أقل من 1% من الحائزين الزراعيين يمتلكون 22% من مجمل المساحات المزروعة، وهم يستحوذون على مساحات أكثر من تلك التي يمتلكها نحو 70% من الحائزين والتي تشكّل 18% فقط من مجمل المساحات المزروعة. أكثر من ذلك، تزيد مساحة الحيازة الزراعية الواحدة التي يستحوذ عليها كلٌّ من هؤلاء الـ1% على 20 هكتاراً، فيما لا تزيد مساحة الحيازة الزراعية الواحدة التي يمتلكها الـ70% الأخرين على هكتار واحد.هذا التوزّع المتفاوت جدّاً للحيازات الزراعية وتركّز المساحات الكبرى منها في أيدي القلّة القليلة، تعرضه دراسة «ماكينزي» الصادرة أخيراً تحت عنوان «الرؤية الاقتصادية للبنان»، وتستند فيه إلى الأرقام التي حصلت عليها من وزارة الزراعة. تُدرج «ماكنزي» هذه التفاوتات الكبيرة في توزّع الأراضي الزراعية ضمن المعوّقات الهيكلية والرئيسة التي تحول دون تطوّر القطاع الزراعي في لبنان، نظراً إلى انعدام إمكانية الغالبية العظمى من المزارعين لإنتاج كمّيات كبيرة من المحاصيل في حيازاتهم الصغيرة التي تقلّ عن هكتار واحد، وبالتالي زيادة دخلهم المتولّد من العمل في الزراعة بما يؤمّن لهم ولعائلاتهم العيش الكريم.
يمتلك لبنان مساحة واسعة ومنوّعة من الأراضي الزراعية، وهي تشكّل 63% من مجمل مساحته (نحو 658 ألف هكتار، أي 6580 كلم2)، إلّا أن 22% فقط منها (231 ألف هكتار) مزروعة بالمحاصيل، وهي تتوزّع على نحو 169.5 ألف حائز زراعي وفقاً لبيانات وزارة الزراعة، بمعدّل 1.4 هكتار للحيازة الواحدة، وهي تختلف من منطقة إلى أخرى بحيث تراوح بين 0.7 هكتار في جبل لبنان، وصولاً إلى 3 هكتارات في البقاع.

في الواقع، يمتلك 70% من الحائزين الزراعين (118.865) حيازات تقلّ مساحتها عن الهكتار الواحد، وهي تشكّل 18% من مجمل المساحات المزروعة. فيما 26% منهم (44.658 حائزاً) يمتلكون حيازات زراعية تراوح بين هكتار واحد و6 هكتارات، وهي تشكّل 40% من مجمل المساحات المزروعة. ما يعني أن 96% من مجمل الحيازات تقلّ عن 6 هكتارات وهي تشكّل 58% من مجمل المساحات المزروعة. وكلّما تدرّجنا نحو أعلى هرم توزّع الحيازات يظهر التركّز أكثر وأكثر، بحيث يقلّ عدد المستأثرين بالحيازات الأكثر اتساعاً والتي تستحوذ على النسبة الأكبر من المساحات المزروعة، إذ إن 3% (4.866 حائزاً) يستحوذون على حيازات تراوح بين 6 و20 هكتاراً، وهي تشكّل 20% من المساحات المزروعة، أي ما يقارب المساحة التي يمتلكها الـ70% من الحائزين الأصغر. فيما 0.5% فقط من الحائزين أي 835 شخصاً لديهم حيازات تراوح مساحتها بين 20 و50 هكتاراً وتشكّل 10% من مجمل المساحات المزروعة. وفقط 0.1% أي 288 حائزاً يستحوذون على حيازات أكبر من 50 هكتاراً، وهي تشكّل 12% من مجمل المساحات المزروعة.
يترجم هذا التركّز الشديد في الحيازات والمساحات الزراعية بتراجع القطاع الزراعي، لكون الحيازات الصغيرة تحدّ الإنتاجية وبالتالي القدرة على التصدير، في حين أن المصدّرين يبحثون عن مزارعين لديهم حجم إنتاج مُعتبر. وهو ما يعبّر عنه عملياً بتخلّي الكثير من المزارعين عن العمل في أراضيهم وبيعها وهجرة الريف نحو المدينة بحثاً عن فرص أخرى للعمل، بحيث تفيد بيانات الأمم المتّحدة عن تراجع عدد سكّان الريف اللبناني من 68% إلى 11% بين عامي 1950 و2018، فيما يزيد متوسّط أعمار الحائزين الزراعيين على 55 عاماً، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع سنّ العاملين في هذا القطاع، بالإضافة إلى ركود نموّ هذا القطاع وتراجع مساهمته في الاقتصاد الوطني إلى نحو 1.5 مليار دولار، أي ما يشكّل 3% فقط من مجمل الناتج المحلّي الإجمالي، فضلاً عن التحوّل تدرّجياً من زراعة المحاصيل للاستهلاك المحلّي إلى استيراد أكثر من 80% من مجمل ما نأكل.


تبيّن الخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية أن «الأراضي الزراعية تتركّز في بعض المناطق المهمّة التي تشكّل ثلث مساحة لبنان، وهي مناطق أحصيت جغرافياً ونظّمت في الخرائط وتضمّ كلّ السهول الفسيحة (البقاع وعكار والكورة) والسهول الساحلية الصغيرة والسهل الساحلي الكبير في صورة والصرفند وصيدا وسهل مرجعيون، وتضمّ أيضاً الأراضي الخصبة في الشوف الأعلى وممرّات حاصبيا وراشيا والمناطق المنخفضة في جنوب لبنان ومنطقة البساتين الجبلية في أعالي جبل لبنان». فيما يشير رئيس جمعية المزارعين أنطوان الحويك، إلى أن «الغالبية العظمى من الحيازات الكبيرة المساحة مملوكة بغالبيتها من الإقطاعيين والأديرة والأوقاف، فضلاً عن وجود نسبة لا بأس بها من المشاعات».
على الرغم من هذا الواقع الذي يشكّل عقبة هيكلية في تطوير قطاع الزراعة، إلّا أنه واقع قابل للتصحيح. يتحدّث الاقتصادي عباس رمضان عن مجموعة من الحلول للتصدّي لتركّز الحيازات وآثارها على القطاع الزراعي، تنطلق من «العمل على تفعيل نظام التعاونيات الذي لم ينجح سابقاً في لبنان نتيجة غياب ثقافة التعاون التي يوفّرها هذا النظام، بحيث بات ثلث هذه التعاونيات فعّالاً فقط نتيجة تحوّلها إلى آلية لتلقي المساعدات والدعم من دون العمل على تطوير العمل في هذا القطاع. عملياً تشكّل التعاونيات تجمّعاً لصغار المزارعين والحيازات الصغيرة، وهي تزيد من قوّتهم التفاوضية وقدراتهم الإنتاجية، بما يؤدّي إلى زيادة كمّيات الإنتاج والسماح لهؤلاء المزارعين بطرح أنفسهم بشكل أقوى لتخفيض كلفة الإنتاج المترتبة عليهم، سواء عبر استعمال الآلات والمعدّات نفسها، أو الحصول على عروض أفضل من مورّدي البذور والأسمدة التي تستحوذ على حصّة كبيرة من كلفة الإنتاج، وفتح أسواق جديدة وتوسيعها وتنظيم عمليات ما بعد الحصاد، بما فيها التخزين والتحويل الزراعي، وتحسين نوعية المحاصيل وسلامتها وتنظيم برامج مساعدات تقنية. وكلّ ذلك يصبّ في مصلحتهم في مواجهة كبّار ملّاك الأراضي والمزارعين».

إلّا أن المشكلة لا تكمن بتجميع المزارعين الصغار وتحويلهم إلى قوّة أكبر، وفق رمضان، بل تقتضي أيضاً «إنشاء مصرف زراعي لإقراض المزارعين بشروط ميسّرة وفوائد متدنية للتمكّن من شراء البذور والأدوية الزراعية التي يحصلون عليها راهناً من شركات خاصّة بالدَّين لقاء فوائد عالية تؤدّي إلى تآكل كلّ ربحيتهم. بالإضافة إلى ذلك، تشكيل مؤسّسة الضمان من المخاطر التي تخفّف الكلفة على المزارعين الصغار أيضاً في حال تعرُّض مواسمهم للضرر أو التلف جرّاء العوامل الطبيعية، والأهمّ نقل القطاع إلى مرحلة إنتاجية مختلفة وأكثر تطوّراً عبر استعمال التقنيات الحديثة التي تزيد إنتاجية الأرض والاستفادة من البحوث لتطوير المحاصيل وتنويعها».