كان أصحاب المداخيل المتواضعة يقارنون أنفسهم فقط بمن حولهم، ويكتمون غضبهم. ولكن اليوم عزّزت العولمة وعي الناس باتساع رقعة انعدام المساواة التي تسبّبت بها، ولكنّها أضعفت النقابات التي تعتبر الأكثر قدرة على محاربتها، ما حفّز غضبهم. قبل ستين عاماً، نشرت عالمة الاجتماع دبليو جي رانسيمن دراسة مؤثّرة حول المواقف تجاه «الحرمان النسبي» في إنكلترا في القرن العشرين. وسعت الدراسة إلى الشرح لماذا في فترات حسّاسة من القرن الماضي، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى وخلال «الكساد العظيم»، لم يؤدِّ انعدام المساواة المرتفع أو المتزايد إلى اضطرابات أكبر أو حتى ثورة. وكانت الإجابة أن الأفراد يميلون إلى مقارنة وضعهم الاجتماعي بـ«مجموعات مرجعية» قريبة منهم.
من الواضح أن شيئاً ما تغيّر. فبعد عقد من «الركود الكبير» الذي سبّبته الأزمة المالية عام 2008، يسعى السياسيون والمعلّقون في البلدان الصناعية جاهدين لفهم كيفية تفجّر الغضب الشعبي ضدّ الحكومات و«النُّخب» في بلد تلو آخر.
من التصويت على خروج المملكة المتّحدة من الاتحاد الأوروبي في حزيران/ يونيو 2016، إلى انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتّحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر التالي، وتصاعد الأحزاب القومية والمناهضة للهجرة في شمال أوروبا، وأخيراً، انتفاضة «السترات الصفر» في فرنسا، كلّها أحداث تعبّر عن ردّ فعل شعبوي على انعدام المساواة المتصاعد، وركود المداخيل المتوسّطة وانعدام الأمن الاقتصادي، وتحوّلت إلى اتجاهات سائدة في بلدان صناعية عدّة. فهي تعكس زيادة في الحرمان النسبي، حيث تشعر قطاعات كثيرة من السكّان بذلك، قطاعات خسرت الكثير على صعيد الأفراد والأسر وتخشى من مستقبل ينعدم فيه الأمن أكثر، بينما في المقابل ثمّة من يستفيد من التغيير الاقتصادي والاجتماعي. وقد ظهرت الانقسامات الحادّة بعد عقود من إضعاف المؤسّسات الوسيطة، ولا سيما النقابات التي تمثّل دورها الاقتصادي في العمل على كبح تزايد عدم المساواة، وتمثّل دورها السياسي في رفع صوت من يشعرون بأنهم ضحية الظلم، وفي التفاوض على حلول لرفع الضيم عنهم.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

يمثّل تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي وصعود ترامب والقومية والعنف في الشوارع، ردوداً سيّئة على سؤال مهمّ وهو كيف يمكن إعادة صياغة الاتفاق على العدالة في توزيع المداخيل لمن خسروا (أو شعروا بأنهم خسروا) من العولمة أو الابتكارات التكنولوجية أو سياسات مواجهة التغيير المناخي. بالفعل، ثمّة ضرورة للتوصل إلى «اتفاق اجتماعي جديد»، في أماكن العمل والمجتمعات، لإعادة بناء الثقة في المجتمعات المشرذمة. ومن شأن هذا الاتفاق أن يقلّل من عدم المساواة في الدخل، ودعم القوة الشرائية والدخل المتوسط، وأن يعالج جودة العمل والشعور بالغبن. والأهمّ من ذلك، أن الأمر يتطلّب إعادة بناء المؤسّسات الوسيطة وتعزيزها مثل النقابات التي يمكن أن ترفع الصوت وتقدّم حلولاً جماعية.

«مُنحنى الفيل»
على مدى السنوات الثلاثين الماضية، تراجعت مستويات عدم المساواة في الدخل على المستوى العالمي بين البلدان - لسبب رئيسي هو التحوّل السريع للصين نحو الصناعة - ولكنّها ارتفعت داخل معظم البلدان ولا سيما الصناعية منها. هذا ما صوّره برانكو ميلانوفيتش من البنك الدولي في رسمه البياني الشهير «مُنحنى الفيل» الذي يُظهر أن أبرز الخاسرين في هذه الفترة كانوا من الفئات ذات الدخل المنخفض والمتوسط في البلدان المتقدّمة.
وخلال العقود الثلاثة الماضية، انخفضت حصّة العمالة من الدخل القومي بمعدّل 10 نقاط مئوية من الناتج المحلّي الإجمالي. وتظهر دراسات منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الرابح الأكبر في كلّ البلدان هم الذين يقفون في أعلى سلّم توزيع الدخل. وبالفعل، في الولايات المتّحدة لم يشهد 60% ممن هم في أسفل السلّم أي زيادة في مستويات معيشتهم منذ عام 1990، بينما زادت حصّة مداخيل من هم في الأعلى، أو الـ1% الأكثر ثراءً من 13% إلى 18% عام 2014.
ساهم هذا الارتفاع الواضح في عدم المساواة في انخفاض الثقة في بلدان عدّة، ولا سيما الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة. كما كان له كلفة اقتصادية كبيرة. وفق أبحاث صندوق النقد الدولي، ساهمت زيادة عدم المساواة وسلوك الوسطاء الماليين، في الفّقاعة السابقة لعام 2008. وتخلص دراسة أخرى إلى أن «المساواة تبدو مكوّناً مهمّاً في تعزيز النمو واستدامته». فمن خلال عدم القدرة على الوصول إلى التعليم، يتعزّز انعدام المساواة المرتفع بشكل ذاتي، وقد احتسبت منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية تأثيره السلبي على النمو في مجموعة من البلدان.
تتحمّل مهنة الاقتصاد جزءاً من المسؤولية عن السماح بانعدام المساواة أو حتى تشجيعه. فقد كتب أبو نظرية التوقّعات العقلانية، روبرت لوكاس عام 2003: «من الاتجاهات التي تضرّ بالاقتصاد السليم، وتعتبر الأكثر إغراء، وبرأيي سامّة أكثر من غيرها، هي التركيز على مسائل توزيع الدخل». فالاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد جادلوا تقليدياً بأن الأجور تعكس الإنتاجية، وبالتالي فإن الحلّ الوحيد لزيادة رقعة اللامساواة - الذي يُزعم أنها ناتجة من الانفتاح العالمي للاقتصادات أو التغيّر التكنولوجي - هو تحسين التعليم والتدريب للعمّال الأدنى أجراً.
ولكن لا يمكن تفسير الفجوة المتنامية بين نمو الإنتاجية وركود الأجور المتوسّطة في الولايات المتّحدة، ولا يمكن أيضاً لارتفاع الإنتاجية أن يفسّر الزيادة الهائلة في رواتب الرؤساء التنفيذيين. ففي الولايات المتّحدة ارتفع التفاوت بين رواتب الرؤساء التنفيذيين وراتب العامل العادي في أفضل 350 شركة من 20:1 عام 1965 إلى 312:1 عام 2017. وفي الواقع، خلص باحثو صندوق النقد الدولي الذين أجروا مسحاً لـ20 اقتصاداً صناعياً، إلى أن 40% من الزيادة في عدم المساواة بين أعلى سلّم الدخل وأسفله بين عامي 1980 و2010 نتجت من تراجع كتلة النقابات.
وكان «الاعتدال الكبير» في ارتفاع الأجور والأسعار في أعقاب صدمات أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي السبب الرئيسي في ضعف النقابات العمّالية وتفكّك المساومة الجماعية، ولا سيما في العالم الإنكليزي - الأميركي في ظلّ كينزية إدارتي ريغان وتاتشر. ووفقاً لروبرت سكيدلسكي، فإن «سياسة الاقتصاد الكلّي ستضمن النمو والعمالة الكاملة في حال تم التخلّي عن النقابات القويّة وإعادة فرض الضرائب التي من شأنها أن تكفل تقاسم ثمار النمو بشكل عادل». وكان التأثير على عدم المساواة في الدخل، مع فصل الأجور المتوسّطة عن الإنتاجية في الولايات المتّحدة وركود الأجور في المملكة المتّحدة، يعني أن ما سمّته منظّمة العمل الدولية «أزمة قبل الأزمة» - انعدام المساواة - زاد من الهشاشة الاجتماعية التي شهدت تحوّل الانهيار عام 2008 إلى «الركود الكبير».

الأوساط العمّالية
من هنا، جاء ردّ الفعل الغاضب المتأخّر في البداية في الأوساط العمالية، وهي مناطق الطبقة العاملة التقليدية في إنكلترا وويلز وفي ولايات البحيرات العظمى في الولايات المتّحدة. ولكن مع إضعاف مؤسّسات النقابات الوسيطة، تم تمهيد الطريق أمام ردود شعبوية مدمّرة: انتخاب ترامب والتصويت لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقد بحثت دراسة للمكتب الوطني الأميركي للشؤون الاقتصادية أثر قوانين «حق العمل» (المضادّة للنقابات) على خيارات الناخبين والنشاط السياسي في الولايات المتّحدة بين عامي 1980 و2016، وتبيّن أنها خفّضت حصص الديموقراطيين من الأصوات في الانتخابات الرئاسية بنسبة 3.5%، مع انخفاض مساهمات حملة العمالة المنظّمة لمصلحة الديموقراطيين والتواصل مع الناخبين الديموقراطيين المحتملين في الولايات التي تعتمد قوانين «حق العمل». علاوة على ذلك، تراجع عدد المرشّحين من الطبقة العاملة في الهيئات التشريعية في الولايات وفي الكونغرس.
في الانتخابات الرئاسية، فاز ترامب في ولايتي ويسكونسن وميشيغان اللتين صوّتتا في السابق لمصلحة الديموقراطيين. فمن عام 2008، عند انتخاب باراك أوباما وحتى عام 2016، انخفض حجم النقابات في ميشيغان من 18.8 إلى 14.4% وفي ولاية ويسكونسن من 15.0 إلى 8.1%. واعتمدت ثلاث ولايات من ولايات البحيرات العظمى قوانين «حق العمل» بحلول انتخابات عام 2016. وفي ولاية متأرجحة أخرى وهي ولاية بنسلفانيا التي تحوّلت إلى تأييد ترامب، انخفض حجم النقابات من 15.4 إلى 12.1%.
كان التفاوت في الدخل أقل وضوحاً في فرنسا على مدى الأعوام الثلاثين الماضية. وبالنسبة إلى المقياس الشائع لعدم المساواة، فإنّ «معامل جيني» (الذي يتراوح من صفر إلى 1 كحدّ أقصى)، يقف عند 0.29 في فرنسا، وهو أعلى من بلدان الشمال الأوروبي، لكنّه أقل من المتوسّط في بلدان منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبعيد كل البعد من المستوى الأميركي البالغ 0.4. في انتخابات عام 2017 الرئاسية، بدت فرنسا بانتخابها إيمانويل ماكرون تبتعد عن الشعوبية. ولكن بقيت المداخيل الحقيقية الدنيا والمتوسّطة، في حالة ركود في السنوات الأخيرة، في حين ارتفعت مداخيل كبار الكَسبة بشكل ملحوظ. وارتفعت حصّة الـ1% الأغنى من الدخل قبل الاقتطاع الضريبي، من أقل من 8% عام 1983 إلى 10 و12% بين عامي 2008 و2013.

«السترات الصفر»
بعد 18 شهراً من الانتخابات، واجهت فرنسا احتجاجات عنيفة. فقد نزل مئات الآلاف من المحتجّين الذين يرتدون سترات صفراً إلى الشوارع وسدّوا المئات منها، كما أقفلوا المداخل إلى المصافي ومراكز التسوّق. وكانت شرارتها خطط زيادة ضريبة الوقود، وهي جزء من خطّة الحكومة الخاصّة بالتحوّل إلى اقتصاد منخفض الكربون. لكن المحتجّين كانوا مدفوعين في الواقع بما يرون أنه ركود في القدرة الشرائية الضعيفة للأسر ذات الدخل المنخفض.
وأدّى قرار الحكومة إلغاء الضريبة على الثروة، إلى جانب نزعة ماكرون الاستهلاكية الواضحة وأسلوبه النخبوي، إلى تأجيج الغضب منه بوصفه «رئيس الأغنياء». وعلى الرغم من أعمال العنف وتسلّل اليمين المتطرّف والتكاليف المتزايدة للاحتجاجات، إلاّ أنها حصلت على دعم نحو 70% من السكّان. وأجبرت الحكومة على تعليق الزيادة على ضريبة الوقود وسعت إلى فتح حوار مع المحتجين. ولكن هذه المحاولة بدت مرتبكة وعاجزة، نظراً إلى الطبيعة غير المنظّمة للاحتجاجات.
في الماضي، كانت النقابات العمّالية الفرنسية قادرة على التفاوض على نتائج الاحتجاجات، كما حدث عام 1996 عقب تظاهرات ضخمة ضد إصلاح نظام التقاعد. غير أن الحكومة رفضت المقترحات النقابية عام 2018 للحوار حول التدابير الاجتماعية المصاحبة للانتقال المناخي. ولم تتراجع الحكومة عن رفضها سوى مع تفاقم الأزمة، حيث سعت متأخّرة إلى دعوة ممثّلي النقابات العمّالية وأصحاب العمل إلى الحوار.
وعلى الرغم من خصوصية الوضع الفرنسي، نشر الاتحاد الدولي للنقابات في كانون الأول/ ديسمبر استطلاعاً شمل 14 بلداً أجريت فيه مقابلات مع نحو 15 ألف عامل. وقال 59% منهم إنهم بالكاد يحقّقون الكفاية المالية أو يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم أو لا يحقّقون الكفاية على الإطلاق، وغالباً ما لا يستطيعون تلبية حاجاتهم الأساسية أو يرزحون تحت الدين. ويعتقد واحد من كلّ أربعة تقريباً (23%) أن عملهم غير مستقر، و32% فقط من الذين قالوا إنهم بالكاد يحقّقون الكفاية المالية أو يكافحون أو يرزحون تحت الدين، يعتقدون أن صوتهم مهمّ في السياسة.
ومن سمات الاضطرابات في فرنسا، الموجودة أيضاً في ردود الفعل الأميركية والبريطانية، كانت عدم التسامح المتزايد مع عدم المساواة المكانية. ففي فرنسا، ركّز أصحاب السترات الصفر في البداية على الاعتماد على السيّارات الخاصة في المناطق غير الحضرية وارتفاع تكاليف الوقود؛ 18 مليون شخص - أي نحو 30% من سكّان فرنسا - لا يمكنهم الوصول إلى وسائل النقل العام. وفي ظل هذه الظروف، تترجم الزيادة في تكلفة الوقود إلى انخفاض في الدخل الحقيقي وليس تحوّلاً في الاستهلاك بعيداً من الهيدروكربونات. كما أن العزلة النسبية وتراجع الخدمات العامّة في المناطق غير الحضرية، انعكس أيضاً نموّاً في الشعوبية اليمينية، فقد بيّن استطلاع أجري عام 2016 وجود علاقة آنذاك بين المسافة إلى مكاتب البريد والتصويت للجبهة الوطنية. وفي الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في ذلك العام، كانت الأصوات المؤيّدة للخروج في شمال وغرب إنكلترا وويلز، في مقابل الأصوات المعارضة في لندن ومدن أخرى، تعكس الاستياء من التجمّعات الحضرية التي ينظر إليها على أنها تستفيد كثيراً من العولمة.

النقابات العمّالية
قدم الراحل أنتوني أتكنسون 15 مقترحاً لتقليص عدم المساواة، سعت إلى إقامة توازن قوى أكثر ملاءمة بين العمل ورأس المال، تصاحبه ضرائب تصاعدية لمساعدة الشرائح الدنيا في سلّم توزيع الدخل. وتضمّنت المقترحات تمثيلاً نقابياً للعمّال لإعادة ربط نمو الإنتاجية بالدخل.
ويعتبر تراجع تأثير المؤسّسات الوسيطة، ولا سيّما النقابات، بدءاً من عام 1980 عاملاً مهمّاً في تفسير ارتفاع عدم المساواة في بلدان عدّة، وما يصاحب ذلك من انفجار للغضب الشعبي. لذلك فإن (إعادة) بناء اتفاق اجتماعي يجب أن يبدأ بمؤسّسات وسيطة محفّزة بدلاً من السعي إلى تقليلها أو حتى تدميرها.

* زميل زائر في جامعة غرينتش، وزائر أكاديمي في كلية سانت بيتر في جامعة أكسفورد

* Social Europe
* ترجمة: لمياء الساحلي