«وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى»بدر شاكر السياب

ظن كثيرون أن القمّة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية، التي انعقدت لآخر مرّة عام 2013، ستكون مرّة أخرى تكراراً للقديم المُعتاد في القمم العربية، كإعادة الأحداث في الفيلم الأميركي «يوم جرذ الأرض» (groundhog day). ولكن للمفاجأة، حصل المستحيل خلال القمّة في بيروت. فإلى مفاهيم التعاون والتكامل والعمل المشترك وخفض الفقر ودور القطاع الخاص وتحقيق أهداف التنمية إلخ، التي تتردّد في جميع القمم أو الاجتماعات العابرة للدول العربية، أُضيفَ مفهوم آخر، ألا وهو مناشدة الدول المانحة من أجل المساعدة في قضية اللاجئين والنازحين في العالم العربي. بهذا استطاع لبنان، ليس فقط كسر الرتابة وتوسيع نطاق المفاهيم العربية التنموية، بل أيضاً التعميم على العالم العربي سياسة الاتكالية على الخارج، التي أصبحت مُزمنة لديه.
في السياق نفسه، لا بدّ بدايةً من ذِكْر الطريقة السوريالية التي بدأ فيها بيان القمة الختامي، إذ قال: «نحن قادة الدول العربية... وبعد استعراضنا لواقع أزمة النازحين واللاجئين الحالية في دول العالم العربي، حيث تتحمل المنطقة العربية العبء الأكبر منها... من خلال استضافة العدد الأكبر من النازحين واللاجئين»! هنا أي قارئ قد يتراءى له وكأن هؤلاء النازحين قد أتوا من منطقة غير تلك التي هي قانونياً ضمن الحدود الجغرافية لجامعة الدول العربية، وتحمّلها هذا العبء الكبير «غير الطبيعي»، يبرّر طلب المساعدة من المجتمع الدولي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

منطقة غنيّة تطلب مساعدات لأمر هي مسؤولة عنه!
إن إدخال هذا الموضوع بهذا الشكل إلى بيان القمّة وإعلانها، يعكس عدم مبالاة وعدم جدّية عربية واضحة. إذ من المؤكّد أنه لو فكّرت الوفود العربية قليلاً قبل القبول بهذا الخطاب الشعبوي، لاكتشفت أن دولها التي تعوم على مئات المليارات من الدولارات من الثروة النقدية التي يملكها الأفراد والدول نفسها والموضوعة في المصارف والأسواق المالية والصناديق السيادية وغيرها، والمتأتية في أكثريتها الساحقة ليس عن عمل أو إنتاج، بل عن ريع من النفط والغاز والاحتكارات والقوّة السياسية والاقتصادية للأقلّية في المنطقة العربية، والتي تعوم أيضاً على احتياطات نفطية تقدّر بنحو 710 مليارات برميل (55% من الاحتياطي العالمي) واحتياطات من الغاز تقدّر بنحو 54 ألف مليار متر مكعب (27.7%)، لا يمكنها أن تطلب من «الدول المانحة» التي بأكثريتها تنتج ثروتها عبر العمل والتقدّم التكنولوجي وتراكم الرأسمال، أن تُموّل إعانات للاجئين والنازحين السوريين وغيرهم. المفارقة المضحكة-المبكية هنا، أن الذين يستهلكون في الغالب ثرواتهم، يريدون من الذين يخلقونها أن يساعدوهم على حلّ معضلة وطنية وكارثة إنسانية، هم أنفسهم مسؤولون عنها أوّلاً وأخيراً.
كذلك فإن البيان الختامي للقمّة يعيد الأسطوانة القديمة نفسها حول التأثير السلبي للجوء والنزوح على الدول المضيفة بشكل تضخيمي وغير علمي، لا يليق بقمّة عربية تنموية، إذ يقول البيان: «ونظراً إلى انعكاسات هذه الأزمة الخطيرة على اقتصاد الدول المضيفة وانخفاض معدّلات النموّ فيها، وتأثيرها في المالية العامّة عبر الخسارة التراكمية في الإيرادات الحكومية، وتداعياتها على مسار التنمية الإنسانية والاجتماعية من خلال ارتفاع معدّلات الفقر وتصاعد حجم البطالة، خصوصاً في أوساط الشباب، وازدياد العبء على النظامين الصحّي والتعليمي، والاستنزاف الناتج منها للبنية التحتية...». هذا التشخيص هو تبنّي غير مبرّر وغير مسبوق في تاريخ القمم العربية، للخطاب الشعبوي اليميني الذي يريد أن يحُمِّل اللاجئين السوريين تبعات فشل اقتصادات الدول المضيفة، وفشل أحزابها الحاكمة. فأكثر الدراسات العلمية أكّدت العكس، إذ إن التأثير بسوق العمل في الدول المضيفة محدود جدّاً ولا تأثير له بارتفاع البطالة فيها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكلفة المزعومة على البنية التحتية، التي في لبنان مثلاً، هي أصلاً منهارة، وفي حالة الكهرباء تحديداً كانت، ولا تزال، في نفس مستوى حالة الطاقة الكهربائية في دول مدقعة الفقر، وذلك قبل وصول اللاجئين بسنوات. بالتالي، من المعيب على طبقات حاكمة فاشلة في الدول المضيفة، أن تُحمّل النازحين واللاجئين قسراً من المهمّشين والفقراء المسؤولية عن فشلها، كذلك من المعيب أن تستجدي، عبر ذلك، الدول المانحة لتمويل «مشاريع تنموية» ترفض هي أن تموّلها من ماليتها العامة لأنها ترفض المسّ بثرواتها الخاصّة المتفلتة بغالبيتها من الضرائب. بالإضافة إلى كل ذلك، إن المؤسّسات الدولية والدول المانحة أدّت دورها في المساعدات، وكانت الأكثرية الساحقة من الإنفاق منها، وليس من ميزانيات الدول المضيفة، وقد أدّى هذا الدفق المالي أيضاً إلى ارتفاع النمو الاقتصادي في الدول المضيفة وارتفاع الإيرادات الحكومية (بدلاً من انخفاضها كما يقول البيان)!
أخيراً، يتطرّق البيان إلى موضوع تمويل وكالة الأونروا وحقّ العودة. في هذا الإطار، يبدو أن الموضوع لا يتجاوز إلقاء اللوم بخصوص وضع اللاجئين الفلسطينيين على المجتمع الدولي. وهنا على البعض أن يحسم أمره ويجيب عن السؤال الآتي باختياره أحد الخيارات فقط: هل دعم وكالة الأونروا هو مؤامرة لتوطين الفلسطينيين، أم أن قطع تمويل الأونروا هو مؤامرة لتوطين الفلسطينيين؟ كذلك إن تكرار «حقّ العودة» يبدو اليوم وسيلةً للتخلّص من الفلسطينيين، لا دعماً حقيقياً لحقّهم التاريخي في أرضهم. لكلّ هذا، إنه الإيمان الفاسد الذي يحكم العالم العربي اليوم.

فشل التنمية العربية
ربّما الشيء الجيّد الوحيد في القمة هو إنشاء صندوق لدعم التكنولوجيا الرقمية، بمساهمة من الكويت وقطر في تمويله بقيمة 100 مليون دولار. ولكن هذه الخطوة لا تكفي لأنها أوّلاً، تطلب من القطاع الخاص أن يساهم بـ100 مليون دولار أخرى، وكان من الأفضل إطلاقه بشكل فعّال وبسرعة أكبر. وثانياً، الخطوة تأتي بمثابة نقطة في بحر فشل التنمية العربية. فالمنطقة العربية تعاني من تحدّيات ومعضلات أصبحت بعمق لا يمكن حلّها بمبادرات صغيرة الحجم كهذه. وهذا الفشل، للمناسبة، هو سابق لكل مسلسل الأحداث والنزوح والإرهاب الذي شهدته وتشهده المنطقة العربية.
في هذا الإطار، هناك ثلاثة تحديات كبرى لا يمكن تجاهلها. أوّلاً، تحدّي التنافسية والعولمة. ففي الثلاثين سنة الماضية، أدّت العولمة إلى ارتفاع معدّل التنمية والتصنيع في الدول النامية، ومن بينها الهند والصين وإندونيسيا وغيرها، وارتفاع معدّل حصّتها من الناتج العالمي من 40 إلى 60% على حساب حصّة الدول المتقدّمة. في الوقت نفسه، يراوح العالم العربي مكانه. ثانياً، تحدّي عكس الريعية الفائقة. فالعالم العربي، الذي تكثر فيه الدول الريعية التي تعتمد على المصادر الطبيعية للثروة، بدلاً من استعمال هذه الثروة الطبيعية وتحويلها إلى رأسمال فيزيائي وتقدّم تكنولوجي يساهمان في اختراق الأسواق العالمية، أصبحت الريعية فيه معمّمة حتى إلى الدول غير الريعية. ثالثاً، عدم المساواة في الدخل والثروة. وعدم المساواة هذا ليس فقط مرتبطاً بالعدالة الاقتصادية، بل بتأبيد الشكل الريعي للرأسمالية العربية، إلى تعزيز سيطرة السلالات المُتحكّمة في الاقتصاد عبر التوريث والملكية، وإلى عدم قيام اقتصاد إنتاجي يراكم الرأسمال ويتطوّر تكنولوجياً، وبالتالي ينافس عالمياً. إذ يصبح التملّك للأصول والعقارات والمؤسّسات الكبرى والثروة المالية عائقاً أمام التطوّر الاقتصادي، وتصبح الأكثرية تعمل في قطاعات متدنّية الإنتاجية ذات أجور متدنّية وعوائد على عمل هامشي متدنّية جدّاً وغير مستقرّة. لكل هذا، العالم العربي بحاجة إلى أجندة تنموية جديدة، ولكن في الوقت نفسه أجندة ديموقراطية ومساواتية، بدلاً من تكرار القديم.
عاشت الشعوب العربية حتى 2011، وكأن كل يوم يُعيد نفسه. اليوم، بعد 8 سنوات على الربيع العربي وما تبعه من ثورات مضادّة وحروب أهلية وانقسامات مذهبية وإثنية، اعتقد البعض أن قمة عربية اقتصادية واجتماعية وتنموية، كان يجب على الأقل أن تقوم بجردة حساب لما حصل و/أو أن يحصل بعض الانقسام بين الجديد والقديم. لا هذا حصل ولا ذاك، وكأن ستاراً مظلماً قد أسدل على الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. وتونس، الدولة التي حقّقت أكثر الخطوات تقدّماً منذ 2011، تعطي الأمثولة عن الفرص وعن المخاطر وأين تكمن المعضلة الحقيقية في المنطقة. فالشعوب العربية حاضرة للديموقراطية، ولكن المشروع الاقتصادي التنموي الحقيقي لا يمكن أن يتأخّر عن ركاب هذه الديموقراطية، وإلّا انتهت في مهدها.
في تونس منذ الثورة وإلى الآن أحرق 300 تونسي أنفسهم، وبالأمس أحرق جورج زريق نفسه في لبنان، وبالأمس الأوّل اغتيل الروائي العراقي علاء مشذوب بثلاث عشرة رصاصة في كربلاء. هذه كلّها إرهاصات فشل التنمية العربية وانتصار الثورة المضادّة التي كانت موقعة الجمل في القاهرة في 2 شباط/ فبراير 2011 برمزيتها تمثّلها، ليس فقط آنياً، بل تمثّل هذه الثورة الآتية بكل رجعيتها وتخلّفها التي بشّرت بصعود ليس لوي بونابرت واحد بل اثنين وثلاثة وأكثر سيعتمدون في حكمهم على الأكثر ظلامية في مجتمعاتهم. لكن في خضم كلّ هذا، ستتحضّر الموجة الثانية من ربيع الشعوب العربية، لأن النظام القديم ينهار ويخطئ من يظن أن الربيع العربي، وإن أدّى إلى ما أدّى إليه، قد انتهى. وُيخطئ من يعتقد أن المطر لن يأتي، وأن عالم الغد الفتي لن يأتي.