تعدُّ الهوّة في الأجور بين الجنسين من المؤشّرات المهمّة على درجة اللامساواة الاقتصادية في المجتمع. وعلى الرغم من أن أولى التظاهرات النسائية المُطالِبة بالمساواة في الأجور تعود إلى ما قبل عام 1915، إلّا أن التقدّم في ردم هذه الهوّة يسير ببطء شديد. وتبيّن الإحصاءات، التي تُنشر في كلّ عام، أن هذه المعضلة غير متّجهة إلى الانحسار في أي وقت قريب. فوفقاً لمنظّمة العمل الدولية، تقدّر الهوّة بين أجور النساء وأجور الرجال على الصعيد العالمي بنحو 22% في عام 2018. ووفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، يتطلّب ردم هذه الهوّة بشكل نهائي 217 عاماً، في حال استمرت الوتيرة الحالية.
ظاهرة عالمية وتحسّن طفيف!
هذا الشكل من التمييز المُمارس ضدّ النساء العاملات، لا ينحصر بمجتمعات معيّنة. ففي الولايات المتّحدة الأميركية وكندا، وصل التفاوت في الأجور بين الجنسين إلى 18% عام 2018، وفقاً لصندوق النقد الدولي، فيما تشير إحصاءات أخرى إلى أن هذه النسبة تصل إلى 22%. وسجّلت أستراليا فجوة بنسبة 16% بين ما يتقاضاه كلّ من الرجال والنساء. والأمر لا يختلف في المملكة المتّحدة، إذ بيّن مسح شمل 500 شركة ومؤسّسة، من بينها محطّة «BBC»، أن الفجوة لا تزال عميقة، مُسجّلة في أدنى مستوياتها 15% وصولاً إلى 33% في شركات عدّة. من جهة أخرى، لا تزال بلدان أوروبية عدّة، لا سيّما سويسرا، تعاني من فجوة تصل إلى 17%، على الرغم من تثبيت المساواة في الأجر بين الرجال والنساء كحقّ دستوري في الدستور السويسري منذ عام 1981، وتكثّف الاعتراضات الشعبية والنقابية والحقوقية. وتظهر الفجوة كبيرة في كوريا الجنوبية، إذ تصل إلى 37%، بينما تسجّل بلدان أخرى مثل إيطاليا واليونان فروقاً أصغر.

أدّت بعض الإجراءات التقدّمية في مجال المساواة الجندرية، في بلدان مثل آيسلندا ونيوزيلندا، إلى تراجع الفجوة من 8% إلى 6%، إلّا أن هناك الكثير من العمل الذي لا يزال ينتظر هذه البلدان في سعيها إلى فرض تطبيق قوانين كانت قد أقرّتها في السابق. ويقول اقتصاديون وخبراء في مجال الجندر، أن السياسات التي اعتمدتها آيسلندا على وجه الخصوص، بحاجة إلى ما يقارب أربع سنوات من التطبيق الحيثي والمراقبة السياساتية لمعالجة هذه الفجوة بشكل جادّ وفعّال، ما من شأنه إيجاد مثال عالمي قد يُحتذى به.
تعاني المرأة في البلدان العربية، كما في باقي بلدان العالم، من منظومة تمييزية واسعة ضدّ الحقوق الاقتصادية للنساء، ولكن تغيب التحرّكات الشعبية والنقابية في مواجهة هذه المنظومة. تتراوح الفجوة في الأجور بين الجنسين من 20% إلى 40% تبعاً للبلد، وفقاً لتقديرات عام 2013. أمّا تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2018، فيشير إلى أن ترتيب معظم البلدان العربية في المساواة في الأجور يقع في المراتب الدنيا، ما عدا أربعة بلدان خليجية احتلت مراتب متقدّمة، هي عُمان والإمارات والبحرين وقطر، وهو ما يعزوه البعض إلى ارتفاع الأجور بشكل عام في هذه البلدان، فيما يرجّح آخرون أن يكون مرتبطاً بجهود تقوم بها هذه البلدان من أجل سدّ الفجوة في الأجور بين الجنسين، في قراءة بعيدة عن تقييم الوضع العام للنساء في تلك البلدان.

إقصاء النساء في لبنان
يحلّ لبنان في المرتبة 101 في تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين. وعلى الرغم من أن المستوى التعليمي للنساء في لبنان يُعتبر من الأعلى عربياً، وشهد تحسّناً كبيراً في العقود الأخيرة، إلّا أن ذلك لم ينعكس إيجاباً على الأجور التي تتقاضاها النساء بالمقارنة مع الرجال.
تُجمع تقارير ودراسات عدّة صادرة عن لبنان، على أن هذه الفروقات لا تعود إلى اختلافات في التحصيل العلمي أو إلى فوارق في السنّ وسنوات الخبرة، بل ترتبط في غالبية الأحيان بحزمة من الأحكام المُسبقة والنمطية حول وجود وأداء النساء في سوق العمل. وربّما ما تحتاج إليه هذه الإحصاءات هو دراسة التفاوت في الأجر على مستويات المراكز نفسها بتجرّد إحصائي تامّ عن عوامل عدّة، أبرزها السنّ وسنوات الخبرة والمستوى الدراسي.
في الواقع، تُبيّن إحدى الدراسات التي أجراها باحثون في الجامعة اللبنانية الأميركية عام 2015، وهي من الدراسات الأجدّ في هذا الموضوع، أن النساء في لبنان يتقاضين أجوراً تقلّ بنحو 16% عن أجور الرجال في الوظيفة نفسها، وأن فرصهن في الترقية الوظيفية هي 1 على 4 بالمقارنة مع نظرائهن من الرجال. وتستند هذه الدراسة إلى «نظرية السقف الزجاجي» لتفسّر الحواجز الوهمية التي تعيق وصول النساء إلى المراكز العليا على الرغم من كفاءتهن وأحقّيتهن بذلك. وهذه الحواجز غير مرئية ولكنّها موجودة وتقوم على نظرة تمييزية تجاه المرأة ودورها في العمل والمجتمع، بدليل أنه في حال اختراق النساء مراتب عليا على السُلّم الوظيفي، فهن لا يحصلن على الأجور التي يتقاضاها الرجال في المناصب نفسها.
وتُبيّن دراسة الجامعة اللبنانية الأميركية أنه ضمن الهيكلية الوظيفية في مؤسّسات عدّة، ولا سيّما في المصارف، قلّما تتبوأ النساء المناصب التي توفر الأجور الأعلى، وهو ما يفسّر أيضاً قلّة وجود النساء في مجالس إدارات هذه المؤسّسات. وفي هذا السياق، يبرز أيضاً الاتجاه إلى توظيف نساء أكثر من الرجال في الوظائف الأقل أجراً في المؤسّسات نفسها.
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، ففي دراسة أخرى أجريت في الجامعة الأميركية في بيروت عام 2015، أظهرت النتائج أن النساء الفلسطينيات يحصُلن على أجور أقلّ من الرجال الفلسطينيين ومن النساء اللبنانيات في الوظائف المُتشابهة التي يؤدّونها والمستوى التعليمي نفسه والفئة العمرية نفسها. عملياً، تلقي هذه الدراسة الضوء على تقاطع عوامل عدّة، تزيد إمعاناً في فجوة الأجور، أبرزها اللجوء والنظرة السياسية والاجتماعبة الراسخة عن اللاجئين وحقوقهم في العمل والتقدّم، بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية. وهي بمعظمها تنطوي على تمييز عنصري وطبقي يتقاطع مع التمييز الجندري في ظلّ منظومة لا تأخذ هذه الحيثيات بالاعتبار في مقاربات المعالجة.

مواجهة مع مَن؟
للنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية المُسيطرة دور أكيد في التمييز ضدّ النساء. ففي لبنان، على سبيل المثال، كما في كثير من البلدان، لا يمكن تفسير الفجوة في الأجور من دون الانتباه إلى التقاليد الاجتماعية والمكوّنات الدينية المُتحكّمة بالتنميط السائد للأدوار المنوطة بالرجال والنساء، والتي لعبت دوراً في غير صالح النساء في ظلّ نظام «أبوي» واقتصاد غير عادل. تُحدّد هذه النظم دور المرأة ووظيفتها داخل المنزل وتضع الرجل في خانة المعيل الأساسي للأسرة، فتأتي النتائج على حساب حقّ المرأة في التمكين الاقتصادي والتطوّر والمساواة لناحية الأجر عند تقديم عملٍ موازٍ لعمل الرجال.
إن الدور المُسند إلى المرأة داخل الأسرة، كمسؤولة عن شؤون المنزل وتربية الأطفال والاهتمام بكبار السنّ، وهي خدمات عامّة لا توفّرها الدولة ولا تغطّيها، يُلزِمها مزاولة هذه الأعمال من دون أجر، أو العمل خارج المنزل بشكل جزئي، أو العمل بدوام كامل وتحمّل ضغوط العمل في المنزل وخارجه، وفوق ذلك، بأجر أقلّ من أجر الرجل عن العمل نفسه.
فرض العمل المجّاني في الأسرة والمنزل وتخفيض أجور النساء، يصبّ في النهاية في مصلحة رأس المال الذي يستغلّ هذا الإقصاء والتمييز في عملية نموّه وتراكمه. تكفي مراقبة نسب تفاوت الأجور في البلدان التي تصنّف في خانة البلدان ذات الأجور المتدنية والمداخيل الضعيفة، لنرى أن الهوّة ليست كبيرة فيما الخدمات العامّة مفقودة ويستعان بالمرأة لتقديمها مجّاناً، على عكس البلدان ذات المداخيل الأعلى حيث يتوافر جزء كبير من هذه الخدمات في مقابل توسّع هوّة الأجور تدرّجياً.

ما هو المطلوب؟
نهاية عام 2018، أطلق وزير الدولة اللبناني لشؤون المرأة، آنذاك، جان أوغاسبيان، الحملة الوطنية للمساواة في الأجور بين الرجال والنساء مع التركيز بشكل أساسي على توعية النساء حول ضرورة إقرار المساواة في الأجور. إلّا أن السؤال البديهي الذي يُطرح هو عن مدى فعالية التوعية بمعزل عن إجراءات سياساتية وتنظيمية، تضمن تحقيق ردم فعليّ في هذه الفجوة، وتفرض الالتزام بمعايير رقابية داخل المؤسّسات وخارجها.
لا تزال الخطّة الوطنية الواضحة في هذا المضمار غائبة! ولا تزال الضغوط من أجل وضع مثل هذه الخطّة متواضعة، ولا توجد مبادرات جدّية. ولا شكّ أن تطبيق خطّة كهذه ليس مستقلّاً عن الاقتصاد السياسي والنظام الاجتماعي والسعي لتحقيق المساواة في الأجر بين الجنسين، ولا يمكن فصله عن السعي إلى تحقيق المساواة الاقتصادية، إلّا أن معظم الدّراسات تتّفق على أن ردم فجوة الأجور بين الجنسين ممكن أن يتسارع، في حال تبنّي سياسات عامّة لضمان المساواة في الأجر المُتلقى من قِبل النساء والرجال. ومن شأن هذه السياسات، أيضاً، أن تفضي إلى تحسين الإجراءات التنظيمية داخل المؤسّسات لتوفير دعم فعليّ للنساء في ممارسة الأنشطة الاقتصادية. يحتاج الأمر إلى آليات حكومية رسمية، تضمن إجراءات أكثر عدالة لناحية التوازن والتساوي في الأجور، بالإضافة إلى أطر التوظيف والترقية ومنهجيات المراقبة اللازمة في القطاعين العامّ والخاصّ. كما تأتي أهمية إيجاد أساليب توعوية متقدّمة تُخفّف من الاعتقادات المغلوطة والنمطية عن دور المرأة وأفقها في العمل.

* باحثة في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية