين احتوتهم الإدارة في مطلع الاستقلال. وأشار إلى أن دولة السنغال مثلاً طبّقت عشرة برامج إصلاح خلال فترة 1980 - 2002، كانت تنطوي كل مرّة على خفض لعديد الإدارة العامّة وخفض لكلفتها وانسحاب للدولة من بعض المرافق الحكومية.
وأظهر الباحث برغماشي أن المشاريع التي سوّقها البنك الدولي بعد عام 2000 تحت عنوان «بناء القدرة» (capacity building)، انطوت على إنشاء وحدات إدارية غب الطلب مستقلّة في عملها عن الإدارة الرسمية تتلقّى أوامرها من المانحين ولو أنها قائمة داخل الوزارات والإدارات الحكومية. وهي بدل تحسين أداء الإدارة الحكومية، زادت تهميشها وأدّت إلى نقيض ما أعلنت عنه.
ويوضح فان دو وال أن التنمية تحوّلت في شروط كهذه إلى مشاريع منفصلة لا يربط بينها رابط وليست مُدرجة في مشروع تنموي تتولّى الدولة تنفيذه. وقد أتاح ذلك للسياسيين تعزيز قدرتهم على تجيير الموارد العامّة لتوفير منافع خاصّة، أي تعزّز الطابع النيو-باتريمونيالي للدولة.
إن إفراغ الإدارات العامّة من الكفايات الذي آل إليه عمل المؤسّسات الدولية الدؤوب وتحوّل الدولة أكثر فأكثر إلى دولة نيو-باتريمونيالية يتغوّل عليها السياسيون وأصحاب المصالح كانا القاعدة ليس في دول أفريقيا فحسب، بل في كل البلدان النامية. وقد شكّل هذان العاملان أكبر نكسة للدولة في هذه البلدان ولدورها في التنمية ومنعا إنجاح التحويل الصناعي فيها.

د- إسهام «نظرية التبعية» في نقد شكل الانخراط في العلاقات الدولية
كانت نظرية التبعية قد تعرّضت لنقد شديد منذ سبعينيات القرن الماضي. أعاب عليها الجميع حصرها المسؤولية في إخفاق التنمية بالنظام الدولي، أي بالخارج، وإهمال مسؤولية النخب المحلّية في البلدان النامية في هذا الإخفاق.
أعاب توني سميث على بول باران قوله إن نجاح اليابان في تحقيق التحويل الصناعي فيه يعود إلى إهمال القوى الاستعمارية له، مُغفلاً دور النخبة المحلّية في إنجاح هذا التحويل. ورأى إيفانز وريشماير أنه لا بدّ من الخروج من الإطار النظري الذي وضعته نظرية التبعية للنقاش، أي التخلّي عن اعتبار الدولة مجرّد ساحة صراع للقوى الاجتماعية المختلفة كما سبقت الإشارة، للتمكّن من تقديم شيء ذي فائدة لقضية التنمية والتحويل الصناعي. واستعاد ريموند هينبوش النقاش حول التبعية كجزء من النقاش حول البنيوية الماركسية القديمة التي مثّلت نظرية الإمبريالية ونظرية المركز والأطراف ونظرية التبعية مكوناتها الثلاثة. واقترح اعتماد «بنيوية جديدة» قوامها عدم إغفال دور النخب المحلّية المستزلَمة (client) والتابعة في فرض كيفية انخراط البلدان النامية في العلاقات الدولية.
وقد أعاد بيتر إيفانز الاعتبار لهذه النظرية مع الأخذ في الاعتبار كل نواقصها، في إطار حوارات أجراها باحثون شباب مع مجموعة من المفكّرين الأوائل في ميدان التبعية والتنمية. ويمكن أن تساعد هذه النظرية نُخب البلدان النامية وبحيث تكون أدبياتها جزءاً من «التعلّم» الذي تحتاج إليه هذه النخب لفهم العالم والتعامل معه بكفاءة وفعالية. وما ينبغي أن تعرفه نخب العالم الثالث هو أن عليها أن تعمل أوّلاً على تحقيق استقلالية الدولة وقدرتها على الفعل، وأن تعكف بعد ذلك على تحقيق التحويل الصناعي فيها، مع ما يرتبه ذلك من جهد ويتطلّبه من فعالية إزاء واقع دولي محكوم بتراتبية على رأسها «دولة مسيطرة» ودول صناعية تمارس «سيطرة جماعية».

* أستاذ العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الجامعة اللبنانية

* لائحة المراجع
ألبر داغر، «الإدارة الحكومية كشرط للتنمية»، الأخبار، 28/12/2016، أعيد نشرها في مجلّة «الإدارة اليوم»، الصادرة عن الجامعة العربية - المنظّمة العربية للتنمية الإدارية، العدد الأوّل، 22 شباط/فبراير، 2017
ألبر داغر، «البرنامج البديل عن «الرؤية الاقتصادية» لحكومة الرئيس السنيورة الأولى»، مساهمة في ندوة نظمها «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» و«الحركة الثقافية-الاجتماعية»، بيروت، بتاريخ 8 نيسان 2006. نشرت تحت عنوان: «نحو رؤية بديلة للسياسة الاقتصادية في لبنان»، في مجلة أبعاد - المركز اللبناني للدراسات، العدد التاسع، أيلول 2006، وفي كتاب، المأزق الاقتصادي - الاجتماعي في لبنان والخيارات البديلة، بيروت، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، 2008، كما نُشر جزء منها في النهار بتاريخ 4 حزيران 2006، وأعيد نشرها في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012.
ألبر داغر، «ضد النيو ــ ليبرالية: خلفية نظرية لاقتصاد اليوم التالي»، ورقة قدّمت إلى ندوة «الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية»، القاهرة، 28/12/2013، نُشِرت تحت عنوان: «سوريا والعراق: مدخل إلى اقتصاد اليوم التالي»، في ملحق «قضايا المشرق»، الأخبار، 13/12/2013، وأُعيد نشرها في مجلّة «المستقبل العربي»، العدد 422، نيسان، 2014
Amsden Alice, «America’s Fatwas», Ch. 8, in Amsden A., Escape from Empire: the Developing World’s Journey through Heaven and Hell, The MIT press, Cambridge, Mass., 2007
Bergamaschi Isaline, «Building State Capacity? The Case of the Poverty Reduction Unit in Mali», in Thomas Bierschenk and Jean-Pierre Olivier de Sardan (eds.), States at work. Dynamics of African Bureaucracies, Brill, Leiden, 2014
Bezez Philippe, Pierru Frédéric, «Les dé-liaisons dangereuses: les trajectoires croisées de la sociologie de l’Etat, de l’analyse des politiques publiques et de la science administrative. Un essai de comparaison franco-américaine », Congrès AFSP, sep. 2009
Bruton Henry, «A Reconsideration of Import Substitution», in Journal of Economic Literature, vol. 35, June 1998
Chang Ha-Joon, «Policy Space in Historical Perspective – with special reference to Trade and Industrial Policies», Economic and Political Weekly, 2006, vol. 41, no. 7, 18 February, 2006
Darbon Dominique, «Reformer ou réformer les administrations projetées des Afriques: entre routine anti-politique et ingénierie politique contextuelle », Revue française d’administration publique, 2003
Evans Peter, Reuschemeyer Dietrich, and Theda Skocpol (eds.), Bringing the State Back In,. Cambridge: Cambridge University Press, 1985
Evans Peter, «The State as a Problem and Solution: Predation, Embedded Autonomy and structural Change», in S. Haggard, R. Kaufman (eds.), The Politics of Economic Adjustment, Princeton univ. press, 1992
Evans Peter, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995
Hinnebusch Raymond, «The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance», in: Journal of International Relations and Development, vol 14, n. 2, 2011
I. Kvangraven, «The Relevance of Dependent Development Then and Now», in U. Kufakurinani, I. Kvangraven, F. Santanta, M. Styve, Dialogues on Development, Institute for New Economic Thinking (INET), 2017
International Monetary Fund, «Lebanon-2005 Article IV Consultation Discussions: Preliminary Conclusions», Beirut, October 28, 2005
Noland Marcus, Howard Pack, «The East Asian Industrial Policy Experience: Implications for the Middle East», in «Rethinking the Role of the State: An Assessment of Industrial Policy in MENA», November 13, 2005, Institute for International Economics, Working Paper Series, December, 2005
Sanjaya Lall, «Reinventing Industrial Strategy: the Role of the Government Policy in Building Industrial Competitiveness», in QEH Working Paper Series, Oxford, October 2003
Smith, Tony. 1979. «The Underdevelopment of Development Literature: The Case of Dependency Theory», in World Politics, vol. 31, n. 2
Toye John, «Can the World Bank Resolve the Crisis of Developing Countries?», Journal of International Development 1, April, 1989
Van de Walle Nicolas, African economies and the politics of permanent crisis, 1979-1999, Cambridge: Cambridge University Press, 2001
Wade Robert, «The State of the World Bank», in Challenge, 53 (4), 2010